الأخبار

90 عاما من المطاردة والاعتقال والزعامة

125

 

ككل الزعماء التاريخيين، كان الزعيم تيتو، ولا يزال، شخصا مثيرا للجدل تتعدد وجهات النظر بشأنه كل بحسب موقعه.

هو، من ناحية، الديكتاتور الطاغية الذى حكم بلاده بالحديد والنار، وقتل مئات الآلاف فى السجون ومعسكرات الاعتقال، وخلف بعد رحيله أمة معرضة للتفكك وبلدا مهددا بالانفجار، ومن ناحية أخرى هو أحد أبطال التحرر فى العالم، حارب النازية الألمانية ووقف بحزم ضد الرأسمالية الأمريكية، واحتفظ لبلاده، رغم اعتناقه للشيوعية، بمسافة فاصلة بينها وبين الاتحاد السوفيتى، وأسس مع كبار قادة العالم حركة عدم الانحياز التى مازالت تنشط إلى اليوم وإن خف بريقها.

نشأة فقيرة

هو جوزيف بروز تيتو، “الشيوعى الأخير”، و”زعيم السجناء”، أحد أهم الرموز السياسية فى القرن العشرين، ولد فى السابع من شهر مايو عام 1892، بقرية كومروفيتش بشمال كرواتيا، لأب كرواتى وأم سلوفينية، التحق بالمدرسة الابتدائية عام 1900 ولم يكمل تعليمه بسبب الفقر والبحث عن عمل فى سن مبكرة، مارس مهنة الحدادة لمدة 5 سنوات حتى عام 1913، حيث تم تجنيده وإلحاقه بالجيش النمساوى، وفور اندلاع الحرب العالمية الأولى أُرسل للقتال فى بودابست، وبعد مرور عامين على الحرب أرسل إلى الجبهة الشرقية للقتال ضد الروس وأصيب فى إحدى المعارك وأُسر على يد القوات الروسية.

قضى جوزيف تيتو نحو 13 شهرا فى إحدى المستشفيات الروسية لتلقى العلاج، قبل أن ينقل إلى معسكر للأسرى فى جبال الأورال، وهناك اختاره السجناء ليكون قائدا لهم، لتشكل تلك الفترة فى حياته المحطة الأهم، وليخطو من خلالها خطواته الأولى فى رحلته السياسية.

فى العام 1917، وبينما هو قابع فى الأسر بروسيا، اندلعت الثورة البلشفية، أول ثورة شيوعية فى القرن العشرين بقيادة فلاديمير لينين، بهدف إسقاط نظام الحكم وتطبيق الشيوعية فى البلاد، وعلى إثرها تم اقتحام السجن وتحرير كافة السجناء، وكان من ضمنهم جوزيف تيتو الذى بدأ يتشكل لديه وعى سياسى جديد تمثل فى اعتناقه الشيوعية، وإيمانه بأفكار الثورة البلشفية التى تهدف لتحقيق الحرية والمساواة وتفتيت القومية والعرقية، الأمر الذى يعانى منه بلده يوغسلافيا، فعزم على تحقيق هذه المبادئ فى وطنه وتوحيد صفوفه، وخاض العديد من المعارك فى سبيل ذلك الهدف.

ثائر بلشفى

شارك تيتو فى الثورة البلشفية عقب خروجه من السجن، إلا أنه سرعان ما ألقى القبض عليه مرة أخرى، لكنه تمكن من الفرار وشارك فى المظاهرات فى سان بطرسبرغ ليعتقل مرة أخرى ويسجن فى حصن بول بيتر، ويتقرر نفيه إلى خارج البلاد ليتمكن من الهرب والاختباء مع عائلة روسية فى سيبيريا، ثم يعود ليعلن انضمامه للجيش الأحمر والحزب الشيوعى الروسى لمواجهة النظام الحاكم، وشارك فى الحرب الأهلية الروسية لتكون بذلك الحرب الثانية التى يشارك فيها.

بعد نجاح الثورة البلشفية فى إسقاط النظام الروسي، وفرض الشيوعية كنظام سياسى، قرر جوزيف العودة إلى يوغسلافيا، وبمجرد وصوله انضم إلى الحزب الشيوعى اليوغسلافى الذى زادت مكانته فى البلاد وحصل فى انتخابات 1920 على 59 مقعدا وأصبح القوة الثالثة فى يوغوسلافيا، كما فاز فى العديد من الانتخابات المحلية، إلى أن تغير الحال فجأة إلى النقيض بسبب اغتيال السياسى ميلوراد دراشكوفيتش، وتوجيه أصابع الاتهام إلى الشيوعيين، فتم حظر أحزابهم وبدأت مطاردتهم وسجنهم، بل وقتل الكثيرين منهم، للدرجة التى اعتقد معها البعض أن حادث الاغتيال تم بتدبير من وزير الداخلية لإبعاد الشيوعين عن الساحة السياسية.

مع استمرار التضييق على الشيوعيين وملاحقتهم قرر تيتو الانتقال إلى مدينة تروجستفو، والابتعاد عن عالم السياسة، لكنه ما لبث أن عاد لممارسة نشاطه الشيوعى فى الخفاء، وأصبح الأمين العام لعمال المعادن الكرواتيين، وأسس فرعا للحزب الشيوعى اليوغوسلافى بمدينة زغرب، تم كشفه سريعا ليجد نفسه فى مواجهة حكم بالسجن لمدة 5 سنوات عاد بعدها إلى ممارسة نشاطه الثورى من جديد.

الاتحاد السوفيتى من جديد

وفى عام 1934 أرسلت اللجنة المركزية لفرع زغرب تيتو إلى فيينا للمشاركة فى الاجتماع العام للحزب الشيوعى اليوغسلافى، وتم اختياره ليكون مسؤولا فى الحزب مع إدوارد ميلوفان، وألكسندر رانكوفيتش، وفى عام 1935 سافر إلى الاتحاد السوفيتى وعمل لمدة سنة فى الكومنترن وأصبح مسؤولا بارزا فى المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية، وتم إرساله مع كتيبة خاصة للمشاركة فى الحرب الأهلية الإسبانية ودعم الجمهوريين واليساريين، وفى عام 1937 كلفه ستالين بالبقاء فى يوغسلافيا لتنظيم صفوف الحزب الشيوعى اليوغسلافى.

فى السادس من أبريل عام 1941 بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية اجتاحت ألمانيا يوغوسلافيا بمساعدة من القوات الإيطالية والمجرية، فشكل جوزيف تيتو لجنة عسكرية داخل الحزب الشيوعى اليوغسلافي، خاصة بعد هروب الملك بيتر وانهيار جيش الدولة، تبعه بتأسيس مجلس التحرير الوطنى بهدف مواجهة النازية والفاشية وصد أفكارهما، وأصدر بيانا لحث الشعب على المقاومة ودعوته للتوحد فى مواجهة الاحتلال، وفى 27 يونيو من العام نفسه؛ أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى اليوغوسلافى تعيين تيتو قائدا عاما للقوات المسلحة لجهوده فى مواجهة النازية وحلفائها.

انتصار على الألمان

تزايدت العمليات العسكرية اليوغسلافية ومثلت مقاومتها فاعلية كبيرة اعترف بصمودها الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت، والرئيس البريطانى ونستون تشرشل، وركز الألمان جهودهم على إخماد المقاومة، وحاولوا اغتيال تيتو 3 مرات واحدة منها جرت فى 25 مايو 1944 عندما هاجمت طائراتهم مقر تيتو فى البوسنة إلا أنه كتبت له النجاة، وفى 28 سبتمبر 1944 سمح تيتو للجيش الأحمر بالدخول إلى أراضى يوغوسلافيا والقيام بعمليات عسكرية للقضاء على آخر معاقل الاحتلال الألمانى، بعدها شن جيش التحرير اليوغسلافى هجوما ضخما وتمكن من اختراق الدفاعات الألمانية التى اضطرت للانسحاب من يوغسلافيا، وبذلك انتصر تيتو وتحررت يوغوسلافيا من الاحتلال.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تولى جوزيف تيتو رئاسة الوزراء في الفترة من 1943 إلى 1963، وحصل على رتبة مارشال بوصفة القائد الأعلى للجيش اليوغسلافى، فأقر دستورا جديدا وأعاد بناء الجيش اليوغوسلافى الذى أصبح واحدا من أقوى الجيوش الأوروبية آنذاك، ليتولى بعدها منصب أول رئيس جمهورية ليوغوسلافيا منذ 1953 وحتى وفاته 1980.

نهج جديد

اختلف تيتو مع سياسة جوزيف ستالين زعيم الاتحاد السوفيتي، ونادى بضرورة تعدد طرق الوصول للاشتراكية، وقامت رؤيته على أن لكل دولة أن تبحث عن نهج يناسبها تسير وفقه، الأمر الذى لم يعجب ستالين ورأى فيه تمردا وخروجا عن الاشتراكية الصحيحة، فقرر طرد تيتو من منظمة الكومنترن، وأطلق على سياسته “الشيوعية التيتوية” كنوع من السخرية والاستخفاف، وهو اللقب الذى أصبح يطلق على كل التيارات الشيوعية التى تنادى بالاستقلال الوطنى وعدم الرضوخ لاشتراكية الاتحاد السوفييتي.

كانت واحدة من أهم سياسات تيتو مساعدة الشعوب فى الحصول على حقها فى التحرر الوطنى، وتجلى ذلك فى موقفه من القضايا العربية والقضية الفلسطينية، إذ على الرغم من تأييده للسلام بين العرب وإسرائيل، فإنه أرسل عددا من المقاتلين الكرواتيين للقتال جنبا إلى جنب مع الفلسطينيين فى حرب 1948 وفقا لما أظهرته وثائق من أرشيف الحزب الشيوعى اليوغسلافي، كما قطع علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل أثناء حربها مع الدول العربية عام 1967.

مع عبد الناصر

تلخصت سياسة تيتو فى الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، والوقوف على الحياد وعدم الانحياز لأى من فريقى أوروبا، ومع بوادر انهيار النظام الاستعمارى ونضال شعوب العالم الثالث من أجل الاستقلال وفى أثناء الحرب الباردة لمعت فكرة حركة دولية لعدم الانحياز قادها تيتو، وجمال عبد الناصر، وجواهر لال نهرو، انبثقت عن مؤتمر باندونج في أبريل 1955 بمبادئه العشرة، ولعبت بعد تأسيسها دورا أساسيا في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين.

بدت المبادئ التى سعى تيتو لإقامة الاتحاد اليوغوسلافى على أساسها قوية ومناصرة للحرية والمبادئ الاشتراكية في حينها، ولعبت يوغوسلافيا فى عصر الزعيم دورا كبيرا على مستوى العالم، ولكن الانهيار الذى تعرضت له التجربة سريعا بحيث لم تدم بعد وفاته أكثر من 10 سنوات أظهر إلى أى مدى عانت تلك الوحدة الظاهرة هشاشة وضعفا أودى بالاتحاد إلى التفكك وإشعال جحيم حرب أهلية مروعة خلال عقد التسعينات راح ضحيتها الآلاف، كنتيجة طبيعية لغياب الديمقراطية وسحق المعارضة واعتماد الحكم على القبضة الأمنية.

النهاية

فى عام 1979 تدهورت الحالة الصحية لتيتو، الذى كان يعانى من انسداد شريانى فى ساقة اليسرى، وبعد رحلة علاج طويلة قرر الأطباء بتر ساقه لتزداد حالته سوءا، حتى فارق الحياة فى الرابع من مايو عام 1980، وأعلن الحداد فى جمهورية يوغسلافيا لمدة 7 أيام، وأقيمت له جنازة مهيبة حضرها معظم قادة وزعماء العالم، لتبدأ يوغوسلافيا منذ ذلك التاريخ صفحة جديدة فاصلة فى تاريخ الإمبراطورية التى انهارت برحيل مؤسسها.

 

مبتدا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى