الأخبار

أول فيلم مصري عن الثورة لا صورتها الذهنية

96

في كلمتها التي تلت العرض العالمي الأول لفيلمها الطويل الثالث “نوّارة”ضمن فعاليات مهرجان دبي السينمائي الدولي الثاني عشر، قالت المخرجة هالة خليل إنها كانت تقول باستمرار أنه من المبكر جداً صناعة فيلم عن الثورة المصرية، لكنها لم تستطع عندما أقدمت على كتابة فيلمها إلا أن يكون عن الثورة. تصريح يحمل شقاه تناقضاً قد لا يفهمه البعض، لكنه في حقيقة الأمر يعكس سر تميز فيلم “نوّارة” واختلافه عن جميع الأفلام الروائية المصرية التي صُنعت خلال السنوات الخمس المنقضية، متعرضة لأحداث ثورة يناير وتبعاتها.

تعرف على أبرز الأفلام المعروضة في أيام وليالي مهرجان دبي السينمائي 2015

كل الأفلام التي يمكنني تذكرها، وباختلاف أساليبها ومستواها الفني، تعاملت مع الثورة باعتبارها حدث إيكزوتيكي exotic، ذروة درامية صالحة بشدة لإنهاء فيلم يتحدث عن الفساد أو الظلم، أو حتى لبداية حكاية لم تكن لتبدأ إلا بوقوع حدث بهذه الضخامة ـ “فرش وغطا” نموذجاً ـ وإجمالاً ظلت الثورة حدثاً محورياً في حياة جميع الشخصيات الدرامية، سواء في انخراطهم فيها أو تأثرهم بها، وهو ما يمكن اعتباره تصديراً لصورة الثورة الذهنية لدى صانع الأفلام، كحجز زاوية في حياته الشخصية التي تنعكس بالطبيعة على حيوات شخصياته، لكن الحقيقة أن الحدث لم يكن بهذه القيمة الهائلة في حياة ملايين المصريين.

“لم أنزل التحرير لأن خطيبي علي خاف عليّ من الزحام، لكن عندما تنحى مبارك نزلنا كلنا لنحتفل”، هكذا تروي نوّارة (منّة شلبي) بطريقتها البريئة للوزير السابق الذي تعمل خادمة في قصره (محمود حميدة)، معبّرة عن علاقة بالغة الصدق ربطت نسبة لا بأس بها من المصريين بالحدث: لم ينشغلوا به إلا بقدر تأثيره على حياتهم اليومية، احتفلوا بلحظة شعروا فيها ببعض الأمل في تغيير واقعهم العسير، ثم عادوا سريعاً لممارسة هذا الواقع. نوّارة احتفلت بالتنحي ثم عادت سريعاً لأن لديها عمل في الصباح لو لم تذهب إليه لصارت في مشكلة حقيقية لا تحلها أي شعارات ثورية.

حكاية من فصلين فقطإذا تعرضنا بالتحليل للفيلم سنجد أنه يمتاز ببناء مختلف عن الشكل المعتاد، فالبناء الدرامي الطبيعي لأي عمل درامي بل أي حكاية على الإطلاق هو أن تتألف من بداية ووسط ونهاية، أو حسب المصطلح الدرامي من ثلاثة فصول، يتم تقديم الشخصية الرئيسية في أول الفصل حتى تقع في المأزق أو تبدأ المغامرة على مدار الفصل الثاني وصولاً إلى الذروة فالحل في الختام. هالة خليل التي قامت بكتابة السيناريو بنفسها تنحو لاختيار مغاير بجعل فيلمها من فصلين لا غير، لكل منهما أسلوبه السردي المختلف إلى حد كبير عن الآخر، الأمر الذي ربما كان سبب شعور البعض بانطباعات مختلفة حول نصفي الفيلم.

النصف الأول من العمل مرويّ على طريقة اليوميات Chronicles، التي تستمر لقرابة الساعة في وضع المشاهد داخل الجو العام لحياة نوّارة وعالمها، وتنقلها اليومي بين حياتها في الحارة الفقيرة التي لا تمتلك حتى مصدراً للمياه الجارية، وبين القصر الفاره الذي تعمل فيه. خلال هذا الفصل العالم المحيط بنوارة مليء بالأحداث التي يمكن في سياق آخر أن تكون سبباً في دراما العمل: الحاجة للمياه ووالد خطيبها المصاب بسرطان لا يجد سريراً كي يعالج عليه منه، الثورة التي قامت وتأثيرها على حياة أرباب عملها الذين تتنازعهم رغبتا الهرب والبقاء، وأمل نوارة نفسها في العثور على شقة تتزوج فيها.

نوارة

كل ما سبق أحداث تحمل بشكل مجرد قيمة درامية مرتفعة، لكنها لا تشكل في المسار الفيلمي أكثر من يوميات نوارة، فإذا كان علم السيناريو يفرق بين الفعل action والحدث event باعتبار الفعل أمر يومي كالاستيقاظ وتناول الطعام وارتداء الملابس، بينما الحدث هو ما يؤثر في الشخص ويوقف مسار الأفعال الطبيعية، فإن كل هذا الصخب لا يمثل لنوارة في الحقيقة أكثر من مجموعة من الأفعال التي تحدث على هامش حياتها المليئة بالكدّ. أفعال تتجاوب البطلة معها بالطبع فتسعد وتحزن وتتعاطف وتأمل، لكنها في النهاية كوّنت مناعة ضد التوقف، لأنه خيار غير متاح معنى حدوثه وقوع كارثة لها ولذويها. هذا الشكل من السرد يجعل الإيقاع تلقائياً أكثر تثاقلاً، ويراهن على التأثير على مشاعر المشاهد وحيازة اهتمامه وتعاطفه مع الفتاة، لأن ذلك لو لم يحدث ـ وهو أمر وارد بالطبع ـ فلن يجد المرء سبباً لمتابعة تلك الحياة التي يرصدها الفيلم.

في الفصل الثاني ينقلب شكل السرد كلياً، وتحديداً من اللحظة التي يقرر فيها أصحاب الفيلا السفر للخارج وترك نوّارة لتعيش فيها حتى لا يعلم أحد برحيلهم. هذا هو أول “حدث” يقع بمقاييس الدراما، يخل بحياة البطلة الطبيعية، ليبدأ في تصعيد سلسلة من الوقائع والأحداث على النمط الكلاسيكي هذه المرة، حدث يؤدي إلى الآخر وفجوة درامية تجبر الشخصيات على اتخاذ قرارات أصعب لم يكونوا ليأخذوها لو سارت حياتهم على صورتها الطبيعية، رغم قسوة هذه الظروف الطبيعية. وهو الفصل الذي يتسارع فيه الإيقاع ـ تلقائياً مرة أخرى وفقاً لأسلوب السرد ـ فيكون الفيلم فيه قادر على التواصل مع نسبة أكبر من الجمهور، مع رهان آخر هو احتمال خسارة من أعجبهم سكون الفصل الأول وقدرته على الرصد الخافت دون تصعيد على الطريقة المعتادة في السينما التقليدية.

الفيلم ينتهي عند ذروة الفصل الثاني. لن نحرق الأحداث ولكن سنقول أن نقطة النهاية هي بداية لفصل جديد يفترض أن تدخله نوارة وزوجها علي (أمير صلاح الدين)، بعد أن أنضجتهم التجربة وصارا أقل سذاجة في التعامل مع معطيات الحياة، وهو الفصل الذي لم يتواجد بشكل مقصود، حتى لا يقتصر الأمر على نوارة وحدها، فالأمر في النهاية يمس الملايين، حتى لو لم يقع معظمهم في مأزق مثل الذي وقعت فيه البطلة.

نوارة

الأمل الواهم وطبيعة الارتباط بالحدثنوارة احتاجت الكثير من المتاعب حتى تتخلص من أملها الواهم في تحسن لم يأت أبداً، تحسن رفعه البعض كشعارات وتاجر به البعض، واستخدمه الإعلام بغرض أو بسلامة نيّة، لكسب المزيد من المشاهدين والمستمعين، ومنهم ملايين أمثال نوّارة، ممن علقوا آمالهم على التصريحات الخيالية حول استعادة مليارات منهوبة وتوزيعها على الشعب، وصار كل منهم يحلم بيوم استلام نصيبه من الأموال المستردة ويخطط لما سيفعله بها!

نوارة

تعامل قاس؟ ربما، لكنه في النهاية أقل قسوة من الواقع نفسه، والذي تقول كل شواهده أن هناك ثورة قامت للمطالبة بحقوق الفقراء في حياة أفضل، فصارت حياتهم بعد خمس سنوات منها أكثر عسراً وألماً، وفقدوا فيما فقدوا قدرتهم على الحلم بمستقبل أفضل، بعد تكرار الأحلام العريضة التي انتهت على لا شيء. في هذا تحديداً يكمن سر قوة الفيلم الذي ذكرناه في المقدمة: أنه لا يتعامل مع الثورة كحدث إيكزوتيكي يشعل المشاعر بصور الميادين فيوقف مسار العقل، بل يراها من وجهة نظر البشر الذين لم يسعوا إليها ولم يقفوا في وجهها، فقط تابعوا وداعبهم الأمل ثم عادوا لحياة تزداد صعوبة يوماً بعد يوم.

إشادة وحدث وخاتمةإذا كنت قد أشدت بجرأة هنا شيحة في لعبها لدور البطولة في فيلم “قبل زحمة الصيف” والذي سترفضه بالتأكيد ممثلات “الفن النظيف.. من الأفكار”، فإن منة شلبي تستحق إشادة ثلاث مرات، مرة لقبولها دوراً يحتوي على مشاهد جريئة هي الأخرى، ومرة لأنه دور تتخلى فيه عن صورة النجمة فتظهر طيلة زمن الفيلم بدون أي ماكياج أو محاولة للتجمّل، ومرة قبل كل هذا على الأداء الرائع لشخصية نوارة، ببراءتها وسذاجتها المقترنة بدهاء فطري عند الحاجة.

الفيلم يشهد حدث غير مسبوق في السينما المصرية، هو وجود ممثل نوبي يلعب دور البطل ويحب النجمة بل ويقبّلها. الممثل هو أمير صلاح الدين الذي يأخذ بالدور خطوة مهمة في مشواره الملفت للانتباه كممثل ومغن. واختياره للدور قرار يجب تحية هالة خليل عليه، ليس فقط لتحطيمه قواعد جامدة سخيفة في الصناعة، ولكن لأنه أثرى الفيلم وأضاف إليه دراما تخص علاقة البطلين وعلاقة نوارة بأسرة خطيبها.

في النهاية “نوّارة” فيلم جاد، يحاول طرح الحدث الذي قُتل بحثاً من زاوية لم يتطرق لها أحد رغم كونها هي الأساس. نقطة قوته هي في نفس الوقت نقطة ضعفه، فالشكل غير المعتاد لبناء دراما الفيلم هو ما جعله في خطر دائم لخسارة مشاهدين ممن يفضلون هذا الشكل السردي أو ذاك.

في الفن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى