الأخبار

ابتزاز إبراهيم محلب

33

 

 

من المثقف.. وهل يجب أن يكون بالضرورة روائيًّا أو مخرجًا أو ناشرًا ليصبح وزيرًا للثقافة؟!

 

الوزارات فى النظم الديمقراطية حقائب سياسية.. والأصل فى الاختيار هو الرؤية السياسية والإدارة ونزاهة اليد

 

«فى بلداننا السياسة كالرمال الناعمة، إما أن تركبها أو أن تغرق فيها»، هكذا كتب الأديب علاء الديب فى كتابه «وقفة قبل المنحدر، خواطر على هامش سيرة ذاتية»، فى كتاب صغير الحجم عظيم القيمة، كلمات صادقة وإن بدت محبطة بعض الشىء.

 

ما زلت معنيا بتلك الجملة وأفكر فى ما ورد فيها من تضاد! هل السياسة فى مصر هكذا؟ هل نحن مجبرون على الاختيار بين ركوبها أو الغرق فيها؟ الركوب معروف وسيلته، لكن كيف من الممكن أن يغرق السياسيون؟ ربما بأن يكونوا أسرى لإحباطاتها فيكفوا عن أداء دورهم، أو أن يستسلموا لرؤية أحادية منغلقة، أو أن يكونوا أعضاء لمجتمعات سياسية صغيرة قائمة على مبدأ الطوائف، أو أن يعتادوا الصخب والبطولات الزائفة وأن يستسلموا للذاتية.. أذكر نفسى جيدا بتلك العبارة كجرس إنذار على أمل أن أكون من الناجين.

 

ولكن هل هناك كثير من النماذج التى صمدت فى مواجهة ثنائية الاختيار التعسة تلك، الركوب أو الغرق؟ فحافظت على نفسها بعيدا عن أمراض النخبة، وهو اختيار صعب جدا فى حد ذاته؟ الإجابة نعم ولكنهم قلة من بينهم هذا الشخص المستهدف بالمقالة، بعد أن وقع عليه الاختيار وزيرا للثقافة فى حكومة إبراهيم محلب الجديدة، إنه أسامة الغزالى حرب.

 

هنا لن أناقش ملابسات تشكيل الحكومة أو تقييم رئيسها، أو أخوض كثيرا فى نقاش دار حول اختيار أسامة الغزالى حرب وزيرا للثقافة؛ ما بين تفضيلات بأن يكون الوزير هو أحد أبناء الوسط الثقافى نفسه «وهنا لدينا محل خلاف كبير حول تعريف من المثقف.. وهل يجب أن يكون بالضرورة روائيا أو مخرجا أو ناشرا؟!»، أو بالأخذ بالمبدأ القائل إن الوزارات فى النظم الديمقراطية هى حقائب سياسية، وبالتالى فكرة التخصص هنا فكرة قد يراها البعض بالية أو ليست مناسبة دائما، فالأصل هو الرؤية السياسية العامة، والقدرة على الإدارة، بالإضافة إلى معايير أخرى أهمها نزاهة اليد أو هكذا اعتاد أن يطالب أبناء التيار الديمقراطى فى مصر منذ سنوات، مستشهدا بتجارب مصرية ليبرالية سابقة أو تجارب دولية يأتى فيها وزراء الداخلية والدفاع من خلفية ليست عسكرية بالضرورة.

 

مجددا لست معنيا بهذا النقاش بل معنى بالجزء السلبى فيه، هذا الهجوم الذى انطلق من البعض على المرشح للمنصب، فما كان من رئيس الوزراء الجديد إلا أن تراجع تحت أجراس الابتزاز المعتاد، لقد اختلف بعضهم مع فكرة أن يتولى الغزالى حرب المنصب لكنه لم يكن خلافا سياسيا دائرا فى إطار نقاش المبدأين «المتخصص أم السياسى»، بل تحول الأمر إلى سيل من الاتهامات والتجريح، كأن هذا ما يحمله البعض فقط فى جعبته، ولم يتمرس سوى على فعله، حيث الحديث هو حديث تشويه واتهام وليس حديث أفكار وآليات ورؤى وتفاصيل. فى النهاية تراجع محلب عن اختياره رضوخا للابتزاز، وهى بداية لا أعرف إلى أى درجة هى مبشرة، أو تمثل تعبيرا عما قدم الرجل على أنه بديل له، «البديل غير المرتعش، وغير المهتز والحاسم»!! راقب جيدا ما بين الأقواس السابقة.. فى النهاية لست مستبشرا خيرا بالوزارة الجديدة لأسباب الغالب عليها سياسى. لكن ربما تناول الموضوع فرصة جيدة للتذكير بهذا الرجل الذى عرفته منذ عام 2007.

 

فى هذا الوقت تحديدا كان أسامة الغزالى حرب، أستاذ العلوم السياسية قد مر وقت على استقالته من أمانة السياسات بالحزب الوطنى، التى انضم إليها طامعا فى أن يمارس أكبر قدر من التأثير الإصلاحى الذى لو استجاب له مبارك وقتها لجنبنا كلفة باهظة دفعت وما زالت تدفع. وهنا دعنى أوضح لك أمرا هاما على الصعيد النظرى وهو مبدأ «الإصلاح» أى الدفع بالنظام نحو الطريق الديمقراطى من داخله، بأقل خسارة ممكنة تجنبا لعنف أو لنزيف اقتصادى أو تهديد لتماسك اجتماعى كعرض طبيعى من أعراض الثورات تتحملها مجتمعات ولا تتحملها أخرى.. على أى حال بذل أسامة الغزالى وقتها ما استطاع فى سبيل تنفيذ رؤيته الإصلاحية الليبرالية، ثم ترك ما عمل عليه معلنا أن هذا النظام لن يجدى معه شيئا، فالإصلاح شريطته أن يكون هناك ولو استعداد جزئى من قبل النظام القائم بقبوله، وهو ما وجد الرجل أن تحقيقه مستحيلا.

 

لقد استقال الغزالى حرب صاحب الخلفية الأكاديمية والتاريخ النزيه من أمانة السياسات، بعد أن أدى أفضل ما لديه، وأسس حزب الجبهة الديمقراطية كحزب معارض، وضم وقتها رموزا للعمل الوطنى «محمد غينم، سكينة فؤاد، سلوى سليمان، خالد قنديل» وغيرهم، بالإضافة إلى قطاع واسع من الشباب، وكان الحزب بمثابة مدرسة تشرفت بالانتماء إليها، وأنتجت تلك المدرسة مجموعة من الكوادر الذين قادوا الحراك السياسى الشبابى لاحقا، وصاروا معروفين لدى المتابعين للوضع السياسى.. لقد أعطى رئيس الحزب وقتها المساحة للجميع، للتجربة والخطأ، للفعل والتقييم والنقد الذاتى.. وأذكر كيف أنه كان يكلف الشباب بمهام قيادية تاركا المساحة لهم للتعلم، رافضا أن يخضع لنقد المسنين على هذا الفعل، حتى صرنا ما عليه الآن بإسهاماتنا المتواضعة، وأذكر حينما تم تأسيس الحزب يوم أن كلفنى -دون أن يعرف عنى سوى إشادة زملائى- بمقابلة أحد رجال الأعمال البارزين السكندريين الذين عرضوا عليه دعم الحزب ماديا، اتصل بى وأنا لم أتجاوز الـ21 عاما وقتها، وطلب منى أن أقابل هذا الشخص بنفسى، وأن أتخذ القرار المناسب بشأن عرضه.. وقد حدث وبدا رجل الأعمال مريبا بالنسبة لى، هذا ما قلته لرئيس الحزب، ومن ثم ودون أى إجراءات تالية كان القرار هو رفض الدعم المقدم بناء على تقييم شاب حديث العهد بالسياسة. مثال من بين أمثلة عدة ليس المجال متسعا لذكرها، وإن كان المهم الإشارة إليها.

 

استمر أسامة الغزالى فى طريقه، كان أول الداعمين للبرادعى، والحركات الاحتجاجية التى كان مقر الحزب مفتوحا أمامها بشكل دائم، وكان من مؤسسى الجمعية الوطنية للتغيير، رفض التعيين فى مجلس الشورى، وكان الحزب هو الأول فى 2010 وربما الوحيد الذى دعا إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية الهزلية وقتها، كان من أول الموجودين فى ميدان التحرير وحمل الميكروفون متحدثا للشباب داعيا إياهم للبقاء فى الميدان يوم الخامس والعشرين من يناير.. مسيرة حافلة ووطنية ومشرفة، رفض الرجل خلالها عروضا كثيرة، وكانت مواقفه واضحة لا تحتمل التأويل. فى النهاية ظل أسامة الغزالى حرب برؤيته ونبرته الهادئة ولا يزال رجلا رافضا للعمل بصخب أو الحديث عن الذات، أعرف كم هو فخور فى صمت بما صنعه.. فالرجل ولا يزال «لم يركب ولم يغرق».

 

الدستور الاصلى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى