الأخبار

مصر.. بين «أزمة النخبة» و«نخبة الأزمة»

 

158

 

نقطة مهمة أتوقف عندها قبل الانخراط فى سياق مقالى اليوم من باب إحقاق الحق وإرجاع الفضل لأهله، فقد تلقيت مكالمة هاتفية كريمة من السيد رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب للتعقيب على مقالى السابق (لو هتشيلوا ألضو وتجيبوا شاهين.. مش عايزين)، والحقيقة فقد استوقفنى فى مكالمة رئيس الوزراء ثلاثة أمور أولها رد الفعل السريع حيث جاءت المكالمة بعد ساعات قليلة من تداول الصحيفة بالأسواق، وتمثل الثانى فى مدى حرصه على متابعة ما يكتب ويثار من آراء ورؤى وحرصه على التواصل مع كل صاحب رأى حتى وإن اختلف معه.. وتساءلت «من أين يأتى الرجل بتلك الطاقة وذاك الوقت للتواصل رغم ما نعلمه ونلمسه من انشغالاته وساعات العمل الطويلة؟».. أما الثالث فهو المتعلق بمضمون ما كتب والذى جعلنى أستشعر قدر اهتمامه وحرصه الدائمين على أن يكون هناك معايير موضوعية وواضحة فى اختيار القيادات وكم هو مهموم بالبحث عن كوادر صالحة لتحمل العبء والمسئولية فى تلك المرحلة الحرجة فى تاريخ مصرنا الحبيبة.

وحقيقةً، كما شعرت بالثقة والاطمئنان أنه بهذا القدر من الانفتاح والوعى والحرص، أننا ومهما كانت التحديات والعثرات بل والمؤامرات سنعبر بمصر فوق أزماتها خلف وإلى جوار رئيس وزراء متميز ومختلف.

وأعود إلى ما انتويت الحديث فيه اليوم فأقرر أننى تتملكنى الدهشة بل والحيرة وأنا أعايش وأتابع المشهد السياسى المصرى الراهن وما ينطق به من واقع عجيب بل ومريب، خاصة أن الحقائق واضحة للعيان وضوح الشمس وقد استفاض الخبراء والمحللون الاستراتيجيون منهم وغير الاستراتيجيين، وأضف إليهم النشطاء السياسيين وغير النشطاء فى شتى المجالات وعلى كل الأصعدة والمستويات فى التحليل والتنظير واستهلكنا ومعنا كل هؤلاء عقوداً طويلة من أعمارنا وعمر هذا الوطن المكلوم فى تشخيص بيت الداء، والطبيعى أن نكون قد انتقلنا لمرحلة علاج الإشكاليات والمعضلات التى استفاض الجميع فى تشخيصها وتحديد أبعادها وأسبابها إلا أننا ما زلنا ندور فى الدائرة نفسها من الجدل والثرثرة ومعانقة دوائر الضوء المختلفة وبالأخص الإعلامى منها والسياسى فى ظاهرة تعطينا شكلاً من أشكال التميز عن كثير من الشعوب والأمم فى فنون الكلام، مجرد الكلام والثرثرة.. والأخطر منها احترافية الاختلاف وعدم الالتقاء عند نقاط مشتركة للاتفاق!!

تلك الحالة المصرية الفريدة وإن كانت تأخذ صفة العمومية رأسياً وأفقياً فإننى أتوقف اليوم أمام جزئية أو ملمح واحد من ذاك المشهد العبثى الذى يمثل عندى حجر الزاوية فى تلك الأزمة التى نعيشها، ذلك لأنه يتعلق (بالنخبة).. وحين أتحدث عن النخبة يذهب مقصدى إليها على كل الأصعدة وأركز هنا اليوم لظروف المساحة على زاويتى المشهد السياسى والأحزاب السياسية.. فالمشهد السياسى بما يعانيه من حالة ارتباك شديدة يصل إلى حد التخبط فى بعض الأحيان الأمر الذى «فرمل»، إلى حد ما، سرعة الرئيس السيسى فى طموحه وانطلاقته نحو إعادة بناء أمة تكلست مفاصلها وتجمدت الدماء فى عروقها على مدار سنوات طويلة الأمر الذى خلف آثاراً كارثية على كثير من مناحى الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهو الأمر الذى كان من الطبيعى أن يفرض على الجميع التحرر من أى نظرة ضيقة لانتماءات حزبية أو سياسية والاصطفاف كتفاً بكتف خلف قيادة ومشروع قومى لنهضة الأمة..

واللافت، بل الخطير، أن الجميع، ولا أستثنى أحداً، لم يستوعب ما فعله الشعب المصرى فى 25 يناير و30 يونيو و3 يوليو و26 يوليو وفى الاستفتاء على الدستور وفى الانتخابات الرئاسية.. وأحدد عن عمد تلك المحطات لما تحمله من دلالات وإشارات خطيرة للأسف لم يستوعبها الكثير حتى اللحظة، يأتى فى مقدمتها أن المصريين وفى جميع تلك المحطات خرجوا وأذهلوا العالم أجمع تحت راية واحدة وهى علم مصر ولا يستطيع، بل لا يجرؤ، أى من اللاعبين على المسرح السياسى المصرى أن يزعم مجرد زعم أن فرداً أو حزباً أو اتجاهاً سياسياً كان له دور فى شحن وتحريك ذلك الطوفان البشرى المصرى!! بل تمتد الحقيقة إلى أبعد من ذلك حيث أثبتت أن المصريين قد تجاوزوا هؤلاء جميعاً، ومراحلهم الزمنية، وأن أولئك اللاعبين على المسرح السياسى المصرى هم الذين هرولوا خلف الجماهير فى محاولات مستميتة لمجرد البقاء فى دائرة الضوء!!

والمثير للقلق، بل للهلع، أنه على الرغم من أن الشعب المصرى قد استطاع خلف قيادة آمَن ووثق بها أن يسجل علامة بارزة جديدة على صفحات التاريخ الإنسانى من خلال تمكنه من العبور المشرف بالاستحقاقين الأول والثانى فى خارطة المستقبل وهو فى سبيله إلى إنجاز الاستحقاق الثالث (الانتخابات البرلمانية) ولا يعوق طريقه ولا يوقف انطلاقته ولا يربك مشهده إلا تلك النخبة أو بالأحرى من يطلق عليهم «النخبة السياسية»، التى تفرغت وعلى مدار أشهر طويلة للصراع على مجرد 120 مقعداً من مقاعد البرلمان المخصصة للقوائم من بين 570 مقعداً يطويها البرلمان بين جنباته!! ولنا أن نتخيل أن 103 أحزاب سياسية -تمثل فى حد ذاتها ظاهرة سياسية غير مسبوقة فى التاريخ السياسى للبشرية من حيث العدد- تتصارع وتتشابك ثم تتفق وتأتلف وما تلبث أن تختلف، وتعود دائرة الاختلاف إلى الدوران، وحتى الآن، على مجرد 120 مقعداً لا تتجاوز فى مجملها أكثر من 20% من مقاعد البرلمان!!

تلك الحالة من الخلاف والتشرذم فرضت على السطح كثيراً من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول المسكوت عنه «حرجاً» و«حياءً» فيما يتعلق بتلك الكيانات السياسية التى فرضت على المشهد حقيقة أنها فى مجملها جزء من المشكلة إن لم تكن هى المشكلة ذاتها، ومكمن الخطورة هنا أننا نتحدث عن نخبة المبرر الوحيد لوجودها من الأصل ينطلق من كونها هى واضعة الرؤى والسياسات والبرامج لحل ومواجهة ما يعيق انطلاق الأمة نحو مستقبل يليق بهذا الشعب العبقرى.

والسؤال: ماذا قدمت تلك النخبة وتلك الأحزاب المتصارعة على كعكة البرلمان من تصورات وبرامج وحلول للمعضلات الكبرى التى تواجه المجتمع المصرى غير الكلام؟! هل سمعنا يوماً أن أياً من تلك القوى قد طرح برنامجاً يصلح لأن يكون مشروعاً قومياً للنهوض بالزراعة واستعادة مكانة مصر كدولة زراعية؟! هل خرج علينا أى منها يوماً بخريطة استثمار تصلح لتنشيط وجذب الاستثمارات الداخلية والخارجية لإنعاش الاقتصاد المصرى ومواجهة قنبلة البطالة المعرضة للانفجار فى أى لحظة؟ هل فاجأنا أى منها ببرنامج عملى يمكن أن يتحول لمشروع قومى لتنمية سيناء؟!

هذا على سبيل المثال لا الحصر لمشكلات عضال وتحديات جسام تواجه الأمة المصرية فى وقت تتكالب فيه عليها كل قوى الشر والظلام والإرهاب فى الداخل والخارج، ونخبتها وأحزابها السياسية تفرغت وبشكل كامل للصراع والتناحر على مجرد 20% من البرلمان!!

والمضحك المبكى أنها تؤذن فى وادٍ سحيق بمعزل عن شعب كامل يوشك أن ينصرف عنها، إن لم يكن قد فقد الثقة فيها جميعاً!!

وبعد.. أعلم يقيناً أن تلك المكاشفة ستغضب البعض وستثير حفيظة البعض، غير أننى آثرت ألا أكون مشاركاً ولو بالصمت فى هذا المشهد العبثى وتلك الكوميديا السوداء التى تلقى بمزيد من الإرباك على المشهد السياسى وتشكل حجر عثرة فى طريق الانطلاق لبناء مصر الجديدة، وفى لحظة تاريخية وفارقة فى مستقبل الأجيال المقبلة تفرض علينا جميعاً كمصريين أن تتقدم النخبة الحقيقية الصفوف وأن يعى كل منا حجمه الطبيعى وموقعه الحقيقى بين المصريين الحقيقيين فى الشوارع والحارات والأزقة والقرى والعزب والنجوع وأن يتحمل كل منا مسئولياته الحقيقية أمام الله والشعب والتاريخ فى النزول للجماهير والالتحام بها والأخذ بأيديها للمشاركة الحقيقية فى صناعة المستقبل المأمول، وليتذكر الجميع أن العيش فى قالب الاضطهاد والمظلومية وتعليق الفشل على شماعة النظام قد ولى زمانه وإلى غير رجعة ولا مبرر للفشل إلا الفشل نفسه.

وللحديث بقية ما كان فى العمر بقية..

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى