الأخبار

«تاكسي» بناهي ينطلق من قلب طهران

29

للفن أجنحة تستطيع النفاذ والتحليق مهما كانت القيود صارمة، وهكذا انطلق تاكسى جعفر بناهى من قلب طهران إلى قلب برلين ليحصد جائزة الدب الذهبى.

كثيرون سيحاولون التفسير السياسى للجائزة رغم أنها مستحقة لعمل فنى به الألق والوهج واللمحة الإبداعية الحاضرة، كما لم تكن فقط لجنة تحكيم المهرجان الرئيسية هى فقط التى منحته الجائزة الأولى، ولكن أيضا كانت من نصيبه جائزة أفضل فيلم من لجنة تحكيم النقاد الدوليين الفيبرسكى ، فهل من الممكن أن تتفق لجنتان مختلفتان فى الأعضاء على نفس المعيار الذى يرى العمل الفنى بمنظور سياسى.

أسوأ تحليل للفن هو أن نحاول عنوة أن نسقط عليه معانى سياسية هو ليس مسؤولا عنها، وهى ما قال عنها الكاتب العالمى أرنست هيمنجواى صاحب رواية العجوز والبحر إنها تُشبه زبيب التقاد ، أى أنك تُقدم لهم خبزا فيعتقدون أنك أخفيت فى العجين بطريقة غير مباشرة بعض الزبيب لتحلية البضاعة، ويبدؤون فى إضافة لزوم ما لا يلزم وربط النص الأدبى أو الفيلم السينمائى بأحداث ووقائع هو لم ولن يكون طرفا فيها، الأسوأ من ذلك هو أن يتم نزع العمل الفنى بعيدا عن كونه عملا فنيا، ويبدأ البعض فى تفسير سياسى للجائزة. رغم أن الحقيقة التى يؤكدها العمل الفنى هى أن بناهى أخذ الجائزة لأنه كان يستحقها مثلما حصل كمخرج على جائزة الدب الفضى عن فيلمه أوفسايد قبلها -بتسع سنوات- جائزة أحسن مخرج، أى قبل أى بوادر خصومة مع النظام الإيرانى الحاكم، وفاز قبل عامين بجائزة أحسن سيناريو الدب الفضى عن فيلمه ستائر مسدلة . أظن أن ثلاث جوائز من نفس المهرجان فى ظل أوضاع سياسية متعددة تؤكد أن جعفر بناهى يكرم فنيا وليس سياسيا.

المخرج الإيرانى صارت أفلامه فى الحقيقة هدفًا لكل المهرجانات الكبرى، نظرا إلى أنه دائما ما يراهن على الإبداع الخاص ولا ينفصل أبدا عن واقعه، ولهذا فهو يقف على الجانب الآخر من النظام، الفنان والمثقف لا يجوز سوى أن تجده على يسار النظام الحاكم، وهو درس أتمنى أن يستوعبه عدد كبير أو القطاع الأكبر مع الأسف من مثقفينا الذين يراهنون دائما على الحاكم ويتنقلون من سلطة إلى أخرى ولا يدركون أن الناس تتابعهم فى تنقلهم ويرصدون كم هم منافقون يصفقون فقط لمن يملك السلطة.

أيهما يكسب فى نهاية الجولة، الفنان أم السياسى؟ إنها معركة أزلية، ومن الممكن أن تجد تنويعات كثيرة على نفس التيمة فى الحياة الفنية والثقافية، وفى نهاية المطاف تعلو سماء دولة الإبداع وتكتب هى الكلمة الأخيرة.

من الممكن أن تجد ما يشفى غليلك وأنت تتابع كثيرًا من الأحداث التاريخية، وفيلم تاكسى ، هو آخر مثال على ذلك. كان بناهى هو الغائب الحاضر بينما هناك كثير من الفنانين الحاضرين فى كل المهرجانات والتجمعات والندوات، ولكن فى حضورهم انصرافًا وفى وجودهم غيابًا، فلا يفرق مع أحد حضورهم من غيابهم. الحياة الفنية مليئة بمن يعشقون الصورة وهم فى الحقيقة لا يستحقونها.

فى كل المهرجانات العالمية هناك ترقب لبناهى، وهو لا يخذل أبدا جمهوره، دائما لديه ما يقوله للناس بدهشة وفن ومتعة، فهو مثل كبار الفنانين لم يفقد قَط الإحساس بالدهشة، ولهذا تستطيع أن تقول إن أفلامه تتعامل مع الساكن والثابت والمألوف إلا أنها من خلال ذلك تقدم لنا دائما وجها جديدا لما نراه مألوفا أو عاديا، وهذا هو سر وسحر الفن.

كان الجميع يترقب الشريط السينمائى، والكل يعلم أن بناهى مقيد الحرية وغير مسموح له بالسفر خارج حدود البلاد، النظام الإيرانى منذ 2009 مع تولى نجاد الولاية الثانية كان قد أدانه جنائيا لوقوفه مع من ينادون بالحرية ويؤازرون تيار الإصلاح، اعتبروه مهددا للأمن القومى للبلاد. وما أسخفها من تهمة وما أبشعه من اتهام. الخلاف فى الرأى أصبح هو الطريق السريع للتشكيك فى الولاء الوطنى، وهكذا صدر بحقه عقابان، الأول السجن 6 سنوات، والثانى عدم ممارسة المهنة 20 عاما، وهو كما تعلمون عذاب قاسٍ لا يقل ضراوة عن السجن.

هل نحن فى تلقى العمل الفنى ننحاز إلى المبدع فكريا ونتعاطف معه إنسانيا ولذا نؤيده فنيا؟ هل التصفيق كان حصادا مستحقا حتى قبل أن نرى الفيلم، أم أنه استحقه لأنه نتاج ما زرعه على الشاشة؟ أظن أن التصفيق للمبدع الموهوب بعيدا عن التعاطف المسبق معه، فهذه قضية أخرى. لسقراط كلمة موحية وهى تكلم حتى أراك ، أى أننا نفهم الناس ونراهم بحق عندما يفكرون بصوت مسموع، وأظن أن بناهى تكلم فأبدع على الشريط السينمائى. إنه الفن الذى ينبض على الشاشة، أتخيل أن أهم رسالة قدمها الفيلم ليست حالة الزخم الفكرى التى نضح بها الشريط، ولا التأييد المسبق لبناهى لموقفه السياسى والفكرى، ولكن الحالة الإبداعية التى حملها الفيلم وبها عديد من الدلالات، منها قدرة المخرج على الحفاظ على بكارة وعفوية من يستقلون التاكسى حتى بعد أن اكتشف أغلبهم أنه جعفر بناهى. وبالمناسبة، كانوا يحملون له مشاعر إيجابية، وليس معنى ذلك أنهم بالضرورة يؤيدون أفكاره، ولكن المؤكد أنه قد وصل إليهم إبداعيا فصاروا متعاطفين معه إنسانيا. نحن نرى طهران بعيون بناهى، ولهذا تأتى اللقطة الأولى وهى تشير إلى ذلك عندما تستمر لمدة دقيقة لأن الإشارة حمراء، ونتابع رؤية الشوارع والسيارات والبشر مع إطلالة بناهى، نرصد زبائنه الذين يستقلون التاكسى مع أكثر من كاميرا ثبتها المخرج على الزجاج الخارجى للسيارة لنرى أحلام وأفكار وكوابيس الناس ومن مختلف الأعمار والفئات.

من الممكن أن تعتبر الفيلم محاكاة تسجيلية لما يعرف بـ أفلام الطريق ، وهو واحد من القوالب الشائعة التى تمنح المتلقى متعة التنقل من مكان إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، وتتعدد فى هذا النوع الشخصيات التى نقابلها، وهذا يضمن للفيلم إيقاعا لاهثا وتنوعا فى القضايا، كما أنه غير مطالب فى كل مرة بأن يقفل القوس الذى يفتحه، فهو من الممكن أن يلتقى شخصية تروى له مشكلة ما ولكنه غير مطلوب منه أن يظل متابعا تفاصيلها ويكتب نهاية الجملة ويقفل القوس، أغلب الشخصيات تقع فى إطار الأقواس المفتوحة.

جعفر بناهى كمخرج حقق ما هو أبعد فى رؤيته التسجيلية من مجرد الرصد، إذ إن الأحداث تنتقل بانسياب ونعومة، وهو لا يتطرق مباشرة إلى السياسة بقدر ما يمنحنا تشريحا اجتماعيا، وكأننا بصدد دراسة مرئية وممتعة لعينة عشوائية.

انتصرت الكاميرا على السجن وحطم السجين قيوده. ويبقى السؤال: ما الذى سوف يفعله الآن حسن روحانى؟ هل سيرسل تهنئة إلى مخرج حمل جائزة الدب الذهبى ورفع اسم بلاده إلى القمة فى مهرجان بحجم برلين، بينما هو فى عرف القانون الإيرانى مدان؟ الفرصة جاءت مواتية وعلى طبق من ذهب لروحانى ليوقف تلك المهزلة التى يعيشها بناهى منذ 5 سنوات وهو ممنوع من مزاولة المهنة ومهدد فى كل لحظة بالذهاب مجددا إلى السجن!!

التحرير

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى