الأخبار

بالصور:97 عامًا على ميلاد «ناصر» ملهم الثورات العربية

جمال عبد الناصر

 

ليست مصادفة أبدًا أن تتبنَّى ثورات الربيع العربى، التى اجتاحت المنطقة منذ مطلع عام 2011، نفس شعارات ومبادئ وربما نهج الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.

مطالب العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، والتحلل من التبعية الأجنبية ، لم تكن فقط صرخة مدوية فى وجه حكام الاستبداد فى تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا، قبل أربع سنوات، وإنما أيضًا أقرب إلى استدعاء جلى لمشروع تحرر شامل على نمط مشروع قائد ثورة يوليو 1952، على كل الأصعدة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. بينما كانت الانتفاضة المدوية تجاه الحكم الكهنوتى للإخوان، خصوصًا فى بلد النيل، تصديقًا متأخرًا لرؤية الرجل الثاقبة، بشأن خطر تجار الدين على حياة الشعوب.

سنوات الثورات رُدت إذن، بكل تفاصيلها وتعقيداتها إلى ملهمها الأكبر، ولو لم يقصد صناعها ذلك.. عادت إلى عبد الناصر، الذى تمر اليوم ذكراه السابعة والتسعين على ميلاده.. عادت إلى مَن اعتبر قضية التحرر حقًّا عالميًّا لا مصريًّا فحسب، وضمانة وحيدة ربما لسلام الشعوب قاطبة.

عبد الناصر والحالة الثورية المصرية

إن استحضار عبد الناصر ومشروعه يبدو فى الحالة المصرية عقب 25 يناير 2011، خصوصًا بعد الإطاحة بحكم الإخوان والأهل والعشيرة، واضحًا بشدة.. الدولة تستلهم استراتيجية انتفاضتها على سنوات الفساد والاستبداد والرجعية والتخلف الاقتصادى على وجه التحديد، من نمط المشروعات الكبرى التى خلّدت اسم زعيم يوليو فى الذهنية الجمعية للمصريين، جيلاً بعد آخر.. مشروعات من قبيل قناة السويس الجديدة، ومحور تنمية القناة، والمشروع العالمى لتخزين الغلال (فى حال إتمامه)، واستصلاح أربعة ملايين فدان، والمشروع القوى للطرق، وغيرها، لا يمكن اعتبارها إلا امتدادًا لمشروعات السد العالى، ومصانع الحديد والصلب، فضلاً عن قرارات الإصلاح الزراعى واستكمال وتعميم مجانية التعليم، وما شابهها من خطط التكافل الاجتماعى، إن جاز التعبير.

صحيح أن الدولة المصرية حاليًّا، لا تنتهج خططًا ثورية مباشرة لتقليل الفجوة بين الطبقات، كما فعلت اشتراكية عبد الناصر والضباط الأحرار، إلا أنها وفى المقابل تسير بإجراءات جريئة، ومكلفة سياسيًّا وربما شعبيًّا أيضًا، فى ما يخص إعادة هيكلة الدعم والمساعدات الحكومية، بما يضمن وصولها حقًّا إلى مستحقيها فى نهاية المطاف.

حتى المواجهة الشرسة مع الجماعات الدينية وما تنطوى عليه من فقه الخيمة والصحراء المعتم، يكاد يكون متطابقًا بين حقبتَى الستينيات وما بعد إسقاط الإخوان. الدولة المصرية فى الحالتين تتصدَّى، وإن لم تكن بحرفية أو بتبنى حلول غير أمنية على طول الخط، لخطر الإرهاب والعنف الفكرى والمسلح، بشراسة متشابهة إلى حد كبير.

من المفارقات أن التشابه بين سنوات عبد الناصر وما تمر به مصر حاليًّا، تجسَّد أيضًا فى استمرار نكسات حرية التعبير والرأى على نحو ما، وفى عدم الرغبة أو القدرة ربما على إحداث تحول حقيقى نحو ديمقراطية سليمة وحياة تعددية ناضجة، بعيدًا عن تدخلات أصابع الدولة البوليسية.

الزعامة والشعبية بين قائد يوليو والسيسي

بينما تظل ذروة استدعاء الحالة الناصرية فى مصر عصر الثورات، فى الشعبية الطاغية التى يتمتع بها رأس الدولة فى المرحلتين، وكذا فى حالة الكراهية التى أحيط بها من جانب أعدائه.

الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى لم تتردد أصوات مصرية وغير مصرية، فى اعتباره خليفة عبد الناصر، أشار بطريقة مباشرة إلى صلب تأثره بالزعيم، فى معرض حديث عابر له عن الأخير إبان حملته الانتخابية، حين قال نصًا الرئيس جمال عبد الناصر قدم الكثير للإنسانية، ومصر خلال فترة الستينيات من القرن الماضى كانت تتحرَّك بمستويات غير مسبوقة، ولولا حرب 1967، لكانت اليوم فى مصاف الدول المتقدمة .

عبد الحكيم عبد الناصر نجل الزعيم الراحل، قال صراحة فى هذا الشأن الشعب اليوم يبنى مستقبلاً جديدًا مستلهمًا نفس الثوابت التى عاش ومات من أجلها عبد الناصر، كما أن الرئيس عبد الفتاح السيسى، يواصل ما كان قد بدأه عبد الناصر من مشاريع تحقق العدالة الاجتماعية، وما يساعد فى بناء مصر القوية الحديثة .

السيسى إذن وضع يده على قلب تأثير عبد الناصر الممتد عبر عقود. الانحياز إلى الإنسانية وامتلاك المشروع الوطنى الجامع، ذلك ربما أهم من استلهام خطط واستراتيجيات زعيم يوليو السياسية والاقتصادية، ذلك هو سر طغيان تأثيره حتى على شعوب لم تعايشه. ذلك الذى جعل شعوب العالم العربى الغاضبة، الثائرة بعد سنوات طويلة من الغفوة، تلجأ إلى كتالوجه بالفطرة، حتى من دون أن تدرى. كل الشعارات التى خلعت بن علِى ومبارك وعلِى عبد الله صالح ومعمر القذافى، إنما تستقى قيمها من مفكرة ناصر عن الحرية والتحرر، ناهيك بالشعوب المخلصة للحالة الناصرية، والتى ناضلت عقودًا طويلة من أجل ترسيخها، بنوع من التصرُّف الضرورى حتى تتواكب وروح العصر، كما هى الحال فى غالبية دول أمريكا اللاتينية.

 

إفريقيا.. واحة نضال الثورة

وإذا كان استيعاب الفكر الناصرى الداعم للتحرر قد احتاج إلى سنوات عدة ليتبلور على أرض الواقع فى أمريكا اللاتينية، فإن تأثيره المباشر كان فى إفريقيا والوطن العربى، سواء فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، أو فى ما بعد فى سنوات ثورات الربيع العربى، فالمتتبع لحركة النضال فى القارة السمراء يجد أصداء ونتائج هذا الدعم غير المحدود من أول ثورة تحررية يشهدها القرن العشرون فى ما قدم على سبيل المثال لدولة الكونغو من أجل الحفاظ على وحدتها ضد الانفصاليين وأعوانهم من البلجيكيين.

ما إن تكشَّفت المؤامرة الاستعمارية لتقسيم الكونغو حتى بادر الرئيس جمال عبد الناصر بالاتصال بالرئيس الغانى كوامى نكروما، والرئيس الغينى أحمد الشيخ تورى، لمواجهة هذا التدخُّل.. وحين ساءه ما فعله الانفصالى مويسى تشومى من تنفيذ لمخطط تقسيم البلاد أرسل إليه برقية فى أغسطس 1960، يقول له فيها إن تفتيت الكونغو لن يفيد سوى الاستعمار الطامع فى ثرواته .

وكتأكيد حرص ثورة يوليو على هذا البلد الإفريقى وافقت فى اليوم التالى على طلب تقدم به (همرشولد) الأمين العام للأمم المتحدة، باشتراك كتيبة عربية ضمن قوات الأمم المتحدة الذاهبة للكونغو. ولكن ولما أحسَّت حكومة الثورة بتواطؤ ممثل الأمم المتحدة مع القوى الاستعمارية قبل نهاية العام، سحبت كتيبة المظلات التى أرسلتها إلى هناك احتجاجًا على الانحياز ضد السلطة الشرعية التى يمثلها الرئيس الكونغوى باتريس لومومبا المدعوم من القاهرة والدول الإفريقية.

وامتدادًا لنفس الخط التحررى، أعلنت حكومة يوليو فى العام ذاته أنها ستسلح جيش الصومال الوطنى. وبعدها بعام آخر أعلنت القاهرة وبكل شجاعة للعالم أن الولايات المتحدة مسؤولة قبل غيرها عن جريمة اغتيال لومومبا.. واقترحت بالاشتراك مع ليبيريا وسيلان استخدام القوة لوقف الحرب الأهلية المندلعة فى الكونغو وقد نجحت الدول الثلاث فى استصدار قرار بذلك من مجلس الأمن.

دور الثورة المصرية وقائدها عبد الناصر فى دعم التحرر تجسد كذلك فى موقفها من نظام التمييز العنصرى فى جنوب إفريقيا الذى قاطعته القاهرة منذ عام 1961، بسبب سياسته العنصرية ضد الإفريقيين. ولا ينسى أحد فى هذا الصدد زيارة نيلسون مانديلا للقاهرة عام 1960، ليرى بأم عينه مصر الحرية. كما قطعت القاهرة علاقاتها الدبلوماسية أيضًا مع حكومة البرتغال فى الحادى والثلاثين من يوليو 1963، تنفيذًا لقرارات مؤتمر القمة الإفريقى الرافض لحربها الاستعمارية فى غرب القارة السمراء.

العربى المخلص

وانعكاسًا لنفس الدور كان جمال عبد الناصر أعلن فى عام 1960 فى يوم الاحتفال بثورة الجزائر بالقاهرة، أن مساندة مصر لشعب الجزائر لا تقف عند حد. وفى اعتراف صريح من جى موليه رئيس وزراء فرنسا إبان العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 وما بعده، قال بوضوح لو سقط عبد الناصر، فسوف تنتهى حرب الجزائر فى 24 ساعة، ونحن نعتقد أنه لولا عبد الناصر لما اضطررنا لأن نمنح مراكش استقلالها، ولا أن نمنح تونس استقلالها . هكذا قال رئيس وزراء فرنسا آنذاك.

أما بالنسبة إلى ليبيا، فقد طالب عبد الناصر عام 1964 بتصفية القواعد الأجنبية فيها. وأعلن فى خطابه فى مجلس الأمة المصرى فى 6-11-1969: إن حيوية الأمة العربية.. رجالها ونسائها، شبابها وأطفالها، تضغط تلقائيًّا وتحدث بقوة التطور ذاته معجزات هائلة.. ويكفى أن نتمثّل معنى قيام ونجاح الثورة فى ليبيا، وأن نتذكر مشاعرنا عندما صدر البيان الأول بقيام الجمهورية العربية الليبية. وليس دليلاً على حيوية الأمة العربية مثل هذا القياس، وأن الإصرار على الاشتراك فى معركة المصير كانت أقوى الأسباب التى حرَّكت الأخ العقيد معمر القذافى ورفاقه الأبطال من أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى مخاطرة عظيمة كان قبولها عملاً من أشرف الأعمال وأنبلها، وجاء نجاحها ضربًا من المعجزات.

هكذا كان ناصر وكانت ثورة يوليو مقدامة لنصرة قضايا التحرر وأحد الروافد الرئيسية للحركات النضالية وللثورات حول العالم عبر السنين والعقود المتوالية. ومن ثَمَّ فهما بحق رقم صعب فى مجمل القضايا الدولية وتحولاتها حتى وقتنا هذا. ويبقى دور عبد الناصر فى تفعيل قوة دول عدم الانحياز، مع قادة عظام آخرين أمثال جواهر لال نهرو، وجوزيف بروز تيتو، وغيرهما، شهادة تاريخية على حلمه بتجنُّب الحروب، الحية منها والباردة أيضًا، وذلك بخلق توازن بين كل دول العالم دون تصنيف أو تمييز، وعلى قاعدة من ضمان الحرية للجميع. والآن يتجدَّد حلمه بالحرية أيضًا، ولو كان من قبره، بنضال الشعوب العربية الصعب من أجل الحفاظ على كرامتها وإنسانيتها وفرصتها فى حياة كريمة.

التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى