الأخبار

أبناؤنا فى رقبة السيسى

166

 

 

 

كعادتها اليومية، فتحت ماجدة عينيها صباح السبت الماضى باحثة عن هاتفها المحمول، عسى أن يكون شقيقها الغائب قد أرسل لها رسالة نصية، أو «رنة» كما اعتادت منه يوميا طوال الأشهر الثمانية التى غيبه فيها العمل فى ليبيا. تتعايش «ماجدة» مع هذه الاتصالات القليلة باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتهدئة قلقها على أخيها خلال العنف المستعر فى ليبيا، خاصة مع تكرار اختطاف الأقباط والاعتداء عليهم فى «سرت».

صباح السبت كان مختلفًا.. كانت هناك ثلاثة اتصالات، تركها أخوها على هاتفها. جعل هذا قلقها يستعر، لم تفهم «ماجدة» حينها، لكن بعد لحظات قليلة من استيقاظها التقطت أذناها أصواتًا ترامت إلى غرفتها تحمل الخبر الأليم: «أخويا اتخطف من بيته فى ليبيا، وكان بيتصل بيا يستنجد بس أنا مفهمتش».

منذ حادث الاختطاف الذى غيّب أخبار 13 مصريا مسيحيا فجر السبت الماضى، على يد جماعة مسلحة بمدينة «سرت» الليبية، تعيش أسرة أبانوب عياد ألما صار يسكن بيوت عائلات 20 مصريا اختطفوا خلال الأسبوع الماضى فى ليبيا بسبب ديانتهم.

القلق والخوف ترتفع حدتهما بعد مقتل ثلاثة مختطفين من أسرة واحدة من مركز سمالوط الذى يقع على بعد 25 كيلومترا شمال محافظة المنيا، على يد متطرفين ليبيين. تقول «ماجدة» شقيقة أبانوب عياد: «منذ القبض على شقيقى وزملائه الستة ونحن نعيش فى حالة رعب جماعى بالقرية، خوفا على أهلنا المخطوفين، وخوفا على اللى لسه هناك ومش عارف يرجع».

أبانوب الحاصل على دبلوم صناعى سافر منذ أكثر من ثمانية أشهر لمساعدة والده فى نفقات البيت بعد حصوله على تصريح بالعمل هناك من وزارة الخارجية المصرية، وهو أحد الفلاحين بقرية العور التابعة لمركز سمالوط، التى يعتمد معظم أهلها على الزراعة. فى غرفته، جلس والده عياد عطية، يشير إلى الركن الفارغ الذى كان يشغله جسد أبانوب قبل السفر، حيث كانت تضمه الغرفة مع أخويه: «ياريته كان فضل هنا.. ابنى مكنش لاقى شغل فى البلد كلها، وعشان كده اضطر يسافر، وأنا وأمه كنا خايفين عليه بس ما باليد حيلة».

مساعدة أبيه المسن فى الإنفاق على الأسرة، وتحمل نفقات تعليم شقيقه «إبراهيم» الطالب، وشقيقته «ماجدة» التى تدرس بكلية التربية بالمنيا، بالإضافة إلى عدم توافر فرص العمل فى القرية التى ولد بها.. كانت كلها بحسب شهادات أهل أبانوب هى الدوافع التى جعلته يقرر السفر عقب انتهائه من أداء الخدمة العسكرية مباشرة.

تقول والدته التى جلست فى أحد أركان البيت قليل الأثاث: «أنا عايزة ابنى يرجعلى يا سيسى»، تصمت الأم برهة من الوقت وتضيف بعد عدد من الصرخات المتتالية والبكاء المستمر منذ يومين: «آخر اتصال مع ابنى كان يوم الجمعة عشان يقوللى كل سنة وإنتى طيبة يا أمى، ومن ساعتها فضل متحاصر فى بيته وخايف ليتقبض عليه زى الـسبعة اللى قبله. من ساعتها وأنا بعيط عليه هو وابن أخويا المخطوف معاه».

الحصول على لقمة العيش بعد أن تقطعت بهم السبل داخل قرية العور، التى ينتسب إليها أغلب المختطفين فى ليبيا، والتى وصل تعداد سكانها حتى عام 2013 إلى أكثر من 3 آلاف نسمة – هو الدافع وراء تلك المخاطرة.

ترصد «المصرى اليوم»، بعد التجول ليوم كامل بها وبجاراتها من القرى والتابعة لمركز سمالوط، عدم توافر الشروط الأساسية للحياة.. فالقرية التى تعد من أفقر القرى بمحافظة المنيا، يعمل معظم ساكنيها من الأقباط والمسلمين بالزراعة، وهم غير قادرين على شراء أو استئجار الأراضى الزراعية، ويضطرون للعمل بالأجر اليومى عند ملاك الأراضى الزراعية.. القرية يوجد بها مخبز واحد، حصته لا تتخطى 505 أجولة يوميا، يصل نصيب الفرد بها إلى رغيفين من العيش يوميا، بالإضافة لعدم توافر أى من الوحدات الصحية أو المستشفيات.

«هذه الظروف دفعت شباب القرية للإقبال على السفر، بالإضافة للاضطرابات وأحداث العنف التى شهدتها محافظة المنيا فى عهد الإخوان».. حسب شرح عدد من أهالى هذه القرى من المسلمين والأقباط الذين التقتهم «المصرى اليوم»، ويوضح الأهالى أن قرية العور هى المصدر الأكبر للعمالة المصرية القبطية فى ليبيا نظرا لانخفاض تكلفة السفر، حيث إنهم يسافرون عبر سيارات الأجرة التى لا تكلفهم كثيرا، بالإضافة لخطوط الطيران.

على بعد أمتار من منزل «أبانوب» يقع منزل تريزا عطية شحاتة – 65 سنة – والدة المختطف يوسف شكرى يونان – 24 سنة – تقول وهى تجلس فى منزلها المسقوف بجريد النخل: «ابنى سافر ليبيا من 8 أشهر بعد وفاة والده، بسبب عدم توافر شغل بالقرية للإنفاق على الأسرة التى تتكون من 5 أفراد، وإحنا أملنا كبير فى ربنا وفى الرئيس إنه يضغط على المسؤولين فى ليبيا ويرجّع أولادنا».

نفس المشهد فى منزل ميلاد مكين زكى، الذى سافر منذ أربعة أشهر بحثًا عن عمل. يقول والده: «ابنى كلمنى يوم الجمعة وقاللى إحنا فى السكن، ومش هعرف أنزل مصر عشان السكة مش أمان خالص، وكمان مش هقدر أكلمكو كتير الفترة اللى جاية، وبعد يوم واحد سمعت إنهم أتخطفوا من السكن». يصمت «مكين» بسبب ارتفاع صوت بكاء والدة «ميلاد» وزوجته الجالستين فى نفس الغرفة التى لم تحوِ من الأثاث سوى سرير واحد وتليفزيون صغير.

حول أحد مواقد الفحم، اجتمع عدد من رجال القرية بحثا عن الدفء فى ليلة شديدة البرودة، للحديث عن واقعة الاختطاف. يقول أحدهم محدثا جيرانه التى تجاورت منازلهم فى حارات لا يزيد اتساعها على متر ونصف المتر: «قرية العور أصبحت مستهدفة الجماعات الإرهابية فى ليبيا عشان إحنا ملناش ضهر هناك نتسند عليه، وعيالنا متبهدلين جوا بلادهم هنا، فمن الطبيعى لما نسافر برا محدش يحترمنا».

يقاطعه ثانٍ ويقول بعد أن يقوم بتحريك الحطب والفحم بحثا عن مزيد من الدفء: «لازم ننزل القاهرة ونقدم شكاوى فى وزارة الخارجية، عشان يتحركوا بسرعة شوية، بدل ما هما بيتابعوا الأخبار زينا من التليفزيون».

يضيف رامى سعيد وهو يقف على باب منزله المكون من طابق واحد مثل أغلب منازل القرية التى اتشحت نساؤها بالسواد بعد مرور أقل من يومين عقب أعياد الميلاد: «إحنا معندناش وزارة خارجية أصلا، ولا فيه حد سائل فينا ولا فى عيالنا، والمتحدث الرسمى بيلف على القنوات ويقول كلام محدش فاهمه ومفيش حاجة عملى بتحصل على الأرض، لكن محدش منهم بيسأل نفسه الناس دى أصلا إية اللى بيخليها تروح ليبيا، ولو شافوا العيشة الصعبة اللى إحنا عايشينها فى القرية مكانوش استغربوا».

أمير يعقوب، كبير قرية العور، أحد العاملين فى المجلس المحلى للمدينة، قال ردا على شهادات الأهالى بعدم قيام الدولة بدورها فى أزمة اختطاف المصريين فى ليبيا: «الريس بقاله شهور بيحذر من السفر لليبيا، وأنا بنفسى لفيت على أهالى القرية كلهم منذ أكثر من 6 أشهر عشان أحذرهم، وذهبت إلى جميع الكنائس للتنبيه على خطورة الوضع، لكن مفيش حد بيهتم».

«85 شابا» هو عدد شباب قرية العور الباقين حتى الآن فى ليبيا للعمل. 79 منهم مسيحيون، و6 مسلمون، اختطف منهم خلال هذا الأسبوع 20 شابا من القرية والمراكز المجاورة لها حتى هذه اللحظة. «الشباب كلهم معاهم شهادات، بس مفيش فرص عمل هنا، وعشان كده الناس كلها بتسافر، بدل الشغل فى فلاحة الأرض».. هكذا يقول «أمير»، ويضيف بعد تلقى عدد من المكالمات الهاتفية لأسر ترغب فى الذهاب إلى القاهرة للتعبير عن غضبها: «مفيش أى لازمة لذهاب الناس إلى القاهرة، عشان مفيش حاجة ممكن تتعمل غير الانتظار».

على مشارف مركز سمالوط، يقع مكتب لإحدى شركات السياحة التى وضعت لافتة إعلانية للدعاية للسفر إلى ليبيا، فى رحلة تستغرق 3 أيام بحسب مكتب السياحة الذى رفض العاملون فيه ذكر أسمائهم خوفا من غضب الأهالى والأمن بعد حوادث الاختطاف الأخيرة.

طريقان للسفر إلى ليبيا، بحسب ما يحدد العاملون بمكتب السياحة: أولهما عن طريق الطيران من مصر إلى مطار «سرت»، وبعد ذلك التنقل برا حتى الوصول لموقع السكن أو العمل، وهذه الرحلة تكلف الآن حوالى 10 آلاف جنيه، بعد أن كانت تكلفتها لا تتعدى 2000 جنيه. والطريق الثانى هو الطريق البرى من منفذ السلوم إلى داخل الأراضى الليبية عبر طرق غير شرعية.. يقول مكتب السياحة إنه لا ينظمها. ويضيف أحد العاملين: «مدينة سرت أصبحت بؤرة استهداف المسيحيين، ويوجد بها حاليا 200 مواطن مصرى تقريبا، نصفهم على الأقل من مركز سمالوط. لكن العدد فى انخفاض مستمر». الأمر الذى يتقاطع مع تصريحات السفير بدر عبدالعاطى، المتحدث باسم وزارة الخارجية، لعدد من وسائل الإعلام، والتى أكد فيها أنه على الرغم من تمكن الحكومة المصرية من إعادة نحو 40 ألف مصرى، عبر جسر جوى من الطائرات العام الماضى، إلا أن الكثير منهم عاد مرة أخرى إلى ليبيا؛ بحثا عن العمل.

المصرى اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى