الأخبار

الهروب من موت إلى آخر

68

آلاف السكان هربوا من جحيم الموت أسفل أنقاض زلزال 1992، ليتحولوا بعد مرور أكثر من 20 عاماً إلى مهددين بالموت مجدداً أسفل مساكن الزلزال بمنطقة إمبابة، هنا يسكن أكثر من 14 أسرة فى الطابق الواحد، فى غرف لا تتعدى مساحة الواحدة منها 60 متراً، أم وأب وأبناء وحما وإخوة، الكل يجتمع تحت سقف واحد آيل للسقوط، حديد التسليح يظهر من بين الجدران، وحوائط يحذر سكانها من الاقتراب منها خوفاً من حدوث ماس كهربائى بسبب تدفق المياه وصولاً إلى أسلاك الكهرباء، وتكتلات أسمنتية هنا وهناك فى محاولة لسد ثقوب وتشققات الجدران والأسقف، وأطباق كبيرة فى منتصف الغرف لتجنب سقوط الجير والمياه على الأسرّة.

وبسؤال أهل المنطقة عن أخطر المناطق المهددة بالسقوط تشير أصابع الجميع إلى «بلوكات» إيواء منطقة أرض عزيز عزت، هنا سكان فى انتظار النجاة من الموت للمرة الثانية، بينما تتناثر بيوت أخرى مهددة فى مناطق كثيرة متفرقة بشكل عشوائى. بلوك رقم 3، من المشهد الخارجى فقط يبدو للمار بجواره أنه الأسوأ، مياه تتساقط من جميع جنباته، وحوائط وأساسات شروخها واضحة، عندما يجرى من يضطر للمرور بجواره مسرعاً خوفاً من سقوطه فى أى لحظة، لا يتساءل سكانه عن السبب، فهم على دراية بما يعيشون فيه، حتى إن أغلبهم تركوا غرفهم وباتت جلستهم طوال النهار فى الخارج على الرصيف أو على أعتاب المنزل البسيط، لعلهم يستطيعون الهرب وقت وقوع الكارثة، لكن ما إن يأتى عليهم الليل فلا مفر لهم من النوم أسفل الأسقف المتهالكة تحتضنهم الجدران بشروخها، داعين ربهم أن تمر ساعات الليل سريعاً حتى يأتى نهار جديد فيخرجون مرة أخرى على بوابات المنزل.

مغامرات الليل والنهار روتها سهام كمال، من سكان الطابق الأرضى، فمجرد رؤيتها للكاميرا اعتقدت فى بادئ الأمر أننا تابعون للحى فهمّت بالشكوى من المياه التى أغرقت شقتها البسيطة المكونة من غرفة واحدة ومطبخ ودورة مياه لم يتسع مكانها لغلقها بباب فباتت «ستارة» بسيطة هى الساتر الوحيد. وبعد التأكد من هويتنا بدأت تحكى معاناتها: «أنا ساكنة هنا مع ولادى وجوزى وكل يوم نغرق من السكان اللى فوقنا، وكأن الحكومة رمتنا فى المساكن دى من غير ما تعملها بضمير، المشكلة كل يوم بتزيد والحديد باين من السقف وبلكونة جارنا فى الدور التانى باشت من الميه وقربت تقع على دماغنا».

تتدخل «أم ريمون»، جارة سهام، فى الحديث وتشير إلى الطابق الخامس الذى سقط أحد جوانبه منذ يومين، تقول: «إحنا قاعدين زى ما احنا على الرصيف زى كل يوم، فجأة سمعنا صريخ ولقينا كوم طوب وتراب وقعوا قدامنا، بنبص فوق لقينا واحد بيسند على سور الدور الخامس وقع بس الحمد لله الولد لحق نفسه وبعد على طول». الجميع يشتركون فى احتمال سقوط العقار بالكامل، لكن تختلف أزماتهم وفقاً لكمية المياه التى تخرج من الجدران وكذلك أماكن وجودها، كل طابق مقسم إلى 14 شقة أو كما يسميها السكان «أوضة»، أكثر من 70 أسرة فى العقار الواحد. من مشكلة الخوف من سقوط العقار إلى مشكلة الماس الكهربائى الذى كاد أن يدمر منزل محمد عثمان بالطابق الثانى، فترك المنزل بعد رعبه وأبنائه من ليلة صعبة بعد اشتعال السخان الكهربائى، تحكى جارته «ياسمين» ما حدث: «بيوتنا كلنا غرقانة ميه ناشعة، والحيطة بتقع علينا والمسلح مشروخ، كل ده خلاص اتعودنا عليه، لكن المشكلة إن الميه وصلت لفيشة الكهربا فى بيت أستاذ عثمان والسخان عمل ماس فى الشقة وكانت الدنيا هتولع لولا إننا فصلنا الكهربا وجرينا نلحق الناس والحمد لله جت سليمة».

إلى الطابق الثالث، حيث يسكن حسام أنور وزوجته وأولاده ووالدته، كلهم يجتمعون فى غرفة واحدة وصالة صغيرة، قاده سوء حظه إلى أن يقوم بعمل تجديدات فى المنزل وترميم على أمل أن يصمد فى مواجهة الشروخ الكبيرة، لكن سرعان ما ضاع ما أنفقه بعد ما يقرب من شهر فقط فعادت المياه مرة أخرى تأكل الجدران وشروخ كوّنت لوحات فنية فى كل مكان أكثر من ذى قبل. يقول مجدى إمام، أحد سكان العقار: «إحنا المفروض ماندفعش إيجار لأن دى مساكن المحافظة، ولكنهم بياخدوا مننا فلوس تحت مسمى إنها للصيانة، مبالغ تتراوح بين 37 جنيهاً و60 جنيهاً شهرياً من كل شقة أو غرفة، ولكن فى النهاية محدش حس بأى صيانة أو ترميم، السلم وقع مرتين على فترات متقاربة، جمعنا من بعض فلوس وبنيناه، والصرف كله مغرّق الشوارع وناشع فى الحيطان، حاولنا نرممه بس مش كل الناس هتقدر تدفع، أغلب اللى هنا ناس غلابة، اشتكينا للحى وقلنالهم المسلح اتقسم نصين ومفيش فايدة».

من مجرد الشكاوى إلى محاضر فى القسم تقدم بها سكان بلوك رقم 1، حتى يُحملوا مسئولى الحى والمحافظة مسئولية الإهمال، قال محمد عبدالفتاح: «ذهبت أكثر من مرة لعمل محضر فى القسم ضد الحى لإهماله فى صيانة بلوكات أرض عزيز عزت، ووجدت أن الأمر معروف هناك فلم أكن أول واحد أو آخرهم». الأمر نفسه أكده شعبان عبدالحميد، أحد سكان العقار، الذى توجه إلى حى شمال الجيزة وقام بعمل شكوى رقم 944 لسنة 2015 ينذرهم فيها باحتمال وقوع كارثة من انهيار مساكن الزلزال لعدم ترميمها: «فى يوم قررنا نعتمد على نفسنا ونجمع فلوس الترميم لكن الموضوع مش سهل والتكلفة كبيرة، ولو احنا قدرنا ندفع غيرنا ناس بسيطة عايشين أكتر من 5 أفراد فى أوضة وصالة ماقدروش يدفعوا معانا ورجعنا لنقطة الصفر مرة تانية».

من بلوكات الزلزال إلى مساكن مشروع ناصر، الكل فى مربع سكنى واحد يشتركون فى أنهم فى انتظار قرارات الإخلاء أو السقوط فوق رؤس سكانها، جلست سيدة ستينية على بوابة أحد المنازل تبيع بعض الحلوى ويجلس بجوارها زوجها المسن، بمجرد دخول غرفتها فى الطابق الأرضى تنبه على الجميع ألا يقترب أحد من الجدران خوفاً من أن تكون «مكهربة» تقول أم رشدى: « لولا ستر ربنا لما الشروخ زادت فى السقف المروحة وقعت علينا واحنا نايمين وقتها كان ولاد ولادى بايتين معانا، ومن بعدها الميه نشعت ووصلت لسلوك الكهربا، وبقينا نخاف نقرب من الحيطان أحسن نتكهرب، كل اللى عايزينه شوية أسمنت يحوشوا عننا الميه».

آلاف الأسر فى منطقة أرض عزيز سقطت من حسابات الدولة، على حد قولهم، وأيضاً لم يهتم بهم المرشحون البرلمانيون، فلم يروا أحداً منهم سوى يوم الانتخابات يحثهم على انتخابه دون النظر أو الاستماع لشكواهم، وبات دورهم الآن أن يدعوا الله لكى ينجيهم للمرة الثانية كما أنقذهم سابقاً فى زلزال 1992.

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى