الأخبار

عدلي منصور.. ابق فى بيتك

366

 

 

 

تحفل الحكمة الفارسية بالكثير من الأمثلة الموحية، التى تعكس خلاصة فكر حضارة عريقة؛ ومن بين تلك الأمثلة مثل يقول: «إذا دخلت مكاناً، فانظر كيف تخرج منه».

لا أعرف ما إذا كان الرئيس المنصرف المستشار عدلى منصور قرأ هذا المثل أو استمع إليه، لكننى متأكد أنه أدرك الحكمة التى ينطوى عليها، وعمل بها على النحو الأمثل.

لقد شاهدت الرئيس عدلى منصور واستمعت إليه بعقلى ووجدانى، حين كان يلقى كلمته النهائية كرئيس لجمهورية مصر العربية، مساء الأربعاء الماضى؛ وهى الكلمة التى ستدخله التاريخ، بوصفه صاحب أحد أرفع الخطابات السياسية مضموناً، وأتقنها سبكاً، وأرقاها لغة، وأكثرها إحساساً، وأرسخها يقيناً، وأعمقها عاطفة، وأنبلها مقصداً، وأصدقها تعبيراً، وأوضحها منطقاً.

ليس عدلى منصور رجلاً مصرياً شريفاً فقط، وليس وطنياً مخلصاً متيماً بحب بلاده فقط، وليس قاضياً عادلاً نزيهاً فقط، وليس رب أسرة عطوفاً وراعياً وحنوناً وكفى، ولكنه مع كل ذلك، تجسيد لأفضل خصال هذا الشعب، وتشخيص لأهم جيناته الحضارية، ودليل على نبل إنسانه، ونضوج حكمته، وتمام مزاياه، وتأكيد لقدرة هذا الإنسان على المجالدة والمثابرة، وقهر اليأس، ودحر الحظوظ السيئة، وتحقيق الإنجاز، وإدراك الغاية، دون تهليل أو صخب ينال من جلالها، ودون مباهاة أو زهو ينال من عفافه، ودون ترفع أو مَنٍّ يحط من شأن عطائه.

من أفضل ما فعله عدلى منصور فى منصبه الذى تولاه تكليفاً، دون أن ينادى أو يطلب، وثبت فيه راضياً وعاملاً ومنجزاً ومتحدياً، دون أن يرجف أو يهرف أو يتخلى أو ينكص، والذى تركه حباً ووفاءً، ورغبة فى النجاة من مغارمه ومفاداة إغراءاته، من أفضل ما فعله فى هذا المنصب أنه أعاد إليه الاعتبار بعدما «دنسه» مبارك، و«أهانه» مرسى.

لقد استعاد مقام رئاسة مصر هيبته مع عدلى منصور، الذى وضع كل من سيأتى بعده فى امتحان صعب وعلى محك خطير؛ لأن عليه أن يثبت أنه جدير بمقام أقام فيه يوماً زعيم خالد مثل جمال عبدالناصر، ومر عليه، يوماً، رجل «عابر»، قالوا عنه «الرئيس المؤقت عدلى منصور»؛ فصانه على النحو الأكمل، وأزال ما لحق به من إهانات، وأعاد إليه البريق والمكانة والثقة والاعتبار، وتركه زاهداً فيه، ومحترماً ومقدراً له فى آن.

كنت قد تابعت الرجل من بعيد ومن قريب، وعلمت ما يجعلنى متأكداً من نزاهته، وحكمته، وصبره، وفطنته، واعتداده، وقدرته، وثقته بالله وبالوطن وبالمصريين. ولطالما رغبت فى أن أعبر عن امتنانى، كمواطن مصرى، للدور الذى لعبه، فى ظروف صعبة وتقلبات وعرة، يمكن أن تربك أكثر الرجال تمرساً ومجالدة ومهارة، لكننى فضلت أن أنتظر حتى «يخرج من الامتحان» بالنتيجة النهائية من جانب، وحتى لا يتقاطع التقدير والثناء اللذان يستحقهما مع قدرته على المنح والمكافأة بوصفه رئيساً من جانب آخر؛ وهو أمر لا يجب ألا أن يتورط فيه المادح، كما أنه لا يليق بالممدوح.

سيظل عدلى منصور رمزاً وطنياً صادقاً ونبيلاً، كما سيظل مصدر إلهام لكل مصرى شريف، ودليلاً جديداً على عظمة هذا البلد وقدرته على البقاء حراً وسيداً وكريماً.

سيطلب كثيرون من عدلى منصور أن يعود للعب أدوار سياسية، بداعى الاستفادة من مناقبه وقدراته، التى برهن عليها، والتى نحتاج إليها بكل تأكيد.

لكننى سأطالبه بالذهاب بعيداً.. إلى أبعد ركن فى بيته البسيط العامر النظيف، وإلى أعلى سطر فى ذاكرة المصريين الجمعية، حيث يسجلون أسماء أشرف رجال الوطن، وعدم العودة إلى تقلبات السياسة مجدداً، لأننا فى حاجة إلى رموز وملهمين، أكثر من حاجتنا إلى ساسة.

 

الموجز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى