الأخبار

ذِكْرىَ عَدْلِي أبَادِير

16

 

لما مات “أنبير ابن ناير” الذﻱ كان رئيس جيش في العهد القديم، رثاه “داود” النبي والملك قائلاً : “ألا تعلمون أن رئيسًا وعظيمًا سقط اليوم في وسط شعب الله”.. هكذا في مثل هذا اليوم ، انتقل إلى السماء “عدلي أبادير”. ونستطيع أن نقول : إنه في هذا اليوم سقط عظيمٌ في صفوف أقباط هذا الزمان.. كان عظيمًا، ومن أشهر أراخنة هذا الجيل. عظيمًا في شخصه.. مُهابًا الجانب.. مشتهرًا بالجراءة والمجاهرة؛ فعاش ومات مقاتلاً ضد الظلم والتمييز وتمييع الأمور وإفساد القضايا. أحب “مصر” وشعبها كله، ودافع عن حقوق الأقباط ومساواتهم في المواطنة كشركاء في “مصر الوطن”.. كان ذلك هو أهم مشروع في حياته، فلم ينشغل بالغنى والاسترخاء ؛ لأنه كان غنيًا بالله كالغني الذكي. خادمًا لاحتياجات أقباط مصر الغلابة كما كان يسميهم. وله أيادٍ بيضاء في مشروعات اجتماعية وتنموية وتعليمية مع الطيب الذكر المتنيح الأنبا “صموئيل”- أسقف الخدمات العامة- والمتنيح الأنبا “أثناسيوس”- مطران بني سويف- والكثير من الآباء الذين شاركهم في تكميل أحلامهم. وبالرغم من هجرته المبكرة من “مصر” الوطن؛ إلا أنه لم يهجرها؛ بل كان حيًّا فيها، منشغلاً بها أكثر من المقيمين فيها، مهتمًا برفعة “مصر” ومكانتها وتقدُّمها. وقد كنتُ شاهد عيان لحواراته مع صفوة من المفكرين حول مستقبلها وازدهارها. عظيمًا في آرائه وأفكاره وأُطروحاته، وقد سعدتُ بمناقشاته ومداخلاته في لقاءات مع د. “كمال أبو المجد”، د. “جهاد عودة”، ود. “رفعت السعيد”، ود. “سعد الدين وهبة”، ود. “أحمد أبومطر”، ود. “وفاء سلطان”، والكاتب “نبيل شرف الدين”.. وفي جميعها كان مقنعًا مقتدرًا مسموع الصوت، نبيلاً من طراز خاص. فلم يكن قابلاً للابتزاز والخنوع، ولا لمحاولات الغواية، كذلك لم يمكن إرهابه أو شراؤه أو إخراسه. عانى آلامًا كثيرة ومطاردات مريرة؛ وأقوالاً شنها عليه الأعداء، واضطهدته أرباب السهام، لكنه ثبَت بمتانة قوسه وتشدَّدت سواعد يديه. وما أعظم قوة يمين الله التي ساندته، وهنا أذكر ما كان يردده “صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك” (تك ٣٢ : ١٠). لم يستحِ بالمسيح ، ولم يخجل بشهادة ربنا. وكانت السمة المميزة لكل من يسمع عنه أو يتعامل معه أنه القبطي الذﻱ من صعيد “مصر”، وقد تحمَّل لأجلها المعاناة والسجن والهجرة. وفي هجرته لم ينسَ، بل اجتهد ليتزكى، وخزن لنفسه كنزًا عندما أشرك غيره في الخيرات، وأحسن على المُعوَزين بسخاء. “عدلي أبادير” تكلم بأعماله وعمل بأقواله، فكان وفيًّا بشعبه وكنيسته وبلاده. وفي مضمار الملف القبطي، وضع مجهودات قيمة حركت مياهًا كثيرة راكدة، وساهمت في وضع القضية على الخارطة، وحرص على إفاقة المكبَّلين بالاستكانة والأفكار الرثة. كذلك اهتم فيما اهتم بالقبطيات وبقضايا إحياء التراث ، رائدًا في الأعمال الموسوعية. وقد كان له مساهماته البارزة في عمل الموسوعة القبطية التي حررها د. “عزيز سوريال”، وكذلك في عمل الموسوعة التي حرَّرها د. “سمير فوزي جرجس”. هذا وقد آزر د. “راغب مفتاح” في مشروع النوتة الموسيقية القبطية ، إضافة إلى تشجيعه ومشاركته للمتنيح أنبا “أثناسيوس” في تأسيس دور التحرير والنشر بـ”بني سويف” لطباعة الكتب الطقسية والليتورجية. لم يكن “عدلي أبادير” من المسترخين، بل كان كل يوم عنده كآخر يوم؛ فكان كمن يركض ليتمم أعمالاً كثيرة يتابعها ويكملها بكل صبر وتصميم. وبينما كان المرض قد أقعده عن السير، إلا أنه كان سائرًا وثائرًا كصوت صارخ أمام الآلة الإعلامية الجهنمية التي كالت له الاتهامات والاغتيالات المعنوية، فكل إناء ينضح بما فيه. أذكر أنه كان يطلب الصلاة عنه: “صلِّ لي يا أبونا”، والآن هو الذي يذكرنا. إنه لم ينفصل عنا بالموت، وإنما تغير عمله لتكميل الخدمة؛ فهو وإن خلع خيمة الجسد الأرضي؛ لكنه لم يخلع عنه جسد الكنيسة، وسيظل في شركة مع إخوته؛ فنفوس الموتى الأتقياء لا تغادر الكنيسة التي هي ملكوت المسيح. كان دائمًا يردد مزمور “باركي يا نفسي الرب” (مز ١٠٣)، الذﻱ أتقنه وعاشه منذ الصغر. فلتشمله إحسانات الرب الأبدية، ولينَل الجعالة الحسنة، وليغفر له الله ذنوبه، وليكلله بالمراحم والرأفات، وليتمتع بمعيّة الملائكة المقتدرين قوة الفاعلين مرضاة الله. أما نحن الأحياء ، فليجدِّد الله شبابنا كالنسور، وليُشبع بالخيرات أعمارنا لنكمل مسيرة غربتنا. ولتدركنا مخافة الله لأنه يعرف جبلتنا. وكبعد المشرق عن المغرب أبعد عنا معاصينا. رحم الله “عدلي أبادير”، ولتكن ذكراه الحسنة إلى الأبد.

 
الاقباط المتحدون

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى