الأخبار

الموت لا ينتظر “الإجازة”

140

هو أول رمضان يقضيه بعيد عن عائلته و ” أمه”، حادثته في الهاتف باكية.. “الفطار ملوش طعم من غيرك.. ولا حاسين بطعم رمضان يا أبني.. ليحاول التماسك أمام صوتها الحزين فيرد عليها مازحًا.. متقلقيش أنا مرتاح مع زمايلي.. أنا خلاص نازل اجازة قريب وهقضي معاكم 10 أيام يا سيتي.. لتغلق الهاتف وتغلبها دموعها.. واحساس يدفعها الى محادثته ثانية، الا أنها اشفقت عليه فمنعت نفسها، الدموع لم تود الانقطاع..شيء ما سيحدث.. لكن من أين وفي من ومتى.. الله اعلم.

تستند إلى “سريره” وتنظر لمكتبه الذي كان يستذكر دروسه عليه.. فتقصد مكتبه وتعيد ترتيب كتبه وتطيل النظر اليها، رغم أنها لا تعرف القراءة.. إلا أنها تئتنس بهم في ليالي فراقه..  حيث انها بجانب كتبه تتذكر مراوغاته لكي يهرب من “المذاكرة”، و”ضحكاته”  التي تملأ جنبات المنزل البسيط.

تتذكر حينما انتهى “صغيرها” من دراسته وبدأ ينهي اجراءات مستندات تجنيده بشغف مقبلًا على استطلاع مستقبله، اجرى الكشف الطبي و تم اختياره لقضاء مدة تجنيده فقالت اخيرًا “هتنشف وتبقى راجل” ليرد عليه ضاحكًا: ” انا راجل من قبل ما ادخل الجيش..هريحكم مني شوية”، لم تعلم حينها أنها سترتاح من “مراوغاته”، واستهتاره بوعودها ونصائحها الروتينية  الى الابد.

ذهب الى منطقة التجنيد ليسمع “توزيعته”، فعلم أنها في “سيناء”، انزعج قليلً.. واستسلم للواقع وفرح عندما علم أن رفيق دراسته الابتدائية الى الجامعة سيكون رفيقه في الجيش، عاد الى بيته وودعهم محاولًا أن يكبح دموعه امام والدته التي تركته الى حجرته بعد أن انهارت من البكاء بمجرد معرفة أن تجنيده في سيناء.. المنطقة المشتعلة دائمًا.. ليدلف ورائها ويمسك يدها مقبلًا “يا سيتي العمر واحد والرب واحد.. ثم أنها سنة هتعدي بسرعة.. وارجع عشان تخطبيلي البنت اللي قلتلك عليها”، لتمسح دموعها ضاحكة “انت عايز تتجوز يا مفعوص انت؟!.

ثم تبدأ في اعداد جميع الاطعمة التي يشتهيها.. رغم تأكيده عليها “مينفع اخد اكل معايا يا ماما انتي عايزهم يقولوا عليا رايح الحضانة”.. وبعد الحاح استجابت لرغبته بشرط أن يلتهم جميع الطعام الذي اعدته له.. واخيرًا لملم اغراضه واستعد للرحيل لكن غلبته دموعه وهو يقبل يديها مودعًا .. خلي بالك من نفسك وحقنة السكر متنسيش تخديها في معادها.. عشان انا ماشي ومش هديهلك تاني”.

ارتجل الى سيارة الترحيلات هو وصديقه بعد أن نادى عليه مندوب التجنيد لاول مرة بلقب جندي.. ضحك ثم صعد الى السيارة.. سارحًا في شكل وحدته التي سيقضي خدمته فيها محاولًا جمع اي معلومات عنها من سائق الحافلة.. ليرد عليه الاخير متقلقش يا دفعة الحياة هناك صعبة شوية.. بس هتعدي يا “بلدي”..بعد مناقشة طويلة دخل في ثُبات عميق الى أن وصل  اخيرًا الى وحدته وبات اول ليلة له كـ “عسكري مستجد” داخل عنبره وفي السادسة صباحًا وقف اول طابور له.. وبعدها في طابور “الهتاف” تم توزيعه في خدمته في احد الاكمنة في مدينة الشيخ زويد التي لا يعرف اهلها كثيرًا الا أنها كان يعاملهم بالحسنى كما أنه لم يرى من اهل المدينة “سوء”.

حمل سلاحه وكان مرهقًا من شدة الحرارة وتأثيرها عليه وهو صائم.. الا أنه يجب أن يتحمل فهذه خدمته.. يقتنص ساعة الراحة ليتمكن من اداء صلاة  الظهر فهذة وصية امه له بأن لا يؤخر صلاة “عشان ربنا يحميك”، صلى وقبض على هاتفه واجرى اتصالًا بوالدته والدموع ترغرغ في عينيه وصوت مبحوح يحاول تغييرنبرته، ما  قابلته امه ببكاء وتوتر.. طلب محادثة شقيقه الاصغر الذي مازال في المرحلة الابتدائية.. “خلي بالك من ماما.. عايزك تبقى راجل جامد” وعاد الى أمه محاولًا المداعبة  متخفيش يا ستي  أنا بخير.. ونازل كمان يومين”، وأغلق هاتفه وعاد الى خدمته حاملًا سلاحه في يد والمصحف فى الاخرى والمشهد هادئ جدًا فالمارة  قليلون والاوضاع ساكنة،  ظل منتظرًا طعام الافطار بين زملائه، لحظات وانقلب “الكمين” الهادئ الى جحيم والنيران تتساقط من كل مكان، لم يترك سلاحه كما لم يترك مصحفه.. شد اجزاء السلاح فاذا به يفاجأ برفيق دراسته ملقى على الارض مصاباً..  يرنو اليه فيجده فارق الحياة.. فينتفض فاذا برصاصة الغدر تأتي له من ظهره فيسقط ويسقط سلاحه الا أن المصحف مازال متمسكًا بيديه، رغم أن الدماء كسا لونه.

الأم مازالت لا تعلم شيئا، مازالت على وعد “صغيرها” بأنه سيحضر بعد غد،  لقضاء الأجازة، أحضرت أغراضها من السوق وبدأت في تجهيز الطعام له مسبقًا، لكن جاءها اتصال.. حضرتك أم الجندي الفلاني.. لتجيب “ايوة”.. ليرد عليها .. البقاء لله ابنك مات شهيد”.. لتسقط  من هول المكالمة مرددة “لا لا لا.. انتو بتكدبوا عليا.. هو جاي يفطر معايا بكرة.. هو وعدني بكده”.

“ازاي وامتى ومين اللي قتله” كانت تسأل والجميع يعجز عن النطق، الى أن استلمت جثمان ابنها محمولًا على أعناق زملائه، مغطي نعشه بعلم بلاده، يتبعه عدد من اقرانه.. فمال احدهم على أم الشهيد :” مش هنسيب حقه يا أمي”.

مصراوى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى