الأخبار

فى ذكرى رحيله أمل دنقل.. قارئ التاريخ

180

 

 

 

وهناك شعراء كثيرون فى العالم كتبوا تجاربهم البسيطة أو المعقدة ضمن سيرهم الذاتية، مثلما كتب الشاعر بابلوا نيرودا «أشهد أننى عشت»، وقبله كتب الشاعر العظيم الألمانى «جوته»، ومكتبة السيرة الذاتية تكتظ بكتابات كثيرة فى هذا المجال، ولكن أمل دنقل لم يكتب كتابا خاصا يسرد فيه تفاصيل قراءاته واستنتاجاته وخططه النقدية ووجهات نظره، ولكنه ترك تراثا نقديا تجلى فى حوارات وبضعة مقالات قليلة، لتقول الكثير، بالإضافة إلى الهوامش النقدية التى كان يضعها للقصائد، مثلما فعل فى ديوانه «أقوال جديدة عن حرب البسوس»، والذى كان يضم قصيدته الأشهر «لا تصالح»، وأراد أمل أن يضع اقتباسا فى بداية الديوان يقول: (فنظر «كليب» حواليه وتحسر، وذرف دمعة وتعبر ورأى عبدا فقيرا واقفا فقال له: أريد منك يا عبد الخير، قبل أن تسلبنى أن تسحبنى إلى هذه البلاطة القريبة من هذا الغدير، لأكتب وصيتى إلى أخى الأمير سالم الزير، فأوصيه بأولادى وفلذة كبدى.. فسحب العبد إلى قرب البلاطة، والرمح غارس فى ظهره والدم يقطر من جنبه.. فغمس «كليب» إصبعه فى الدم، وخط على البلاط وأنشأ يقول: لا تصالح ولو منحوك الذهب).

هنا يريد أمل أن يضع القارئ المتلقى فى الصورة كاملة قبل أن يقرأ القصيدة، ولأن أمل دنقل كان مدججا بوعيه التاريخى، كان دوما يضع إشارات وتعريفات وتوضيحات، ففى هذه القصيدة على وجه الخصوص، آثر أن يذيلها بتعريفات للشخصيات الواردة فيها، لربما يكون القارئ غير مدرك لموقعها من التاريخ، فكتب تعريفا لشخصية «البسوس»، وهى المرأة التى أثارت الفتنة بين قيس وأشعلت الحرب أربعين سنة، وأثارت بنى بكر على بنى تغلب، وحملت اسمها الملحمة، وهى كما تقول الرواية «شاعرة عجوز من عجائب الزمان ذات مكر واحتيال وخداع»، وكانت لها أربعة أسماء وهى سعاد وتاج بخت وهند والبسوس، وهى أخت الملك حسان اليمانى الذى قتله الأمير كليب من أجل عمه وخطيبته الجليلة. وكما وضع تعريفا للبسوس، فعل ذلك مع كليب بن ربيعة وجليلة بنت مرة واليمامة وجساس بن مرة والمهلهل بن ربيعة.

وجعلت كلا منها يدلى بشهادته التاريخية حول رؤيته الخاصة.. ومن الطبيعى أن يكون لكل من هذه الشخصيات شهاداتها المختلفة عن شهادة أخرى، لقد استحضرت الملك كليب نفسه فى ساعاته الأخيرة، وأدلت اليمامة التى كانت ترفض الصلح بشهادتها، وكذلك فعل المهلهل الذى قاد الحرب انتقاما له.. وقدمت شهادة جساس مع تبريراته لجريمته، ثم شهادة جليلة بنت مرة الممزقة.. «زوجها وأخيها» ثم أتيت بشهادات لبعض الشخصيات التى تلعب دورا معلقا على الأحداث، والذى يدقق فى هذه الكلمات التى قالها أمل، سيدرك الخطة النقدية التى وضعها لإنشاء القصيدة، ويدرك أن خلف هذا الجهد الإبداعى الكبير، رؤية نقدية عميقة، ومنذ المطلع النثرى للقصيدة، وتذييله بـ«أنشأ يقول»، ندرك أن الشاعر أراد أن يقتفى أثر الملحمة، ولكن بطريقته ومنهجه وبرؤاه، هذه الرؤى التى جاءت لتناسب العصر الذى نعيش فيه، أمل يستدعى التاريخ وتفاصيله الدقيقة، ولكن عينيه فى قلب الحاضر الذى نحياه، يستعيد القيم العربية والفروسية الأصيلة فى الشخصية العربية، ويعمل على فك شفراتها القديمة، وإعادة تركيبها فى نسق حديث، وفى لغة شعرية راقية ورقيقة كذلك، حتى المفردات فهى مفردات عصرية، والروح عصرية، لذلك أخذت هذه القصيدة أبعادا كثيرة، فهى تحتمل القراءة بأكثر من مستوى، والرموز المستدعاة بسيطة وواضحة، ولا تحتاج إلى لوغارتيمات.

ومن ذلك ندرك أن الوعى التاريخى العميق أدى إلى وعى نقدى مكثف، فقارئ أمل دنقل ستقابله شخصيات وأحداث تاريخية كثيرة، شخصيات عربية ومملوكية، شخصيات لشعراء مثل أبى الطيب المتنبى وأبى نواس، وقادة مثل سبارتاكوس وهانيبال، وغير ذلك من شخصيات، فالتاريخ عند أمل قادر على تفسير ما يحدث فى الحاضر والواقع المعاصر، والشعر ينتخب أحداثا معينة من التاريخ ويعمل عليها بوعى مفرط، حتى لا يكون استنساخا إيقاعيا لهذه الأحداث، مثلما حدث فى بعض مسرحيات أحمد شوقى، أو عزيز أباظة، فأمل ينتقى لحظة ذروة درامية فى التاريخ، ويستدعى ملابساتها، ويجعل منها منصة إطلاق فنية لرؤاه وهواجسه وتوجعاته وآلامه الجمة، وهذا بالطبع حدث مع قصائد ديوانه «أقوال جديدة فى حرب البسوس»، وحدث فى قصائد «كلمات سبارتاكوس الأخيرة، والبكاء بين يدى زرقاء اليمامة، ومن أوراق أبو نواس، ومقابلة خاصة مع ابن نوح، وخطاب غير تاريخى على قبر صلاح الدين»، والذى يقرأ هذه القصائد وغيرها، سيدرك تماما أن اللحظة التاريخية المستدعاة، ما هى إلا حالة درامية عالية، أتى بها الشاعر لتخدم رؤيته فى الحاضر المعاصر، وكلنا تلقينا قصيدته الشهيرة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» على هذا النحو، فعندما يقول: «يا إخوتى الذين يعبرون فى الميدان فى انحناء، منحدرين فى نهاية المساء، لا تحلموا بعالم سعيد.. فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد، وإن رأيتم فى الطريق هانيبال، فأخبروه أننى انتظرته مدى على أبواب روما المجهدة، وانتظرت هنا شيوخ روما، تحت قوس النصر، قاهر الظلام، ونسوة الرومان بين الزينة المعربدة، ظللن ينتظرن مقدم الجنود، ذوى الرؤوس الأطلسية المجعدة»، هنا سيدرك القارئ المتنوع، أن الشارع لا يقصد روما ولا سبارتاكوس ولا هانيبال، بل سيدرك فورا أن الخطاب موجه إلى الأخوة فى الوطن الذين سحقهم الانتظار، وضرب أعناقهم الصمت والعبودية، لذلك فالقصيدة صرخة فى الحاضر من أجل الحرية المغدورة والمهدورة فى عالم ينتج قيصرا خاف قيصر، وما التاريخ هنا إلا الحامل الفنى والموضوعى لإبداع رؤية فنية معاصرة، وتدخل الأحداث التاريخ كفاعل درامى فى القصيدة، وأمل أكثر من عملوا على تضفير دراما الأحداث التاريخية فى شعره عموما، ولذلك كان مؤهلا لكتاب المسرح والدراما الشعرية عموما، وهو قد شرع بالفعل فى كتابة مسرحية عن قناة السويس، وكتب منها فصلا تحت عنوان «أوجينى» ونشره فى مجلة «صباح الخير» فى يوليو عام 1965، ولكن إدارة تحرير المجلة جعلت هذا الفصل خادما لفكرة الاحتفال بالذكرى 13 لقيام ثورة يوليو، ولم يضمن أمل هذه القصيدة لأى ديوان، وفى العام الماضى نشرت هذه القصيدة فى إحدى الدوريات، ولا أعرف لماذا أقلع أمل عن استكمال هذا المشروع، رغم المؤهلات التى تنطوى عليها قريحته واستعداداته بامتياز.

وكما قرأنا تفسيره النقدى لاستخدامه شخصيات تاريخية فى قصيدته «لا تصالح»، نقرأ له حديثا عن تجربته مع الموروث جاء فيه: «اتجهت لاستبطان جوهر التاريخ ذاته، دون إشارة واضحة إلى مسميات أو أحداث، فى ديوانى (العهد الآتى)، كان التاريخ خلفية لكل ديوان، فتقسيم الديوان إلى إصحاحات، هو شكل مستعار من التوراة، أردت به أن أوجد صلة ما بين التصور الدينى للكون، والصراع الإنسانى، وبين التصور الثورى للصراع المعاصر، بالإضافة إلى أننى أردت أن أؤكد صدق الثورة وحقها الذى لا ينازع باستخدام كلمة (الإصحاح)، التى تعنى كلاما لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، حتى الآن ما زال فننا متأثرا بتلك النظرة الفلسفية من القرون الوسطى التى تقسم العالم إلى عوالم متعددة، ينشأ بداخلها نظام هرمى خاص بكل منها، فعالم الحيوانات ملكه الأسد، وماكره الثعلب، وأغبره الذئب، بينما يتوج الورد ملكا على عالم الزهور»، هنا ندرك أن أمل لا يستدعى التاريخ اعتباطا، أو ليجلو لحظة درامية فحسب، ولكن هذا الاستدعاء يأتى محفوفا بسلسلة من الإجراءات الفنية والنقدية الجدلية، أقصد أن الحدث التاريخى تتبلور صياغته الفنية فى أثناء محك الإبداع والكتابة، وأريد أن أنوه إلى أن هذا الوعى النقدى ينطلق كذلك من التزام الشاعر بقضايا الوطن، وقضايا الإنسان بشكل عام، وهو مدرك للقيمة الفنية الراقية، حتى لا تكون القصيدة منشورا سياسيا فجا، كما كان يتهمه بعض شعراء السبعينيات الذين أطلقوا عليه «آخر شعراء الجاهلية»، فكان أمل يستخدم الفلاش باك، والأراجيز، والأهازيج، وكما قال فى الاقتباس الذى وضعناه سالفا أنه كتب بعض القصائد على هيئة الإصحاحات، ولكنه خلص الكتابة من هذه الأبعاد الدينية التراثية المعهودة، أمل يحاول أن يستدعى اللحظة التاريخية، والأشكال الكتابية التاريخية، ويضعها فى جدل مع الحياة المعاصرة، لتنتج لنا فنا مستقلا بديعا، مثلما فعل جمال الغيطانى فى رائعته «الزينى بركات»، وكما فعل نجيب محفوظ فى تحفته «ليالى ألف ليلة وليلة»، هنا استخدامات متعددة للشكل التاريخى الذى يتنوع ويتبدل، حسب متطلبات فنية وفكرية وربما سياسية عميقة. ومن الأكيد أن «أمل» كان ملتزما بما يحدث فى اللحظة التى يعيش فيها، وبالتالى فتعتبر قصائده، التسجيل الدرامى الأعلى لقضية حرية الإنسان فى التعبير عن نفسه بشكل مطلق، دون ترهيب أو تعذيب أو سجن أو اعتقال، وتكثفت هذه الرؤية بشكل كثيف فى ديوانه الأول «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، وقضية التحرر الوطنى من الاحتلال الإسرائيلى والاستعمار عموما، واتضح ذلك فى دواوينه التالية «تعليق على ما حدث، والعهد الآتى»، وكان ديوانه الأخير، والذى كتبه على فراش المرض وهو «الغرفة رقم 8»، معبرا عن نفس تواقة إلى العدل الإنسانى على الأرض، هذا العدل الذى افتقده أمل دنقل وبقية رفاقه الشعراء والكتاب والمبدعين عموما فى جيل الستينيات، وكذلك هذا العدل المفقود على الأرض يتجلى بأقصى صوره فى بلادنا المغبونة، وكان أمل بوعيه النقدى والفكرى والسياسى والفنى، قادرا على تقديم مذكرة دفاع كثيفة عن الوطن والإنسان عموما، كان مؤهلا لكتابة هذه الجدارية الفنية التى امتدت منذ أوائل الستينيات فى القرن الماضى، حتى إن فاضت روحه لبارئها فى 21 مايو من عام 1983، هذا الشاعر الثاقب الوعى ما زال يقتحم مساحات المعنى كافة ليطلق صرخته المدوية لحرية الإنسان، وإقرار العدل على الأرض، فى عالم اخترقته كل معانى الخراب المدمرة، ويترك فينا أملا كبيرا بأن كل ذلك لا بد أن يغيره الإنسان ذاته فى المستقبل المشرق.

 

 

التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى