الأخبار

جذورُ القومية الكُردية

39

استكمالاً لما تحدثنا عنه فى المقالة السابقة، نتوقف فيما يلى عند «اللغة» باعتبارها أهم الجذور العميقة «تاريخياً» التى بسقتْ منها القومية الكردية وتفرعت عنها أغصانها.. وفى إطار هذا «التأصيل» التاريخى للأمة الكردية، يقول د. جمال رشيد فى بداية الجزء الثانى من موسوعته المنشورة بعنوان «ظهور الكورد فى التاريخ»: «إن المنطقة التى يعيش فيها الكرد منذ آلاف السنين، كان اسمها فى البدء (سوبارتو) ولما جرت الهجرات القديمة واختلط المهاجرون بالسكان المحليين: ظهرت مجموعة إثنية (عرقية) ذات سمات ثقافية ولغوية جديدة فى الأوساط السوبارية، فلم يجد الناسخ السامى طريقاً سهلاً فى تسجيلها بالخط المسمارى».. وهذه العبارة تحتاج تقويماً وبعض الشرح، الضرورى، قبل الانتقال إلى النقطة التالية، وفى ذلك نقول:

لا يصح أن يُقال عن الذى يسجل بالخط المسمارى إنه «ناسخ»؛ لأن النسخ هو نقل محتوى كتاب، بكتابته على الجلود (الرقوق) أو البردى أو الورق، اعتماداً على نسخة أقدم يقوم أحدهم بنسخها (نقلها) فيُسمى هذا الفعل نسخاً، لأن فاعله ناسخ، وهذه العملية العلمية (استنساخ الكتب) هى فى الأساس تقليد يونانى ثم إسلامى من بعد، ولا نعرف أن السومريين كانوا يقومون بها باعتبارها وظيفة.

كان «التدوين» السومرى، العبقرى، يتم قديماً بغرز شكل الحروف بمسامير معدنية، فى لوح طينى لزج، ثم يجرى تجفيفه بالنار بعد امتلائه بالثقوب الدالة على الحروف، وتحفظ هذه الألواح الجافة «المنقوشة» بالمسامير، على النحو الذى نعرفه اليوم فى شكل كعك عيد الفطر المنقوشة صفحته العليا، ومن هنا سُميت تلك الطريقة بالكتابة المسمارية، ولم يكن «النسخ» مستعملاً على نطاق واسع «مؤسساتى» فى ذاك الزمان القديم «أو بالأحرى: لم يكن مهنة» لأن التدوين كان عملاً قليل الحدوث، وكان فى الغالب يقتصر على ذكر أعمال الملوك وتسجيل مآثرهم، وعلى حفظ النصوص المقدسة كالملحمة البديعة المسماة «أنوما إيليش» أى: حدث فى الأعالى.. وهى قرآن سومر، وكتابها الدينى المقدس الذى يحكى بدء الخليقة وأسرار الآلهة.

لم يكن هناك آنذاك وظيفة اسمها «ناسخ» مثلما هو الحال فى الزمانين البيزنطى والإسلامى، ولو كان، لما صح وصفه بصفة «السامى»؛ لأن فى ذلك وقوعاً فى الفخ الشهير الذى نصبه بعض الفيلولوجيين (فقهاء اللغة) بتأثير توراتى، حين جعلوا لهذه اللغات المتقاربة بحكم تجاور المتحدثين بها والمتوارثين لها (الآرامية، السريانية، العربية، العبرية… إلخ) اسماً مراوغاً هو: اللغات السامية! نسبة إلى سام بن نوح، الشخصية التوراتية التى لم يعرفها التاريخ، وجعلوا اللغات الأخرى فى مجموعة باسم: اللغات الهندو/ أوروبية! وهو تعريف مكانى، بحسب الرقعة الجغرافية، وليس تعريفاً مراوغاً مكسواً بصفة عقائدية منسوبة إلى «سام» على اعتبار أن نوح النبى كان له ابنان هما: سام، حام.. وإلا فأين اللغات الحامية؟! ناهيك عن أن العالم الفعلى، لا التوراتى، لم يعرف ولم يؤرخ ولم يعترف بسام أو حام.. ويقال: إن حكاية طوفان نوح، نفسها، كانت فى الأصل قصة رجل طيب لم يغرق فى فيضان نهر «ديصان» المريع، الذى وقع فى الأزمنة القديمة، وصاغ الشعراء قصته فى ملحمة عُرفت باسم: طوفان نهر ديصان! وعنها نقل اليهود القصة إلى التوراة، بعدما سمعوا بها أثناء زمن السبى البابلى.

نعود إلى جذور اللغة الكردية (الكوردية) وإلى كتاب د. جمال رشيد (الذى لا تقلل الملاحظة النقدية السابقة من قيمته)؛ حيث يقول ما نصه: سيادة اللهجات الآرية على لغة الكاسيين والحوريين، وضعت منذ الألف الثانى قبل الميلاد، اللبنة الأولى لولادة اللغة الكوردية فى التاريخ، ثم إن نشوء دولتى كاردونياش فى بابل، وميتاننى مع عاصمتها ببلاد كوردا (الجزيرة) تحت إمرة العناصر الآرية، أوجد الأرضية القوية لظهور البوادر القومية الكوردية.. وهذا التمازج الحضارى فى كوردستان، هو جزء من علم الكوردولوجيا (يقصد: علم التاريخ الكردى) الذى له علاقة بالأحداث التاريخية التى جرت فى شمال وشرق وادى الرافدين (يقصد: العراق).

نخرج مما سبق بأمرين، الأول منهما: أن كردستان هى وارثة سوبارتو، بمعنى أن الكرد هم نتاج التمازج الذى جرى فى المنطقة التى كانت تسمى «سوبارتو» فصارت عندما تغيرت لغة أهلها «كردستان».. والأمر الآخر: أن بزوغ فجر القومية الكردية كان فى زمن سحيق (قبل أربعة آلاف عام)، يعنى قبل ظهور الديانات الثلاث المشهورة، أو بالأحرى الديانة الواحدة ذات التجليات الثلاثة الباقية إلى اليوم: اليهودية، المسيحية، الإسلام.. وهو ما يفسر وجود ديانات موغلة فى القدم بمنطقة كردستان الحالية، كالأزيدية التى ذبح الدواعش قبل أسابيع رجالها، واستحيوا نساءها، باسم الإسلام!

وبطبيعة الحال، تطورت اللغة الكردية خلال الألفيات الأربع الماضية (لأن اللغة بطبيعتها كائن متطور) فتحددت مع عملية التطور اللغوى، الهوية الكردية.. قال الشاعر: «من أنا؟ هذا سؤال الآخرين ولا جواب له! أنا، لُغتى».

وبطبيعة الحال أيضاً لا يمكننا فى هذه المقالة استعراض التطورات التى جرت على اللغة الكردية خلال تاريخها الطويل؛ ولذلك سوف نكتفى بالإشارة إلى ما ذكره د. جمال رشيد (وغيره من الباحثين)؛ حيث قال: لكنية الأمة الكوردية مصدران تاريخيان، هما: «الكورد» المشتق من صيغة «كوردا» التى احتواها لوح أكدى (يقصد: من زمن الحضارة الأكدية، الأكادية) نقش فى الألف الثالث قبل الميلاد، وكلمة «كورت» المشتقة من اسم اتحاد قبلى ميدى (يقصد: نسبة إلى ميديا، بالأناضول) استوطن أصحابه كوردستان خلال الألف الثانى قبل الميلاد، حسبما ورد فى سجلات الآشوريين، وفى زمن فاوستوس البيزنطى (القرن الرابع الميلادى) عُرفت بلاد الكورت، أى كردستان، بصيغة «كوردش» التى انقلبت إلى كردوستان.

وتأتى أهمية هذه الإشارة من دلالتها على عراقة الأمة الكردية فى التاريخ، وتأكيدها أن الكرد ليسوا بالقوم الأقل عراقة من العرب، بل ربما كانت القومية الكردية أقدم وأكثر أصالة من مثيلتها العربية التى لا نعرف لها جذوراً تاريخية سابقة على الألف الأول قبل الميلاد.

وفى القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى)، وبتأثير الدين الإسلامى الذى صار عقيدة الغالبية العظمى من الكرد، طغت الثقافة العربية على سكان كردستان فصاروا يكتبون لغتهم بالحرف العربى، مع أن الخط العربى لم يكن يلائم المفردات الكردية من حيث إيقاعها الصوتى (الفونيم).. ثم صار المؤلفون الكرد يكتبون أعمالهم باللغة العربية، أو صار معظمهم يفعل ذلك.

ومع وقوع الكرد، فى القرن العشرين، تحت سطوة حكومات متعددة ذات قوميات مستقلة، أُجبر الكرد على هجران لغتهم وحُرّم عليهم الكتابة بها.. فالجزء التركى من كردستان أجبر سكانه بعد التحول الأتاتوركى على الكتابة بالحروف اللاتينية وهجر الخط العربى والحروف العربية التى طالما تأنق الأتراك العثمانيون فى الكتابة بها، وفى ابتكار أشكال فنية منها، منها خط الطغراء البديع.

وفى روسيا البلشفية، أجبر الشيوعيون جميع الأقليات المحيط بها «الاتحاد السوفيتى» على الكتابة بالخط الكيريلى الذى تُكتب به اللغة الروسية.. وكذلك كان حال الكرد فى المنطقة الواقعة تحت سلطة الفرس (إيران) والعرب (العراق، سوريا)، وهو ما أدى بالطبع إلى اضمحلال مؤقت للمشاعر القومية لدى الكرد، لا سيما أن الخلاف بين الجماعات الكردية المسلحة الموالية لإيران والموالية للعراق اشتد وأوقع قتلى كثيرين من الكرد، على يد الكرد.. ولنا عودة إلى هذه النقطة المهمة فى مقالة مقبلة.

وفى ختام مقالة اليوم، نشير إلى أن صحوة الكرد بالعراق بعد سقوط «صدام»، وحصولهم على نوع من الحكم الذاتى والحماية الذاتية من خلال القوات العسكرية المعروفة باسم «البشمرجة، البشماركة» أديا إلى إتاحة الفرصة أمام الكرد لاكتشاف ملامح قوميتهم وشخصيتهم الحضارية، وظهرت دراسات تؤكد عراقة القومية الكردية ودورها الحيوى فى تاريخ المنطقة، وفى تطور آدابها، حتى إن بعض الدراسات المعاصرة جداً تقول: إن الثقافة العربية عرفت النصوص الأدبية الشهيرة (ألف ليلة وليلة، كليلة ودمنة، السندباد البحرى…) ليس من خلال الترجمة عن اللغة الفارسية مثلما يعتقد معظم الناس، وإنما عن طريق الترجمة إلى العربية من النصوص التى كانت مكتوبة باللهجة الكردية.

ومع استقرار كرد العراق، وتوقف الصراع المسلح بين الجانبين الإيرانى والعراقى من الكرد، وفشل تركيا الأردوغانية فى قمع ملايين الكرد فى أمد وديار بكر صار المجال مفتوحاً أمام انتعاش الحلم القومى الكردى باستقلال دولة كردستان، بعد طول تشظٍّ.. وظلم.. واستبداد. ولأن تنامى هذه الروح القومية وازدهار فكرة الدولة القومية الكردية، يتعارضان مع مصالح عديد من القوى الدولية التى أقلقها هذا الانتعاش، كانت «داعش»!

■ ■ ■

وبعد.. أعرف أن ما تطرحه هذه المقالات ليس من الأمور «المسلية» التى اعتاد أهلونا على قراءتها فى الصحف اليومية، وأعرف أن النزعة البحثية قد تثقل على كثير من القراء الذين تم تدليلهم و«تغييبهم» إعلامياً، وأعرف أن شغف «الجمهور» بتلك الموضوعات ضعيف.. ولكن، لا بد مما ليس منه بُد؛ فلنصبر قليلاً حتى نفهم معاً ما يجرى من حولنا ويحيط بنا؛ لأن هذا «الفهم» هو السبيل الوحيد للوعى، الذى هو السبيل الوحيد للخروج من المأزق الذى وقعت فيه بلادنا مؤخراً.. وربما لا تخرج منه إلا بعد حينٍ قد يطول.

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى