الأخبار

مذكرات يحيى الجمل: ضحيت بمنصبى الوزير والسفير حبا فى التدريس بالجامعة

فكرت فى دراسة الفلسفة فقال لى أبى: «يعنى هتشتغل فيلسوف؟».. فالتحقت بـ«الحقوق»
لجنة الكلية منحت درجة «الامتياز» الخاصة بى لزميل آخر بطريق الخطأ ففقدت فرصتى فى التعيين
السادات قال لى: لو لم نشارك فى حرب اليمن لكان النفوذ السعودى يسيطر على العالم العربى
ممدوح سالم عرض علىّ رئاسة «التنظيم والإدارة» بدرجة وزير.. ورفضت بحجة العودة إلى الكلية.. فعلق رئيس الحكومة: «يا بختكم عندكم حته تروحوا فيها»
ربما يفسر البعض أسباب وصية الفقيه القانونى الراحل الدكتور، يحيى الجمل بتشييع جثمانه من جامعة القاهرة بانتمائه إلى كلية الحقوق وتدريسه بها لفترة طويلة، إلا أن مذكراته فى كتاب «قصة حياة عادية»، الصادر عن دار الشروق عام 2010، تكشف مدى عمق العلاقة بين القانونى البارز والجامعة، التى طالما نادته وداعبت خيالاته كلما فرقت بينهما الظروف وتدابير القدر، إلى الدرجة التى جعلته يضحى بجميع المناصب ليفوز بها.

لم تكن حياة الراحل هادئة على الإطلاق بالدرجة التى يصورها عنوان سيرته الذاتية، لكن هدوءه هو من أضفى تلك اللمسة على حياة مليئة بالتفاصيل منذ ميلاده حتى مراحل متأخرة من عمره الذى توقف عند 86 عاما.
يبدأ يحيى الجمل قصته من البحيرة، المحافظة التى شهدت طفولته الناعمة المدللة فى منزل جدته لأمه، فكان يظن أنها أمه التى أنجبته، إذ تربى فى كنفها وعب من حبها وحنانها حتى كتب القدر مشهد النهاية لعلاقتهما حينما بلغ الرابعة من عمره.
يعبر الطفل النهر عبر مركب شراعى مع جده قاصدا منزل أسرته الحقيقية فى المنوفية، لكى يبدأ حياة جديدة «ضائعا» مع أناس آخرين، بين أخ يكبره بأربع سنوات وأخت تصغره بثلاث، ووالدين مختلفين تماما فى الملامح والصفات أيضا عن أقرانهما فى البحيرة.
التحق الطفل بكتّاب القرية، وأظهر تفوقا كبيرا فى حفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة، ثم ذهب إلى طنطا مع أخيه ليكمل حفظ القرآن فى كتاب الشيخ عبدالحميد قشطة ذى الشهرة الواسعة فى الصرامة والقسوة، وسرعا ما نال إشادة الشيخ لقدرته على الحفظ والإلقاء الجيد، وهو ما انعكس على التقدير المادى الذى خصه به والده عن أخيه فى زياراته الموسمية من حين لآخر.
بدأ اهتمام الفتى بالأدب والتاريخ فى العاشرة من عمره، فكان يسمع أخاه وأبناء عمومته يتحدثون عن مقالات الرسالة والرواية والمعركة الأدبية التى تدور رحاها بين الرافعى والعقاد، وكان أخوه من المتحمسين للرافعى وابن عم له من المتحمسين للعقاد وابن عم ثالث يجامل هذا تارة وذلك تارة أخرى، ويرى أن كلا من الأديبين الكبيرين لا يخلو من ميزة، وكان الصبى يسمع ذلك كله لا يكاد يعى منه شيئا، إلا أن ذهنه تفتح إلى شىء جديد.
ويسلط الجمل الضوء على القراءات التى حمسته لدراسة القانون وكانت سببا فى حبه لمهنة المحاماة فيما بعد، فيقول إن حبه للتاريخ وشغفه بقراءته يرجع إلى تجربته الأولى مع كتاب «المآسى التاريخية الكبرى»، وكان يدور حول أحداث الثورة الفرنسية بطريقة روائية بالغة التشويق، الذى جعله يعيش أحداث الثورة الفرنسية الدامية ومحاكماتها الشهيرة على نحو لم يغادر مخيلته قط.
على عتبات الجامعة
بعد حصوله على التوجيهية بمجموع كبير ونجاحه فى مسابقة اللغة العربية أتيح لصاحب المذكرات دخول الجامعة بالمجان حينها، لكن ما كان يشغل بال الشاب الناضج هو الاختيار الصعب بين دراسة الفلسفة بكلية الآداب أو المحاماة بالحقوق، فهو يحب القراءات الفلسفية والأدبية وتعلق قلبه بالمحاماة منذ صغره.
لكن والده حسم الجدل الذى سيطر على ذهن يحيى لأيام: «وبعد أن تتخرج فى قسم الفلسفة ماذا تفعل؟ وهل ستشتغل فيلسوفا؟»، ليتخذ قراره بأن تكون الفلسفة هوايته وليكن القانون حرفته ومهنته.
التحق يحيى الجمل بكلية الحقوق فى أكتوبر 1948، وكان ترتيبه السادس بين أوائل المتقدمين إلى الكلية التى يقصدها الأوائل دائما فى ذلك الوقت، ولم تكن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ولا كلية الإعلام قد أنشئتا بعد.
بعد تجاوزه رهبة الأيام الأولى فى الكلية التى يصطف فيها الشباب والبنات صفوفا خلف بعضهم داخل المدرجات، انخرط الشاب فى العمل السياسى من خلال بوابة الحزب الوطنى فى فترة اتسمت بالغليان والنشاط الجامعى، لمع خلالها صاحبنا وفاز فى انتخابات الاتحاد الطلابية فى السنة الثالثة بجامعة فؤاد الأول على المرشح الوفدى أحمد الخطيب.
كان اللافت فى سرد يحيى الجمل لفترة الجامعة هو اشتباكه مع التنظيمات السياسية المؤثرة فى الحياة العامة مثل شباب الحزب الوطنى وجماعة الإخوان المسلمين والوفدين فى خضم انضمام الحركة الطلابية للعمليات الفدائية ضد الاحتلال الإنجليزى، خصوصا أن الجامعات لم تعرف طعم الانتظام فى الدراسة منذ إعلان النحاس باشا إلغاء معاهدة 1936 فى 8 أكتوبر 1951.
يخصص الجمل أيضا جزءا كبيرا من سيرته عن تفاصيل الحياة اليومية التى عاشها بين الجامعة ودعم العمل الفدائى بين يومى 25 و26 يناير 1952 اللذين شهدا معركة محافظة الإسماعيلية وحريق القاهرة، فكانت الحياة العامة مضطربة أشد الاضطراب وكان الناس يتوقعون أن يحدث أى شىء فى أى اتجاه.
وعلى الرغم من أن ثورة 23 يوليو 1952 أسعدته سعادة غامرة بعد فترة اضطراب سياسى خطير، فإنها تمثل بالنسبة لها ذكرى ضياع حلمه الكبير بعدما تسبب خطأ إدارى فى عدم انضمامه لأوائل دفعته لدى تخرجه، ما أضاع عليه فرصة التعيين كمعيد فى الجامعة.
ويروى صاحب المذكرات تفاصيل تلك الواقعة قائلا: «عرفت من الدكتور أمين بدر أن اللجنة قد أعطتنى تقدير «امتياز» فى مادة القانون التجارى فسررت لذلك سرورا شديدا.. ولكن يبدو أن اللجنة أخطأت خطأ ماديا إذ رصدت درجتى لزميل آخر له لم يحصل قط فى حياته الجامعية على درجة امتياز فى أى علم من العلوم، ولم يكن إلى إصلاح هذا الخطأ من سبيل».
ويواصل: «أعلنت النتيجة يوم 23 يوليو، وتوفى عميد الكلية فى 23 يوليو، وتحرك الجيش لكى يغير وجه الحياة فى مصر يوم 23 يوليو».
تغير وجه الحياة فى مصر وتغيرت معها أحلام يحيى، فتبدد أمله بارتداء روب الأستاذية وإلقاء المحاضرات على طلابه وحل محله حزن عميق، حتى عاد إلى القاهرة بعد فترة من العزلة فى قريته ليسجل اسمه فى سجل المحامين تحت التمرين وأقسم يمين المحاماة أمام النقيب.
النيابة العامة
لم يكن يحيى قضى أسبوعا فى مكتب على منصور للمحاماة، أشهر مكاتب المحاماة فى مصر حينذاك وقبلة شباب الحزب الوطنى، حتى شملته حركة التعيينات الجديدة فى النيابة العامة، وأصبح منذ ذلك اليوم «البيه.. وكيل النيابة» وبدأ طور جديد من أطوار حياته.
تسلم الرجل مهام منصبه الجديد كوكيل نيابة فى سوهاج، لكنه لم يتنازل عن حلمه بالتدريس فى الجامعة: «لعلى فى النيابة أكون أقرب إلى الجامعة منى فى المحاماة».
عاد الجمل إلى القاهرة للعمل فى نيابة قصر النيل بعد عامين قضاهما فى نيابات البلينا وسوهاج، ليشعر أنه انتقل من عالم إلى آخر، إذ كان الفارق كبيرا بين القرى التى تظهر فيها النسوة دون نقاب داخل المستشفيات فقط، وبين أحياء الزمالك وجاردن سيتى ووسط البلد التى تغص بمظاهر الحياة.
رئيس نيابة فى ليبيا
وقع الاختيار على يحيى الجمل مع اثنين آخرين لرئاسة النيابة فى ولايات ليبيا الثلاث طرابلس وبرقة وفزان بنظام الإعارة المتبع فى النيابة العامة، وذلك بعد استقلال ليبيا وتبنيها النظام الفيدرالى، وأسندت إليه رئاسة نيابة ولاية فزان تحت إشراف النائب العام المصرى، وقتها، المستشار محمود القاضى.
كانت الأمور تسير بشكل طبيعى فى فزان، فلم يواجه صاحب المذكرات أية مشاكل أو أزمات من أى نوع سوى طبيعة الحياة الجبلية بمقارنتها مع طرابلس الغرب، إلى أن تصادم مع المسئولين القضائيين البارزين فى الولاية بسبب شجاعته وإقدامه على التحقيق فى إحدى القضايا كانت كفيلة بإنهاء رحلته فى فزان بعد 10 أشهر من الإعارة.
يلخص الجمل القضية على لسانه: «ولاية فزان باعتبارها أفقر الولايات كانت صاحبة النصيب الأوفر من معونة الولايات المتحدة الأمريكية فى القمح، وجرى توزيعها على الفقراء المستحقين لكن بعض الأثرياء ومنهم بعض أعضاء مجلس النواب والشيوخ استحلوا لأنفسهم الجزء الأكبر من هذا القمح إما لأنفسهم وذويهم أو للتجارة فيه».
وحقق صاحبنا فى الواقعة بعد اتهام شخصين أو ثلاثة من ذوى النفوذ باستغلال نفوذهم وأخذ المعونة المخصصة للفقراء لأنفسهم، لكن التحقيق امتد ليشمل غيرهما من أعضاء النواب وذوى النفوذ من العائلات الكبيرة، وهو ما تصدت له أجهزة الشرطة ووزارة العدل بالولاية.
وطلب رئيس محكمة الولاية من يحيى أن يتبع الإجراءات القانونية وإثباته بالمحضر، خاصة أن أحدا لم يستجب لطلب النيابة، لكنه لم يرتح له واشتدت حيرته حتى أرسل استقالته إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى فى ليبيا، ليكتب النهاية لرحلته فى الصحراء الغربية.
وظن الجمل أن قرار عودته إلى القاهرة هو الأصوب حينها، لكن لم يرد على ذهن صاحب الـ25 ربيعا، وقتها، أن يتحول أشجع مواقف حياته إلى تهمة التأثير على العلاقات الدبلوماسية بين مصر وليبيا، وتبدلت مواقف وزير العدل من توصيات الحفاظ على سمعة القضاء المصرى إلى تخليه عن الحكمة السياسية فى مراعاة العلاقات الدبلوماسية.
لم تتوقف مأساة يحيى عند حد تغيير المبادئ، فالعائد الجديد من ولاية فزان صدر قرار بنقله إلى بنى سويف، التى تبعد عن القاهرة 124 كم، لكن محاولاته الدؤوبة فى الاتصالات مع المحلق العسكرى فى ليبيا أتت بثمارها سريعا، وعاد إلى القاهرة مرة أخرى بعد بضعة أسابيع.
الرحلة إلى الدكتوراه
داعب الحلم الأكاديمى خيالات الجمل من جديد، فتفرغ لتحضير الدكتوراه فى موضوع «الاعتراف بالدولة»، فى رحلة يصفها بأنها من أمتع رحلاته فى عالم الزمان والمكان جميعا، حتى جاء التاسع من مارس 1962 لينتصر لنفسه بحصوله على درجة الدكتوراه فى القانون من جامعة القاهرة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، لكنه انتظر عاما كاملا بعد حصوله على الدكتوراه ليحقق حلم حياته بالانضمام لهيئة تدريس كلية الحقوق بجامعة القاهرة.
شغلت السياسة حيزا كبيرا فى حياة الأستاذ الجامعى، فكلما انسحب منها بدافع الارتقاء فى عمله ومطارده أحلامه عاد إليها بنفس شغفه للوصول إلى هيئة التدريس، حتى جاء موعده لينضم إلى التنظيم الطليعى داخل الاتحاد الاشتراكى، ثم رشحه زكريا محيى الدين، نائب رئيس الجمهورية حينها، لتشكيل منظمة الشباب التى تضم عددا من المفكرين من منابع فكرية مختلفة، بهدف تخريج كوادر سياسية مقتدرة ومؤمنة بأهداف الثورة والميثاق.
يشرح الرجل أسباب ولعه بالسياسة فى مقدمة كتابه «الأنظمة السياسية المعاصرة»، الذى كتبه مع مؤلفه الآخر «القانون الدستورى» خلال السنوات الثلاث التى قضاها فى جامعة الكويت معارا من القاهرة: «استهوتنى منذ الشباب الباكر دراسة الأنظمة السياسية فى العصر الذى نعيش فيه وفى العصور السابقة علينا، وقد كنت ومازلت أجد فى دراستى هذه المتعة لا تدانيها متعة أخرى».
ويواصل: «كانت تلك الدراسة إلى جوار ما فيها من متعة تحرك فى ذهنى تساؤلات عديدة أحاول أن أجيب عن بعضها بنفسى، وأحاول أن أبحث عن إجابة بعضها الآخر فيما كنت أقرأ من موجزات ومطولات عن حياة الشعوب وأنظمتها.
الجمل وزيرا لشئون مجلس الوزراء
بعد عودته من باريس فى الفترة التى عمل خلالها مستشارا ثقافيا للسفارة المصرية فى فرنسا، فوجئ يحيى الجمل باتصال من ممدوح سالم نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك ليهنئه باختياره وزيرا لشئون مجلس الوزراء، وأن عليه أن يتوجه إلى مبنى مجلس الوزراء لمقابلة الدكتور عبدالعزيز حجازى المكلف بتشكيل الوزارة الجديدة فى العام 1974.
مع الرئيس السادات فى فرنسا
رافق الجمل الرئيس الراحل أنور السادات ضمن وفد حكومى بارز فى إحدى زياراته الرسمية إلى فرنسا لإجراء مباحثات مع الرئيس الفرنسى جيسكار ديستان بشأن التطورات السياسية والجوانب الفنية المتعلقة بمشروع مترو الأنفاق.
وفى الطائرة الرئاسية، وبعد أن انتهى الوفد من تناول الغداء باغته الجمل بسؤال: هل صحيح ما يقال يا سيادة الرئيس من أن سيادتك كنت وراء حملة الجيش المصرى فى اليمن لمساندة الثورة؟.
أطرق الرئيس قليلا ثم قال: نعم صحيح. لم أكن وحدى بطبيعة الحال صاحب هذا الرأى. كان عبدالناصر يرى نفس الرأى ولكنى كنت من المتحمسين لمساندة ثورة اليمن وكنت من أنصار ذهاب الجيش المصرى إلى هناك لمؤازرة الثورة.
ثم أردف الرئيس: لو لم نفعل ذلك وفشلت ثورة اليمن فإن النفوذ السعودى كان سيسيطر على العالم العربى كله، لقد كان أمرا محتوما أن نقف إلى جوار ثورة اليمن.
حوار مع الدكتور فوى
استدعاه الدكتور محمود فوزى، نائب رئيس الجمهورية فى الفترة من 16 يناير 1972 حتى 18 سبتمبر 1974، إلى مكتبه بمبنى وزارة الخارجية القديم.
ــ الحقيقة أنا طلبتك علشان أسألك سؤالا وحدا.
ــ تحت أمرك يا فندم.
ــ سؤال بسيط: كم مرة خلوت فيها إلى نفسك وفكرت فى مشاكل هذا البلد.
ــ أطرقت ثم قلت: هل تصدقنى يا سيادة النائب إذا قلت لك إنك عندما استدعيتنى لمقابلتك توقعت هذا السؤال أو نحوه؟
ــ ولا مرة يا سيادة النائب ولا مرة استطعت أن أخلو فيها إلى نفسى لأفكر على هذا النحو الذى تقصد إليه سيادتك.
ــ ولا مرة؟
كم لك فى الوزارة؟
ــ نحو سبعة أشهر.
ــ وفى هذه الأشهر السبعة لم تستطع أن تخلو إلى نفسك لتفكر بعمق فى أمور هذا البلد؟
ــ هذه الحقيقة يا سيادة النائب.
ــ وبقية الوقت تطفئون الحرائق.
ــ واستأنف صمته ثم قال: عندما رشحك الدكتور حجازى للوزارة فإننى من غير أن أعرفك مباشرة ولكن من الكثير الذى سمعته عنك تصورت أنك فى موقعك فى مجلس الوزراء، ستقوم بجمع مجموعة من زملائك فى الجامعة وغيرهم من المفكرين المعنيين بالهم العام وستجعل منهم فى المجلس ما يشبه الـ(think tank) لكى تفكروا فى المشكلات العامة وفى تصور استراتيجية لمواجهتها أبعد وأعمق من الحلول اليومية السريعة. إن البلد يحتاج إلى مثل هذه الاستراتيجية التى تنضج بهدوء، لكنكم تطفئون الحرائق العارضة ولا تواجهون جذور المشكلات.
ويشرح الجمل انطباعه عن كلام وزير الخارجية قائلا: «ملأت مقابلة فوزى دماغ الجمل بالتساؤلات عن المهمة الحقيقية للوزير.. هل الوزير موظف أم رجل سياسى؟.. كان واضحا منذ قيام الثورة فى 23 يوليو أن فكرة الوزير السياسى تختفى لصالح مفهوم الوزير الموظف، وكان ذلك طبيعيا بعد أن اختفت الأحزاب السياسية التى يفترض أن تكون هى (الماعون) الذى يأتى منه الوزراء والوزارات، ولذلك أصبح اختيار الوزير يخضع لمعايير لا صلة لها بسياسة والتفكير السياسى».
العودة إلى الجامعة
تمر الأيام، ويجدد يحيى العهد لجامعة القاهرة، حبه الأول والأخير، فبعد أن ضحى بالمحاماة والنيابة العامة من أجل التدريس، عاد ليفرط فى مناصب حكومية جديدة حينما كلفه ممدوح سالم، رئيس الحكومة الجديدة، بأن يتولى مسئولية المعهد القومى للإدارة العليا والجهاز المركزى للتنظيم والإدارة بدرجة وزير، معللا رفضه بحاجته للعودة إلى كليته، الأمر الذى استدعى رئيس الحكومة للتعليق مجددا: «يا بختكم ليكم حتة تروحوا فيها».
وفى مناسبة أخرى فى حقبة السبعينيات، رفض يحيى الجمل طلب وزير الخارجية إسماعيل فهمى بتعيينه سفيرا بإحدى الدول، لإصراره على موقفه بعودته إلى الجامعة.
عاد إلى الجامعة، ولكن هذه المرة إلى الزقازيق، إذ أسند إليه منصب عميد كلية الحقوق وتشكيل هيئة التدريس هناك، ولم يقض عاما فيها حتى أصدر الرئيس الراحل أنور السادات قرارا جمهوريا بتعيينه بكلية الحقوق بجامعة القاهرة.
حزب التجمع
اختار الجمل أن يعود لممارسة السياسة هذه المرة من بوابة حزب يقف على يسار السلطة لا يمينها، وبمعايير مختلفة عن الماضى بحيث لا يكون مقيدا وأن يكون اقترابها من الحياة العامة اقتراب المفكر لا الممارس، واقتراب القلم والكلمة والورقة، فكان اختياره «التجمع» بصحبة خالد محيى الدين، حيث كان يعتقد بأن صيغة التجمع قريبة من صيغة منظمة الشباب كما أرداها عبدالناصر فى بداية إنشائها.
ورغم الشكوك التى ساورته منذ بداية تشكيل الحزب على أساس «ماركسى ــ تجمعى»، فإنه استمر نائبا للرئيس زكريا محيى الدين لمدة 5 سنوات على أمل أن تستقيم الأمور، خصوصا أنه الحزب المعارض الوحيد للسلطة فى ذلك التوقيت.
انحاز الجمل إلى الرؤية الناصرية التى شعرت باختطاف الحزب من الماركسيين، فكان يكثر من عبارة أن «مطبخ الحزب نفسه أصبح ماركسيا وليس تجمعيا»، حتى بدأ يفكر جديا فى الانسحاب من الحياة الحزبية فى سبتمبر 1981.
لكن حملة اعتقالات سبتمبر التى شنها الرئيس الراحل ضد اليساريين والكتاب، وامتدت القرارات إلى عزل البابا شنودة الثالث من رئاسة الكنيسة، أجبرت الجمل على الاستمرار فى الحزب، حيث كان هو الملاذ الذى يلجأ إلى الجميع.. فلم يبق أحد فى مصر إلا وأصابه من الإجراءات التى اتخذها السادات نصيب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى