الأخبار

بثينة كامل تكتب لـ

54

كانت الساعة الواحدة صباحًا، إذ بدأت قوات الأمن في إلقاء كميات هائلة من الغازات المسيلة للدموع، والمعتصمون بدؤوا يهربون إلي الشوارع الجانبية وأنا معهم، فتوجهت مع مجموعة إلي باب اللوق وأنا أحذّر الغرباء منهم عن المنطقة بضرورة الابتعاد عن محيط وزارة الداخلية، وإلا فإنه الفخ. ووسط الغازات الخانقة وجدت أسرة تحمل معها أطفالها، وهالني جنون الوالدَين والأطفال يبكون فزعًا، بينما الأم والأب خاطباني بأنه “يا نعيش أحرار يا نموت معًا، ليس لدينا حل سوى ذلك”، فتركتهما وأنا متضررة قليلاً من قسوة سلوكهما.

وفي إحدى هجمات رجال الأمن هربت إلى أحد الشوارع الجانبية وتكومت علي الأرض في الظلام الدامس على باب أحد المتاجر المغلقة، وأعتقد أن ذلك كان بشارع هدى شعراوي من ناحية باب اللوق، وقبعت أشاهد ذاهلة أحد الشبان الذين وقعوا في أيديهم يُضرب بمنتهي القسوة والوحشية علي أيدي مخبرين “بكروش” وأنا لا أملك إلا البكاء عجزًا وقهرًا (كنت لما رجعت البيت تقّلت في الهدوم وكنت لابسة سويتر أصفر فوسفوري بينور في الضلمة.. غباوة.. ومش عارفة كانوا شايفنّي وسابوني ولّا عميوا عن وجودي على مقربة منهم).

عُدت لألتقي متظاهرين آخرين يحاولون إعادة الدخول إلي ميدان التحرير المرة تلو الأخرى، ولكن كان ذلك ضربًا من المستحيل وسط مطاردات رجال الأمن، وفي أحد الشوارع الجانبية جلست كي ألتقط أنفاسي عقب الجري وسط الغازات، فوجدت شابًّا يأتي إليَّ ليطلب مني أن ندعي أننا حبيبان وطلب معرفة اسمي، فلا يمكن أن يكون على غير علم باسم حبيبته، وانقطع الحوار بيننا عند هرولة بعض جنود الأمن المركزي وضابط نحونا، ثم تبين أنهم يهربون مثلنا من الغازات التي لم يعودوا يحتملونها.

في تلك الأثناء عند شارع الأنتكخانة قابلت شبانًا يعملون في “جروبي”، وهو الذين كنت قد قابلتهم هناك مساء اليوم السابق، فأعطيتهم شالاً أحمر وآخر موف لاتقاء رائحة الغاز، وأخذت محاولاتنا الدؤوبة في التجمع والتظاهر تفشل مرة تلو الأخرى، ووجدت نفسي وحيدة عقب إحدى الهجمات، فقررت أن أعود إلى بيتي، وكان قبلها أحد المتظاهرين قد نبّهني إلى حوار بين الضباط ذُكر فيه اسمي وعدت مترجلة يتعقبني أحد المخبرين ولا أدري ماذا كانوا ينتوون، لكن أحد أقاربي انتظرني بسيارته والتقطني في منتصف الطريق واستقر الأمر على ضرورة اختبائي بمكان آمن وعدم المبيت بمنزلي. وجاءني تليفون من “زوجي” المقيم بدبي وقتها ولم نكن قد تزوجنا بعد، ليطمئن على أحوالي وأنا في شدة الإرهاق ليسألني عن مكاني وينصحني بضرورة أن ألجأ إلى مخبأ آمن، فأجبته بأني لا أستطيع أن أخبره بمكاني، لأني بالفعل في المكان الآمن، وبالتأكيد التليفونات مراقبة.

وفي الصباح بقيت ببيتي طوال اليوم، ثم انطلقت بعد الظهر إلى أحد استوديوهات الصوت لتسجيل قصيدة “بيان تغيير” للشاعر هيثم دبور (موجود أيضًا على يوتيوب) وعلمت من الشباب أن الطريحة التي أعطيتها لضابط الأمن المركزي بدوران شبرا قد تم بثها على يوتيوب تحت عنوان “بثينة كامل تحرض المواطنين ضد الشرطة في دوران شبرا يوم 25 يناير”.

ثم توجهت إلى إحدى صديقاتي لتجربة علاج طبيعي لظهري، حيث كنت أعاني آلامًا مبرحة. أنهيت الجلسة العلاجية التي أعطتني الفرصة للمشاركة في الثورة واعتصام الثمانية عشر يومًا التالية في ظل ظروف قاسية أقلّها البرد.

وعلى باب العمارة سألني الحراس الصعايدة عن رأيي في ما إذا كانت مشاركتهم يوم 28 (جمعة الغضب الأولي) مفيدة وضرورية أم لا؟ تناقشنا واتفقنا على ضرورة المشاركة جميعًا، وأتذكر أنه بعدها بأكثر من سنة توجهت إلى ذات المكان فتذكرني الحراس وذكّروني بلقائنا السابق، وتناقشنا في أحوال البلاد.. واتفقنا على أن أيًّا من مطالب الثورة لم يتحقق بعد.

 

 

التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى