الأخبار

نجيب سرور.. معاناة “فارس آخر الزمان”

 

151

خط رفيع يفصل بين العبقرية والجنون، وهو الخط الذي وقف عليه الشاعر الكبير نجيب سرور، فأعطاه الظلم قوة استثنائية فهو الشاعر والمسرحي والمناضل، حيث كان الفن هو صديقه الوحيد، فعندما تصطدم مشاعر الفنان وأحاسيسه الراقية بواقع صعب ومؤلم تتحول فيه أحلامه إلى رماد، ويرى حياته تهوي أمامه تكون النتيجة “مأساة” نجيب سرور، التي أخذت قوى الظلام تتسلل إليه ببطء في مواجهة تلو الأخرى حتي قضت علي ثوريته المليئة بالحياة وعلى حماسته وتركته شابًا يصارع الموت بمستشفى الأمراض العقلية، فهو الذي حفر في طبقات الزيف والكذب ليصل إلى الحقيقة، التي احترق بنورها الساطع.

بدأت معاناة سرور منذ طفولته البريئة، عندما تعرض والده المزارع البسيط للضرب علي يد عمدة القرية، وكتب سطور تلك الحادثة في قصيدة بعنوان “الحذاء” في عام 1956، وأطلق على العمدة فيها اسم “الإله”، ليكتشف بعدها نجيب الفضاء الأكثر رحابة وتأثيرًا من خلال المسرح، ما جعله يترك دراسته الجامعية في كلية الحقوق قبل التخرج بقليل ويلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تخرج منه عام 1956، الذي أبدى من خلال دراسته بوادر عبقرية ما جعله ضمن بعثة حكومية لدراسة الإخراج المسرحي في الاتحاد السوفييتي عام 1958.

في الاتحاد السوفيتي، أعلن عن إيمانه بالشيوعية وميله للفكر الماركسي، كما شكل مجموعة باسم “الديمقراطيين المصريين” لإصدار البيانات واتخاذ المواقف المعادية للنظام الحاكم، واستغل ذات مرة فرصة انعقاد أحد المؤتمرات التضامنية مع الشعب الكوبي في جامعة موسكو، فقفز إلى المنصة واستولى عليها، وأطلق بيانًا ناريًا ضد “النظام القمعي الديكتاتوري” في مصر وسوريا.

في اليوم التالي لتلك الواقعة، احتجت السفارة المصرية على جامعة موسكو، وفصل نجيب من البعثة وألغى جواز سفره، وطالبت السلطات المصرية المسؤولين السوفييت بترحيل نجيب سرور إلى القاهرة، ولكن السلطات الروسية تمسكت به ولكنه نقل إلى مدينة جامعية أخرى حتى لا يحتك بالمبعوثين المصريين، وفي عام 1963 بدأت المقدمات التي تنبأ بعودة سرور إلى مصر عندما أدرك النفوذ الصهيوني في الاتحاد السوفيتي، وخصوصًا بعد الحادثة الشهيرة التي حدثت له في موسكو، فكانت “القشة التي قصمت ظهر البعير”، حيث ألقت قوات الأمن هناك القبض عليه إثر مشادة كلامية حدثت بينه وبين أحد أفراد الشرطة وأوسعوه ضربًا، فيقول عن الحادثة “لقد بكيت آنذاك ليس من الألم، بل على انهيار المثال، وأحسست أنه لا فرق بين شرطة سوفييتية ومباحث مصرية، فكلها أجهزة قمع، وإنما نحن الذين صدقنا الأوهام عن إنسانية الاشتراكية”.

وفي عام 1971 بدأت مرحلة جديدة في حياة سرور بالمواجهات مع الأنظمة الأمنية التي تفاقمت بعد عرض مسرحية “الذباب الأزرق” التي تناقش عملية التصفية التي تعرضت له ميليشيات المقاومة المصرية على الجيش الأردني، والمعروفة بأحداث “أيلول الأسود”، والتي قد تدخلت الاستخبارات الأردنية لدى السلطات المصرية لإيقافها، وانتهت المواجهات بطرد سرور من عمله وعزله عن الحياة الثقافية في مصر، كما تعرضت أعماله للاغتيال الأدبي وتم تهميش اسمه ومساهماته في المجالات الثقافية، فاتجه إلى كتابة قصائد انتقد سياسة حكومة أنور السادات تجاه الوطن والشعب وخصوصًا قمع الحريات العامة وحرية التعبير والتسلط على المثقفين والتنكيل بالمواطنين، فلفقت له الحكومة التهم المختلفة وساقته إلى مستشفى الأمراض العقلية.

وفي تلك الفترة كتب نجيب قصائد هجائية في قالب الرباعيات سجل فيها ما رآه قلبًا للأحوال وسيادة النفاق والتصنع وتحكم التافهين بشروط معيشة وإبداع الموهوبين، بلغة تُعد فاحشة وإباحية بكثير من التصريحات الجنسية وكلمات السباب، عرفت في مجموعها باسم “أميات نجيب سرور”، التي تعد أقل أعماله الأدبية والتي تمثل صرخة يائسة للشاعر في ظل الأوضاع التي تحمل صدمات وانكسارات متوالية، فحياة نجيب سرور انتهت وهي مازالت في البداية فكان هو الفارس والشعر جواده، ولكن لم يمهله فيموت السرور في عام 1978 بعد أن أصابه الخذلان واليأس، قائلًا “أنا عارف أني هموت في عمر الورد.. وساعتها هيقولو لا قبله ولا بعده، وبطانة بتقول ياعيني مات في عمر الورد.. وعصابة بتقول خلصنا منه مين بعده؟”.

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى