الأخبار

بروفايل| أمل دنقل.. من كره السفينة وأحب الوطن

 

251

سافر في القطارات العتيقة ومعه «صوت الكمان»، ورفع صوته بـ«الثورة» كي يطغى على صوت «عجلات الظلم» الهادرة، وسار مع الناس «في المهرجانات»، أصغى لبوق الجنود وفي حلقه «غبار النشيد الحماسي»، وانكسر كمانه تحت كعوب البنادق، وظل هو «في انتظار السيف».

دارت معه الدنيا دورتها وحملته «الشواديف» من هدأة النهر إلى «جداول أرض الغرابة»، وصاح في النيّام «لماذا تصطفون يا جياع كي يلقى لكم عهد الأمان».

محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل، الصعيدي المولود في قرية «قفط» القنائية، لأب من علماء الأزهر الشريف، كان له أثر واضح في قصائده، فنهل من شعر والده العمودي ومكتبته العامرة بكتب الفقه والشريعة والتفسير والتراث العربي، ورحل عنه في العاشرة من عمره، وترك الأمر مسحة حزن على أشعار «الجنوبي».

ظل «أمل» طيلة حياته التي لم تتعد عتبة الـ 43 عامًا، يقول «لا» في وجه من يقولون «نعم»، لم يحن جبته أبدًا لحاكم أو سلطة فكان أميرًا لـ «شعراء الرفض».

أتم صديق «زرقاء اليمامة» دراسته الثانوية في قريته الجنوبية، وشد الرحال إلى «قاهرة المعز»، فالتحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة ولم يمر عام واحد حتى غادر الكلية والجامعة.

عمل صاحب «سبارتكوتس»، في محكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية، وموظفًا في منظمة التضامن الأفروآسيوي، وظل الشعر في صدره وعينيه ويديه لم يفارقه لحظة، رافضًا لكل ما يخالف الطريق التي رسمها لحياته، هو لا يصلح إلى للشعر.

لم تمر هزيمة العام 1967 على «أمل»، إلا وأطلق معزوفته التي أودعته «طريق الشهرة»، فكانت «البكاء بين زرقاء اليمامة»، أول الأعمال الشهيرة، فكتب مُحبطًا ومُتألمًا:

تكلَّمي أيتها النبية المقدسة

تكلمي .. باللهِ .. باللعنةِ .. بالشيطانْ

لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان ..

تلعق من دمي حساءَها .. ولا أردُّها !

تكلمي … لشدَّ ما أنا مُهان

لا اللَّيل يُخفي عورتي .. كلا ولا الجدران !

ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها ..

ولا احتمائي في سحائب الدخان !

.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين .. عذبةُ المشاكسة

( – كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادْق

فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادقْ

وحين مات عَطَشاً في الصحَراء المشمسة ..

رطَّب باسمك الشفاه اليابسة ..

وارتخت العينان !)

فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدان ؟

والضحكةَ الطروب : ضحكتهُ..

والوجهُ .. والغمازتانْ ! ؟

عزم الرئيس الراحل أنور السادات على كتابة «معاهد سلام» مع الكيان الصهيوني، فصرخ مُطلقًا قصيدته الأشهر «لا تصالح»، فكتب:

لا تصالح على الدم.. حتى بدم!

لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ

أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟

أقلب الغريب كقلب أخيك؟!

أعيناه عينا أخيك؟!

وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك؟

سيقولون:

جئناك كي تحقن الدم..

جئناك. كن -يا أمير- الحكم

سيقولون:

ها نحن أبناء عم.

قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك

واغرس السيفَ في جبهة الصحراء

إلى أن يجيب العدم

إنني كنت لك

فارسًا،

وأخًا،

وأبًا،

ومَلِك!

وترك للأجيال القادمة التي رأى فيها أمل استكمال الرفض والوقوف على يسار الحُكام فأوصاهم بألا يُصالحوا، ولو وقفت ضد سيوفهم كل الشيوخ، والرجال التي ملأتها الشروخ، الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم، وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ.. «لا تصالحوا» على الدم حتى بـ«دم».

تزوج من الكاتبة الصحفية والناقدة عبلة الرويني في العام 1979، وكتبت عنه كتابها الأهم “الجنوبي”، الذي يحكي سيرة الشاعر الراحل ويعد من أهم ما كتب عن أمل دنقل.

كانت «أوراق الغرفة 8» آخر دواوين «أمل»، وكتبه في مرضه الأخير ونُشر بعد وفاته، نقل فيه لحظاته الأخيرة وعبّر فيه عن معاناته مع المرض، واللحظات الأخيرة في حياته، ومن «ضد مَن»:

في غُرَفِ العمليات

كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ

لونُ المعاطفِ أبيض

تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات

الملاءاتُ

لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن

قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ

كوبُ اللَّبن

كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ

كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ

فلماذا إذا متُّ

يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ

بشاراتِ لونِ الحِدادْ

هل لأنَّ السوادْ

هو لونُ النجاة من الموتِ

لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ

صدر لـ«أمير شعراء الرفض» 6 دواوين، هي «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»(1969)، و«تعليق على ما حدث»(1971)، و«مقتل القمر»(1974)، و«العهد الآتي»، (1975)، و«أقوال جديدة عن حرب بسوس»(1983)، و«أوراق الغرفة 8» (1983).

قال الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في مرض أمل الأخير: «إنه صراع بين متكافئين، الموت والشعر»، ورحل أمل من «الغرفة 8» وفارق دنيانا في مثل هذا اليوم من 32 عامًا.

رافقه في لحظاته الأخيرة صديق عمره، الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، والدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة السابق.

قالت عنه زوجته: «حاول البعض مساعدته للصعود إلى المسرح فرفضهم بقسوة، وصعد وحده لإلقاء قصيدة (لا تصالح)، كان المهرجان رسميًا (من تنظيم وزارة الثقافة) وأمل يعلن وصيته الأخيرة واضحة، قاطعة كالسيف: «إنها الحرب، قد تثقل القلب، لكن خلفك عار العرب، لا تصالح ولا تتوخ الهرب»، قاطع الجمهور القصيدة بالتصفيق الحاد مع كل مقطع أو صورة شعرية، بينما ترك أمل عكازه، ووقف على قدميه بصلابة، وأنا لا أكاد أصدق أنه استطاع الوقوف ثابت القدمين، دون عكاز، طوال هذا المدة».

 

 

 

 

 

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى