اخبار عربيةالأخبار

المحمود: لم أكن صحوياً.. ولهذا السبب تركت “الرياض”

محمد المحمود كاتب وباحث سعودي أثار الجدل كثيراً في أطروحاته، رغم تضرره في وظيفته. يقول إنه لم يخسر شيئاً يندم عليه، مبيناً أنه بين عامي 2004 و2007 كان سقف الحرية مرتفع إلى حد لم يتخيله الكتاب، إلا من خلال التجربة. ثم حدث بعض التراجع.
عرف المحمود بمقاله العميق الأسبوعي في جريدة الرياض الذي نشره على مدار سنوات وجلب له الكثير من المحبين والمناصرين وكذلك النقاد والخصوم.
“العربية.نت” كان لها حوار مطول مع المحمود وهو كالتالي:
لماذا توقفت عن الكتابة في جريدة الرياض؟، وأين يحطّ “قلمك” رحاله اليوم؟.
لا شيء يبقى على حاله، وجريدة الرياض ـ كغيرها ـ تخضع لمتغيرات تفرض عليها بعض الإجراءات. وللجريدة ظروفها، ولي ظروفي أيضا، واختلاف الظروف قد يقضي بالافتراق. وأيا كان الأمر، فأنا أحمل لجريدة الرياض مؤسسة ورجالا كثيرا من الحب، وكثيرا من التقدير، وأتمنى لها عودة الازدهار؛ فمن خلالها عشت أجمل أيام الحرف وأشدها إثارة، ومهما نسيت فلن أنسى أنها هي نافذتي الأولى التي قدّمت لي الكثير، وتحمّلت ـ بشجاعة ـ أهم رَدّات الفعل على ما كنت أكتبه. أقول هذا؛ لأني بطبعي أخضع لقانون أبي الطيب المتنبي، ذلك القانون العاطفي الذي يُلخصه قوله: “خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا ـ لفارقت شيبي موجع القلب باكيا”. أما عن قلمي اليوم فلا يزال بلا عنوان، يبحث عن مصيره في متاهات القدر.

من خلال 663 مقالا كتبتها.. هل نستطيع أن نقول إن محمد المحمود استطاع مناقشة كل القضايا المعاصرة التي تشغل فكره؟.
طبعا لا. صحيح أنني تناولت أغلب ما يشغلني بمستويات متعددة، ولكن بعضها تناولته على مستوى التفصيل؛ من حيث الإحاطة بالقضية من كل أو معظم زواياها، وبعضها تناولته مُجملا ويحتاج إلى تفصيل، وبعضها تناولته من زوايا محددة، تسمح بها مساحات الحرية المتاحة، وأجّلت بعض الزوايا إلى ظرف آخر. أيضا هنا قضايا تناولتها على مستوى التنظير والتعميم، دون ذكر نماذج واقعية أو تاريخية معينة؛ لظروف النشر في محيط لا يزال يعاني من تقديس رموز الماضي، بل ومن تقديس بعض رموز الحاضر. هناك مواضيع لامستها بحذر شديد؛ من خلال مبدأ: “الحر تكفيه الإشارة”. ومن المؤكد أن هذه “الإشارة” لا تتأكد ولا تترسخ ولا يستبطنها الوعي العام القادر على فرض تحولات جذرية في الواقع إلا باستعراضها في كل مراحلها وبأدلتها وشواهدها التي قد تكون صادمة لكثيرين.
هل عانيت من سلطة الرقيب ومقصه خلال مسيرتك ككاتب مقال جريء؟
معي، الرقيب لا يقص المقال بنفسه، فإما أن يُنشر أو لا يُنشر. وعند المنع، تأتي “سلطة” الرقيب، فالكاتب عندما يخوض تجربة النشر يعي ـ تدريجيا ـ ما يمكن نشره وما لا يمكن. وهنا يتحول الرقيب الخارجي إلى رقيب داخلي، فيمتنع الكاتب عن ذكر أشياء يرى أنها ضرورية، ولكنه يدرك أن ذكرها سيعيق نشر الفكرة من أساسها. وبما أن الكاتب الواعي يدرك ـ أو يُفترض أنه يدرك ـ البُعد الاستراتيجي لما يكتبه، فعليه ـ في مثل هذه الحال ـ أن يجري مناورات تكتيكية على مستوى لغة المقال الواحد، وعلى مستوى مجموع ما يطرحه. ومن المؤكد أن هذه مهارة “ما وراء كتابية”، أقصد أنها مهارة تتعلق بـما وراء حدود المستوى الفني/ التقني للكتابة. فمثلا، ما لا تستطيع التصريح بنتائجه، عليك أن تؤكد على مقدماته، وتترك رسم معالم النتائج لوقت آخر، أو حتى لذكاء القارئ المتابع الذي يستطيع إدراك المضمون الكلي لمجموعة نصوصك الناقدة في موضوع واحد.
وأضاف: “هذا من حيث العموم، أما من حيث تفاصيل التجربة، فلا شك أن شجاعة المحررين تختلف من محرر لآخر، وهنا تحدث متغيرات في مستوى سقف الحرية، تبعا لحيثيات تلك الشجاعة. أيضا، هناك أوقات تكون أوسع أفقا في عمومها لأسباب وعوامل شتّى. فمثلا، بين عامي 2004م و2007 كان سقف الحرية مرتفع إلى حد لم نتخيله نحن ككتاب؛ إلا من خلال التجربة. ثم حدث بعض التراجع، وكان أيضا، بمستويات متباينة. وحتى تتضح الصورة أكثر؛ أذكر مثالا من تجربتي الخاصة التي امتدت لأكثر من 13 عاماً. فعلى امتداد 11 سنة الأولى لم يُمنع لي أكثر من 5 مقالات، بينما في آخر سنتين مُنع لي 10 مقالات تقريبا؛ مع أن مستوى جرأة المقالات الأولى كانت أكبر بكثير!”.
ناقشت مواضيع كثيرة عن التطرف والإرهاب والاستغلال والحضارة وأسهبت بها. هل تعتقد أن رسالتك وصلت للشريحة المستهدفة؟
في اعتقادي أنها وصلت؛ ولكن في حدود حرية النشر المتاحة، وليس كما أريد لها أن تصل. وفيما يخص نقد التطرف والإرهاب المرتبط بنقد الفكر الديني، فأنا كنت حريصاً منذ البداية على الكتابة في صحيفة محلية واسعة الانتشار، كي تصل الرسالة النقدية إلى الشريحة التي كانت أكثر من غيرها ضحية خطاب سلفي انغلاقي متزمت. ومما يدعم هذا الاعتقاد لدي أنني أشهد في السنوات الأخيرة كثيرا من أولئك الذين كانوا غاضبين مني في بداية نقدي، وقد تحوّلوا إلى مؤمنين كثيرا أو قليلا بما كنت أقوله قبل أكثر من عشر سنوات. طبعا، بعضهم صرّح بأثر الكتاب الناقدين، وبعضهم تحول ضمنيا، وكأنه يؤكد بتحوله الصامت أن ما حدث له طبيعي في سياق الزمن، بينما لا يعي أن الزمن أحداث/ فعاليات، لا تنفصل عن الفعل القولي الذي أثّر فيه وإن لم يشعر. وهنا، لا أقصد أن رسالتي هي وحدها التي وصلت، وهي وحدها التي أثّرت، بل هي ضمن رسائل أخرى من كتاب آخرين، كانت ـ بمجموعها ـ تُعيد صياغة الوعي الجمعي نحو رؤية أكثر انفتاحا.
ذكرت أن التيار المتشدد “فرعوني الرؤية” هل لك أن توضح لنا هذا المصطلح؟، وماذا خسرت من تبنيك مثل هذه المصطلحات؟
الرؤية الفرعونية هي في قول فرعون لقومه: “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”. إنها دعوى امتلاك الحقيقة المطلقة على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل معا، بل هي دعوى احتكار هذه الحقيقة. إن كل سلفية ـ والسلفيات كثيرة ـ تدعي، من حيث هي سلفية/ اتباع، أنها وحدها التي تمتلك الحق المطلق، وأن رأيها هو الحق، ولا حق سواه، وتسعى بكل الوسائل الممكنة ـ حسب الظروف والقدرة ـ لقمع كل المخالفين. وهذه هي مسطرة الرؤية الفرعونية؛ وإن اختلفت المضامين، كما هي أيضا منهج العمل لهذه الرؤية.
أما ماذا خسرت، فلم أخسر ما أندم عليه، كنت ولا أزال أعتقد ضرورة إحداث صدمة لهذا الوعي الفكري المتكلس، وبصراحة، لا بد من مواجهته بحقيقة نفسه، لا بد من إجباره على الوعي بأن من حقه أن يكون له مكان، ولكن ليس من حقه أن يحتل كل مكان.
بماذا ترد على من يقول إنك انتقلت من الصحوية إلى الوسطية؟
لقد شرحت هذا الأمر مرارا وفي أكثر من مقابلة، لم أكن سلفياً قط، ولم أكن صحوياً بالمعنى المتعارف عليه. لقد كانت بعض توجهاتي تتعاطف مع بعض الرؤى الصحوية، ولكني لم أنخرط في أي نشاط صحوي، لم أحضر محاضرات الشيوخ/ الوعاظ الصحويين في وقتها، وإن سمعتها عبر أشرطة، لم أنتمِ لأي مركز أو نشاط، لم أكتب منافحا عن أية أطروحة صحوية. وعلى أية حال، إن كنت صحويا وانتقلت ـ كما يقولون ـ، فما المشكلة؟!.
سبق وأن قلت: “إن الكلمة التي تلتمس التغيير لها ثمن باهظ” ما هو الثمن الذي دفعته لتكسب التغيير؟
الثمن من راحتي ومن الأمان الوظيفي حيث تحوّلت مسألة وظيفتي إلى معضلة، ليس فقط بسبب المنع من التدريس وقطع الراتب فقط، بل بسبب عدم قبولهم استقالتي رغم تقديمي لها منذ ثلاث سنوات، بل وأيضا رفضهم أن يفصلوني رغم مرور أكثر من تسع سنوات على انقطاع صلتي بهم؛ لأبقى معلقا، موظفا غير موظف، أي محروم من حقوق الموظفين، وأيضا محروم من الفرص المتاحة لغير الموظفين، فضلا عن توتر بعض العلاقات مع بعض من كنت أكن لهم كثيرا من الود…إلخ الأثمان، ولكن مع كل هذا فلست بنادم.
أشرت في مقال لك عن دور للمناهج في انتشار الفكر المتشدد؟
بلا شك، كان لها فيما مضى دور واضح وصريح في نشر الفكر المتشدد، ولا تزال بقايا هذا الفكر موجود ـ على استحياء ـ في بعض الخيارات الفكرية المطروحة في المناهج. صحيح أن بعض الجُمل والعبارات الصريحة حذفت، لكن البُنية العامة للمناهج الدينية الخاصة تحتاج إلى تغيير جذري، إلى إبدال منظومة بمنظومة، وليس حذف سطر، وإضافة سطر آخر، أي إلى تشكيل مناهج متكاملة متعاضدة تؤسس لرؤى الانفتاح والتسامح.
لو سلمنا بتأثير تلك المناهج من حيث تأصيل التشدد، فبماذا تفسر خروج الكثير سالمين من ذلك التأثير، بما فيهم أنت؟
أولا، المناهج ليست السبب الوحيد، ولكنها من الأسباب الرئيسة. ثانيا، وجود المؤثر، لا يستلزم منه وقوع أثره على الجميع، أي لا يستغرق جميع الأفراد. مثلا، السرعة قد تسبب الموت، لكن، قد تنطلق عشرات السيارات بسرعة، ولا تقع الكارثة إلا لواحدة. لكن، لولا السرعة لم تقع.
وكمثال أوضح، لو أن واعظا بارعا قام يحض الناس على إنفاق ما لديهم في سبيل إنقاذ الفقراء، وكان المستمعون له 10000، فسنجد أنه كمحرّض لا يتوقع استجابة الجميع بدرجة واحدة، هناك من سينفعل، وينفق كل ما لديه، وهؤلاء قد لا يتجاوز عددهم الخمسة أو العشرة، وهناك من سينفق ربع ما لديه، وهناك ومن سينفق مرتب شهر واحد، وهناك من سيمتنع عن إنفاق أي شيء؛ لأن الناس، ولأسباب كثيرة، ذاتية وموضوعية، يختلفون في استجابتهم لهذا المحرض الإيجابي. كذلك الداعية السلبي المحرض على العنف أو التشدد، ستجد من يبذل روحه (وهم قلة، ولكنهم قلة خطرة)، وستجد من يكتفي بسلوكيات متشددة، وستجد الأغلبية وإن تعاطفت، تكتفي بالتأييد الكلامي. وكون كثيرين لم يستجيبوا له، لا يعني انعدام أثر خطابه. المهم، في كل هذا، سنجد أن غياب المحرض من واعظ أو منهج أو كتاب، يقلل كثيرا وكثيرا من احتمالية التوجه للعنف.
ما هو تقييمك للمناهج الحالية؟
أنا طموحي أكبر، وكما قلت قبل قليل، لا بد من تغيير جذري في مجمل المنظومة، أي في بوصلة الرؤية، وليس فقط بتهذيب المناهج في بعض الجزئيات.
هل تأثرت بالثقافة الغربية ومنجزاتها؟، وما هو تقييمك لها؟
طبعا تأثرت، وتأثرت تأثيرا عميقاً، ولولاها لم أكن ما أنا عليه الآن. وأما تقييمي لها، فهو نفسه تقييم العالم كله لها، حيث هي الثقافة الحية التي تصنع عالم اليوم، تعيد صياغة هذا الكوكب، هي التي تقود الإنسانية كلها إلى فضاءات إنسانية أوسع، بل وتصنع في هذا المضمار كل يوم ما لم يكن يخطر على بال بشر من قبل. وإذا أردنا فعلا أن نعرف قيمة هذه الثقافة بموضوعية، فلنتصور العالم قبل أربعة قرون، إن كل تطور حدث فبفضلها، ولولاها، لكنا، ولكان كل العالم لا يزال يعيش في ذلك الزمن العسير المتخم بكل أنواع البؤس من جهل وفقر وأمراض واحتراب واضطهاد…إلخ.
هل استطعت التأثير في القارئ فكرياً؟
أعتقد أنني مارست بعض التأثير، هذا ما أراه من خلال ردود الفعل على ما أكتب، ومن خلال ما صرّح به لي كثيرون. أما قضية: هل هو التأثير الذي كنت أطمح إليه، فهذه مسألة أخرى. هناك مسألة لا بد من الإشارة إليها في هذا السياق، وهي أن الرافضين لخطابي هم أيضا من المتأثرين بما أكتب؛ لأن خطابي يحدد لهم ـ بطريقة أو بأخرى ـ طبيعة “الرفض” أي يحدد طبيعة استجابتهم، ومن ثم يُسهم ـ بشكل غير مباشر ـ في تشكيل خطابهم من جديد.

العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى