الأخبار

التهجير الجزئى ضريبة للوطن

 

111

 

بعض المصريين منهم سياسيون وناشطون وإعلاميون لا يقدرون اللحظة التى تمر بها مصر الآن، يرونها لحظة طبيعية وليست استثنائية، يتعاملون معها وكأن كل شىء يسير بمعدلات طبيعية عادية، ويريدون المزيد من الحريات والسخرية من خلق الله ومؤسسات البلد وقادته، يسعون إلى إضافات وهوامش وملاحق لأمور لم تستقر بعد. المؤكد أن هؤلاء لديهم حسابات تخصهم وتخص أسيادهم، وهى حسابات غير التى لدى غالبية المصريين الساعين إلى الأمن والأمان والاستقرار، وقبل كل شىء هزيمة الإرهاب والعنف والمؤامرات من بعض الداخل وكثير من الخارج.

مصر تمر بظرف صعب وحرج، تلك حقيقة لا مراء فيها. وما هو صعب يتطلب بدوره تحمل الصعاب والمشاق وصولاً إلى بر الأمان. وحين يتحدث رئيس الدولة عن معركة وجود تخوضها مصر، وعن مساعٍ تستهدف إسقاط الدولة، فالنتيجة الحتمية أن كل شىء بحاجة إلى إعادة نظر وإلى إعادة تموضع. ما يصلح فى الظرف العادى قطعاً لا يصلح فى الظرف الاستثنائى العابر. وحين تعود الأمور إلى طبيعتها المعتادة فلنطالب جميعاً بما هو عادى وطبيعى ومعتاد وأكثر.

المزعج أن يتجاهل البعض هذه اللحظة الحرجة وضرورة التضحية بشكل أو بآخر حتى تمر إلى غير رجعة. ورغم كل الظروف والمعاناة ليس لدى ذرة شك أن مصر ستجتاز عنق الزجاجة وستحقق أحلامها فى النمو والرفاهية والحرية والريادة. نحن بحاجة إلى وعى حقيقى بما يجب أن يكون حتى نحقق ما نطمح أن نكون فيه. أقول هذا عن تجربة عاشتها مصر وعبرتها من هزيمة وانكسار إلى انتصار مشرف سيظل مُخلداً فى التاريخ. وكلامى هنا موجه أولاً إلى عموم أهلنا الشرفاء فى سيناء الحبيبة، الذين نقدر معاناتهم من التهميش لسنوات طويلة ومن الحرمان، ومن سافلة الإرهاب التى فرضت نفسها عليهم فى الأعوام القليلة الماضية وكدرت حياتهم وأغلقت أمامهم أبواب الرزق الحلال. كما نقدر أيضاً تطلعهم إلى حياة طبيعية بلا منغصات أمنية أو اقتصادية أو معنوية، وتلك بدورها لن تحدث إلا بالوقوف وراء الدولة ومؤسساتها، والحفاظ عليها ومؤازرتها فيما تقوم به من جهد رهيب لاقتلاع جذور الإرهاب الآثم الذى زرع نفسه فى بيئة سيناء وقت الفوضى وضياع البوصلة.

لقد قررت المؤسسة الأمنية العسكرية إقامة منطقة أمنية مُؤمنة على كامل الحدود مع قطاع غزة، وبمعنى آخر تحويل تلك المنطقة التى تمتد ما يقرب من 16 كم من منطقة إرهاب وأنفاق وتهريب للبشر والسلاح والمخدرات إلى منطقة طبيعية تحت السيطرة الأمنية وتحت سيادة الدولة. سيتطلب الأمر إعادة توزيع لتجمعات سكانية يعيش فيها ما يقرب من خمسين ألفاً أو أقل من السكان. قد يعانى هؤلاء غربة الانتقال من أماكنهم التى اعتادوا عليها وعاشوا وتربوا فيها، وشكلت لهم ذكريات مضت وتاريخاً حياً. هذه حقيقة لا يمكن إغفالها أو تجاهلها. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد وفقط. فهذا التاريخ الحى بات مُحملاً بفرص الموت أكثر من فرص الحياة، وأصبح هو فى حد ذاته كابوساً طويلاً وممتداً. إذ كيف يعيش المرء ويتحدث عن حياة طبيعية وهو تحت رحمة الإرهاب وفى مجال جغرافى لمعركة ضروس تتطاير فيها الرؤوس والقنابل والصواريخ؟ وكيف يعيش المرء هكذا ويرى فى جهود الدولة الراغبة فى تأمين حياته أنها قد تؤسس لفتنة مجتمعية كما يقول أحد شيوخ قرية المهدية، التى تشكل من بين خمس قرى مجالاً رحباً لانتشار تحركات الإرهابيين جيئة وذهاباً وهم آمنون مطمئنون، أو أن تلك الجهود كما يرى ناشط سيناوى، لا سيما فى شقها المتعلق بإعادة توزيع أهالى الشريط الحدودى، وكأنها قنبلة موقوتة ستنفجر فى وجه الجيش والشرطة وأجهزة الدولة.

مثل هذه المبالغات ليست فى محلها. وعلى الدولة أن تضع النقاط فوق الحروف، وتعلن على الكافة من سيعاد توزيعه من السكان، وإلى أين فى داخل سيناء نفسها وفى مناطق قريبة من تلك التى اعتاد عليها هؤلاء السكان، وما هى التعويضات التى ستقدم لأصحاب الأملاك، وما هى المساكن وفرص العمل والتعليم والصحة التى سُتقدم لهم. ففى ذلك أكثر من مجرد توضيح للأمور، إنه حق المعرفة للمجتمع السيناوى، كما هو حق لكل مصرى أن يطمئن على أن الذين يُعاد توزيع أماكن سكنهم هم جزء من حل لأزمة تتعلق أولاً وأخيراً بالأمن القومى وبحماية كل شبر من الأرض المصرية، وحماية كل مواطن يحمل هويتها وجنسيتها.

لقد عرفت مصر التهجير وإعادة توزيع السكان مؤقتاً أو دائماً تحت ظروف قاهرة. منها مشروعات كبرى للتنمية، كما هو حال السد العالى وحماية الآثار فى مناطق النوبة، ومنها ما كان تحت ضغط ظروف الحرب مع العدو الصهيونى بعد يونيو 1967. والذين عاشوا تجربة الهجرة من مدن القناة يعرفون جيداً حجم المعاناة فى الانتقال من مدنهم وقراهم إلى بلدان غريبة عنهم، ويعرفون أيضاً أن بقاءهم فى أماكنهم التى كانت مسرحاً لحرب ضروس واعتداءات إسرائيلية متكررة لم يكن ممكناً، كما أن قدرة الرد والصد للعدوان لم تكن متوافرة للجيش فى ظل وجود السكان كما هم فى المدن والقرى. وقد كان، حدث التهجير وجاءت حرب 6 أكتوبر لتجعل الزمن يستعيد توازنه.

فى تلك الفترة ما بين قرار تهجير سكان مدن القناة الثلاث بما يزيد على مليون نسمة آنذاك ما بين أكتوبر 67، وحتى أكتوبر 73، لم ينس أهالى القناة قراهم ومدنهم وشوارعهم وبيوتهم، ولكنهم تقبلوا الأمر بصدر رحب باعتباره ضريبة أساسية لمعركة استعادة كرامة أمة ووطن. كانت هناك معاناة وغربة لم يصاحبها ضيق أو يأس. كان هناك شعور جارف بأن الانتصار قادم، وأن العودة إلى الذكريات القديمة ستأتى حتماً.

نحن الذين عشنا هذه الأيام بكل المعاناة والغربة وشظف عيش أحياناً، نشعر الآن وفى كل وقت بفخر شديد أننا كنا جزءاً من الاستعدادات الكبرى لتحقيق انتصار أكتوبر العظيم. ولا أقل على بعض أبناء سيناء الوطنيين الشرفاء أن يدفعوا جزءاً من ضريبة الانتصار على الإرهاب واستعادة حياة طبيعية آمنة مستقرة. فهكذا هو الوطن حين ينادى، علينا أن نلبى النداء دون ضجر أو حزن أو استياء.

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى