الأخبار

فتاوى مصادرة الأموال

32

 

بعد حالات المصادرة التي تعرضت لها بعض ممتلكات جماعة الإخوان المسلمين، وامتدت لأموال شخصية لأفرادها، خرجت أصوات محسوبة على العلم الشرعي من علماء الازهر لتصبغ هذا التصرف السياسي بامتياز بصبغة شرعية. وارتكزت آراء هؤلاء العلماء على مرتكز واحد فقط وهو ان هذه الجماعة مارست الإرهاب والقتل والتدمير ولذا وجب مصادرة اموالها وأموال المنتمين إليها.

وحاول بعضهم وهو د. عبد الله النجار أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية أن يكون اكثر دقة في فتواه فقال في مداخلة له على إحدى الفضائيات: إن الأموال المصادرة من الإخوان لم تعد حلالا لهم أو للدولة، إنما هي من حق الضحايا الذين سقطوا جراء العمليات الإرهابية، وعلى الدولة ضمان وصولها إليهم، حيث لا يجوز صرفها إلا في ذلك الشأن.

وإمعانا في الدقة الإفتائية قال عضو مجمع البحوث الإسلامية: ومن الضروري أن يتساوى كافة رجال الشرطة فى درجاتهم دون تفرقة بشأن التعويض المادي لهم.

ولم يوضح أستاذ الشريعة والقانون ولا غيره ممن تعرضوا بالفتوى في هذه الحالة ضوابط تلك المصادرة، ولا الحالات التي أباح فيها الفقه الإسلامي مصادرة ما يمتلكه الأفراد من مال او غيره، ولا انواع الاموال التي تجوز مصادرتها ، ولا الفلسفة التي تتمحور حولها حالات المصادرة، ولم يتعرض احد القانونيين كذلك لشرح نصوص القانون المعاصر والذي يجب ان تحتكم إليه مثل تلك الاحكام او التصرفات التنفيذية..

هذه الإطلالة معنية إذن ببيان جوانب شتى في هذا الموضوع من الناحية الفقهية، واستعراض لأهم فتاوى المصادرة وضوابطها، وطبيعة الاموال التي يمكن أن يجيز الفقه الإسلامية مصادرتها، وكذا فلسفة تلك المصادرة في الفقه الإسلامي.

ميثاق غليظ

البداية يجب ان تكون دوما التنبيه على الأصل، بمعنى أن يقوم المفتي ببيان حكم المال في الإسلام، وكيف اعتبره الشارع الحنيف احد الكليات الخمس التي يتوجب الحفاظ عليها بكل السبل، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

وقد عني الإسلام في غير موضع ببيان حرمة الحقوق الشخصية، خاصة المال على اعتبار أنه اود الحياة وعمودها، ومنتهى امل العاملين في الدنيا باعتباره وسيلة لتحصيل المتعة واللذة، والاستعانة به على الطاعة عند البعض.

ولذا يقول تعالى: “يا أيها الذين منوا لا تاكلوا اموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما، ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا..” ، ويقول صلى الله عليه وسلم: ” “من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة  ، فقال لـه رجـل: وإن كـان شيئـا يسيـرا يا رسول الله؟ قال: وإن قضيبا من أراك” ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الأشهر ” إن دماءكم واموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.”

هذا إذن ميثاق إسلامي غليظ يجعل من حرمة الحقوق الشخصية أقدس المقدسات، لا يمكن لأحد الافتئات عليها إلا بحقها، وطبقا لضوابط وشروط من أشد ما يمكن تصوره، وهذا ما يتضح في نتاجات الفقهاء على مر العصور.

التعزير بالمال

هذا الميثاق الغليظ إذن هو الأصل وأي خروج عليه يجب أن يرتكز على مرتكزات شرعية، ومنها باب التعزير بالمال، وهو باب جعل له الفقهاء شروطا وضوابط يحسن الوقوف عليها حتى لا توضع في غير موضعها.

أولا: هناك نصوص قال العلماء إنها كانت في اول الإسلام ثم نسخت بعد ذلك، منها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة  بخلاً لا إنكاراً لوجوبها: “إنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد صلى الله عليه وسلم منها شيء”، وقوله صلى الله عليه وسلم في سارق جرين الجبل: “فيه غرامة مثليه، وجلدات نكال”، وقضاؤه صلى الله عليه وسلم أن سلب من أخذ وهو يصيد في حرم المدينة لمن أخذه.

ثانيا:اختلف العلماء في جواز التعزير بالمال فجمهور الفقهاء، ومنهم: الحنفية والشافعية وأكثر الحنابلة- على أنه لا يجوز أخذ مال المسلم أو إتلافه أو إخراجه عن ملكه بالبيع عقوبة بلا سبب شرعي؛ معللين ذلك بأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد يُقتدى به ولأن المقصود بالعقوبة التأديب، والأدب لا يكون بالإتلاف.

وبعيدا عن اختلافات الفقهاء في حكم التعزير بالمال فإن الفلسفة التي قامت عليها إجازة ذلك عند من جوزه قائمة على التأديب والتهذيب لا على الإتلاف والمصادرة والحرمان.

فمثلا يعلل بعض الفقهاء ما ورد عن أبي يوسف من جواز التعزير بمصادرة الأموال قائلين إن معناه: إمساك شيء من ماله عنه مدة لينزجر، ثم يعيده له الحاكم، لا أن يأخذه الحاكم لنفسه، أو لبيت المال كما يتوهمه الظلمة، إذ لا يجوز لأحد من المسلمين أخذ مال أحد من المسلمين بغير سبب شرعي”، وقد قال ابن عابدين في (رد المحتار): “أرى أن يأخذها الحاكم فيمسكها، فإن يئس من توبته يصرفها على ما يراه” وقال: “والحاصل أن المذهب عدم التعزير بأخذ المال”.

ويؤكد على هذه المعاني ما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حالات شبيهة، كان مؤداها الدوران حول فلسفة التهذيب والتأديب والتربية التي يتولاها الحاكم لإصلاح الرعية، وليست محاولة للهيمنة والتسلط والإقصاء وتجفيف المنابع حسبما يقول البعض.

ومن ذلك أمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، وأخذ شطر مال مانع الزكاة ، وأمر عمر بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي بناه حتى يحتجب فيه عن الناس، وقد نفذ هذا الأمر محمد بن مسلمة رضي الله عنه”، ومنه أيضا ما روي عن مالك بن أنس أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض؛ أدباً لصاحبه..”، وهنا يجب ملاحظة مقولة مالك: ادبا لصاحبه.. وهي تعني أن الإتلاف غير مقصود على الإطلاق وإنما المقصود هو التأديب والزجر عن الوقوع في تلك المعصية مرة أخرى.

فلسفة التعزير إذن بعيدا عن اختلافات الفقهاء هي أصل المسألة، على اعتبار أن أحد ادوار ولي الأمر _وهو في عصرنا الحاضر مؤسسات الدولة القضائية وغيرها_ هي تقويم السلوك وتهذيب الطباع، وهذه في الأساس فلسفة العقوبات التعزيرية في الفقه الإسلامي.

فتاوى المصادرة

هناك مجموعة من الفتاوى تعرضت لهذا الأمر وبينت أنواع الأموال التي يجوز مصادرتها، ووضعت ضوابط لا تختلف كثيرا عما سبق بيانه في إنفاذ تلك العقوبة التي اعتبرتها تعزيرية بالأساس، وقائمة على تحقيق المصلحة العامة لا على الانتقام السياسي.

منها فتوى صادرة عن الشيخ الدكتور طاهر مهدي البليلي ،عضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، والتي تعر ض فيها لأهم نوع من انواع الأموال التي أوجب مصادرتها معتمدا على نصوص شرعية متحققة فيها، وهي اموال الحكام المستبدين..

وهنا ينبغي التأكيد على أن تعامل الفقيه التونسي مع المسألة كان بعيدا عن السياسة وإن ظهر من عنوانه انه يتعرض لرأس العملية السياسية وهو الحاكم المخلوع أو المعزول، لكنه وضع من الضوابط ما يؤكد أن التعامل تعاملا شرعيا منضبطا.

فمثلا يضع البليلي شرطا غاية في الانضباط الفقهي وهو ثبوت الإدانة، فيقول: على أنه يجب أن يحاكم هؤلاء إذا ثبتت إدانتهم بالأدلة والشهود، ولا يجوز التسامح فيها بعد ثبوتها حتى لا تبقى هناك ضغينة بين الناس تؤدي إلى الانتقام.

وهذا قمة العدل الفقهي القائم على قواعد العدالة الإنسانية، فلا عقاب إلا بعد ثبوت التهمة، حتى مع هؤلاء الحكام الذين اشتهر عنهم الفساد والإفساد، فالفقيه الحق لا يعرف إلا قواعد العدالة التي لا تؤثر فيها قرائن الشائعات.!

أيضا فإن التاكيد هنا على المحاكمة ووجوبها نابع بعد استيفاء شروطها من حرص على غرض شرعي اكبر وهو عدم انتشار الضغائن بين الناس مما يؤدي إلى الانتقام الشخصي من أصحاب المظالم لأنفسهم.

أيضا هناك فتويين صادرتين عن دار الافتاء السعودية، منها فتوي تحمل رقم 4012 حول حكم الرسوم الجمركية، وفتوي أخري تحمل رقم 8361 حول ” مصادرة أموال الميسر وإدخالها بيت المال.

والملاحظ في الفتوى الاولى أن دار الإفتاء السعودية جعلت‏ تحصيل الرسوم الجمركية على الواردات والصادرات من المكوس، مؤكدة أن المكوس حرام، والعمل بها حرام، ولو كانت مما يصرفها ولاة الأمور في المشروعات المختلفة، كبناء مرافق الدولة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أخذ المكوس، وتشديده فيه.. مستشهدة بحديث عبد الله بن بريدة عن أبيه في رجم الغامدية التي ولدت من الزنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ”  وبما رواه الحاكم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏” لا يدخل الجنة صاحب مكس”.

والأهم أن الدار اعتبرت مصادرة تلك الأموال ظلم وفاعله ظالم لأنه بحسب الفتوى  “يأخذ ما لا يستحق، ويعطيه لمن لا يستحق..” وفي هذا دليل على الضابط الأهم المتقدم وهو وجود دليل وليس شبهة على أحقية تلك المصادرة.

أما الفتوى الثانية فإنها تدخل فيما أسميناه سابقا التهذيب والتأديب والإصلاح وليس الإتلاف والإقصاء، حيث نصت الفتوى على وجوب مصادرة أموال الميسر وإدخالها في بيت مال المسلمين لتنفق في وجوه البر والمصالح العامة.

وعللت الفتوى قائلة: لما في ذلك من إنكار المنكر، وتأديب فاعليه، وزجرهم عنه، وردع أمثالهم.. ”

وفي النهاية فإن التعامل الفقهي مع مسالة كهذه يجب أن يرتكز على تلك الضوابط وهذه الفلسفة، وإلا خرج من عباءة الفقه ووضع تحت أي مسمى آخر يختاره صاحبه لا علاقة له بالشرع ولا بالشريعة.

 

 

 

 

مصر العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى