الأخبار

فقيرٌ أصيب بمرض الملوك

 

 

47

حياته العائلية كانت حزينة منذ وفاة والدته وسجن والده، مما دفعه لهجرة السويس والتوجه للقاهرة، حتى تتاح له فرصة تقديم فنه للجمهور، وبعد فترة من الرفض بدأ صيته ينتشر في تقديم المونولوج بتلقائية دون دراسة فنية، وبعد ثورة يوليو قدم 5 أفلام عن الجيش المصري زادت من شعبيته وشعبية جيش بلاده.

حياة إسماعيل يس كلها حكايات، وفي ذكرى ميلاده، لا ننسى مواقفه مع الملك فاروق وكوكب الشرق أم كلثوم، وذكرياته في اليمن، وأمنيته في آخر أيام حياته، حيث واجه المعاناة والتشرد بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ عاش طفولة بائسة وحياة غير مستقرة، ولم يكمل تعليمه الابتدائي، وترك المدرسة عقب وفاة أمه ودخول أبيه السجن، فعمل مناديًا أمام محل بيع أقمشة، ونمت موهبته وهو صغير، وتأثر بعبد الوهاب وأعد نفسه ليكون مطربًا، فغنى في الأفراح والمقاهي، ثم نزح إلى القاهرة وانضم إلى فرقة بديعة مصابني، والتفتت إليه السينما، حيث قدمه فؤاد الجزايرلي في فيلم “خلف الحبايب”.

انضم يس بعد ذلك إلى فرقة علي الكسار المسرحية فعمل مطربا ومونولوجستًا وممثلًا، وظل أحد رواد هذا الفن على امتداد عشر سنوات من عام (1935- 1945)، ثم عمل بالسينما وأصبح أحد أبرز نجومها، وكون فرقة تحمل اسمه وظلت هذه الفرقة تعمل على مدى 12 عامًا، قدم خلالها ما يزيد على خمسين مسرحية بشكل شبه يومي.

مثل مع الكثير من الممثلين والمطربين، وقضى مدة طويلة في دور الرجل الثاني (سنيد)، حتى أتته الفرصه فأصبح بطلًا، بدأ ينحسر نجم إسماعيل يس في المسرح والسينما شيئًا فشيئا، فابتعاده عن تقديم المونولوج، وتكرار شخصيته في السينما والمسرح بسبب اعتماده على صديق عمره أبو السعود الإبياري في تأليف جميع أعماله، ومرض القلب، وتدخل الدولة في اﻹنتاج الفني في فترة الستينيات، وإنشاء مسرح التليفزيون، كلها أسباب مهدت لنهايته الفنية.

تراكمت عليه الضرائب والديون، فاضطر إلى حل فرقته المسرحية، ثم سافر إلى لبنان وشارك هناك في بعض الأفلام القصيرة، ثم عاد إلى مصر مرة أخرى وعاش فيها فترة صعبة للغاية إلى أن وافته المنية نتيجة أزمة قلبية حادة في مايو عام 1972.

ومن المواقف التي واجهها خلال مسيرته الفنية..

الملك فاروق
كان الملك فاروق يحضر حفلًا خيريا لصالح جمعية «مبرة محمد علي» في ملهى «الأوبرج»، واستدعى إسماعيل ياسين ليقدم بعض العروض لمونولوجاته، قائلًا: يلا يا إسماعيل سمعنا نكتة جديدة.

استجاب يس وقال: «مرة واحد مجنون زي جلالتك كده»، فصرخ الملك قائلًا: «إنت بتقول إيه يا مجنون!»، فعلم أبو ضحكة جنان أنه أخطأ، وحاول أن يتظاهر أنه أصيب بحالة إغماء حتى يفلت من العقاب، لكن الخدعة لم تفلح إذ حاصره حراس الملك بعد إفاقته حتى ينفذوا العقاب الذي أمر به الملك، وهو نقله إلى مستشفى الأمراض العصبية والنفسية، وبالفعل دخل المستشفى ودفع الملك مصاريف علاجه على نفقته الخاصة، وغادر «يس» المستشفى بعد 10 أيام.

أم كلثوم
خفة ظلها من الأشياء التي تميزت بها، وأجمع الكثير من المحيطين بها على ذلك، لكن ليس لها مكان بجوار سمعة، أسطورة الكوميديا..

أم كلثوم كانت في إحدى زياراتها للإسكندرية بصحبة أحمد رامي ورياض السنباطي، وهناك التقوا مصادفةً إسماعيل يس، في إحدى الصيدليات، وبعد تبادل التحيات، لفت نظر أم كلثوم وقوفه بجوار الميزان الآلي، فسألته عن وزنه، وأجاب: «زي الفل 78 كيلو فقط لا غير».

اندهشت كوكب الشرق وقالت: «مش معقول.. لازم اتوزنت من غير بقك» فضحك الجميع بقوة، وهنا أصر إسماعيل على أن تزن نفسها هي الأخرى.

ورفضت أم كلثوم بعد تحذيرات رامي لها بأنه يتميز بسرعة البديهة وخفة الدم، وما من شك في أنه يريد الانتقام منها في نفس اللحظة، وبعدما لاحظ نجم الكوميديا ترددها ثم رفضها، أجاب سريعا: «أكيد سيبتي صوتك في مصر وخايفة توزني نفسك من غيره»، فلم يتمالك الجميع أنفسهم من الضحك وكانت هي أولهم.

معجب وفدائي في آن واحد
عشقه الجمهور العربي، ولا شك في هذا، لكن للأمر سلبيات خطيرة، فلم ينج من مضايقات المعجبين؟ ففي سوريا طاردته الجماهير العاشقة لفنه وشخصه، فكانوا كلما رأوه في الطريق أو بهو الفندق، اجتمع المئات حوله وكأنهم في مظاهرة، ولا يستطيع أن يشق طريقه إلى الشارع إلا بصعوبة.

ذات مرة زار معرض دمشق الدولي، ودعته الإذاعة السورية لإلقاء كلمة في جناحها الخاص الذي أقامته، ولكنه لم يكد يبدأ الكلام حتى أطلّ أحد المعجبين عليه من «سقف» الجناح، فالتفت يس لينبه المشرفين على الجناح إلى هذه التحية «الخطيرة»، بينما انشغلوا هم بإبعاد الناس عن نوافذ الاستوديو تفاديًا لتحطيمها.

في سوريا أيضًا
خلال نفس الرحلة تنكر نجم الكوميديا ليطوف سوق الحميدية، أكبر الأسواق التجارية في العاصمة السورية، وحينما نزل إلى أحد المحال ليشتري بعض الهدايا، لم يعرفه صاحب المحل الذي أصيب بذعر كبير حين شاهد حشدًا ضخمًا من الناس يتزاحمون أمام الفاترينات التي كادت تتحطم، فسارع الرجل يريد إغلاق المحل، ولكنه أدرك من همسات الناس أن التزاحم بسبب زبونه إسماعيل ياسين، فباع له زجاجة الكولونيا بأرخص من ثمنها ثمانية ليرات سورية حتى يتخلص من هذا الزبون الخطر.

وقبل سفره أراد ياسين أن يستقل سيارة أجرة ليقوم بزيارة أحد معارفه، ولكن سائقي السيارات رفضوا أن يأخذوه معهم، فسأل أحدهم: «إيه الحكاية؟!»، وأجابه السائق: «مو شايف كل هالناس؟ مين اللي هيبعدهم عن السيارة؟» ودق إسماعيل ياسين على صدره قائلًا: «أنا اللي هحوشهم» فضحك السائق وهو يقول: «لا.. اتفضل سوق إنت.. وأنا اللي هحوشهم».

القات
في تسجيل نادر لسمعة (حكى عنه الناقد طارق الشناوي)، تظهر علاقة إسماعيل يس بـ«القات»، ذلك النبات المخدر، الممنوع في مصر، والسائد في المحال التجارية في اليمن، التي اشتهرت به.

يقول الشناوي في كتاباته عن هذا التسجيل، إن إسماعيل يس خلال حفل له في اليمن التقى الرئيس اليمني آنذاك، في مسكنه ووجده بيتًا متواضعًا، وسأله: لماذا لا تسكن فى قصر؟ فأجابه: إحنا أقمنا الثورة عشان الشعب اليمني يسكن في القصور، وليس من أجل أن يسكن رئيس الجمهورية في القصر.

وفي جرأة منه انتقد تعاطي الشعب اليمني «القات»، الذي يعتبر هناك قضية شائكة وحساسة، فمأزق «القات» أن الشعب تقريبًا كله يتعاطاه يوميا، وهناك رضا وغطاء اجتماعى لا يرى أي ضرر، بل هو يوحد اليمنيين فى توقيت محدد يبدأ من الواحدة ظهرًا ويمتد إلى ما شاء الله، ليكون الفنان الوحيد الذي تأخذه الجرأة لينتقد تلك العادة الأصيلة الموروثة التي لا يمكن الاستغناء عنها.

أمنية أخيرة.. آخر أمنية قالها للإذاعة قبل وفاته مباشرة:
“أنا نفسى أشاهد تقديري وأنا على قيد الحياة، أنا لسه فاضلّي شيء من الألم وشيء من الأمل أنا مريض بالنقرس، والمرض ده بيسموه مرض الملوك، مع إنى أنا والله العظيم راجل جمهوري، وأعتز بجمهوريتي، إنما ألم المرض مش مأثر عليا زي ألم النفس، عايز أقول إني بعد جهادي في الفن لمدة 35 سنة أو أكثر، مالقتش الكاتب المنصف اللي يديني حقي بشجاعة، بينما أنا بشوف كُتَّاب كتير، أقلامهم بتتقصف من كتر الكتابة والمدح في بعض الزملاء، اللي يعتبروا بالنسبة لي ناشئين، مع إن الفنان الجاهز اللي استمر في سبيل تأدية رسالته، ووضع زهرة عمره في الجهاد الفني، لازم يكرم ويحترم ويعتبر أستاذا لأجيال الجديدة”.

التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى