الأخبار

البابا كيرلس.. 46 عاما على رحيل «معشوق المسيحيين»

تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، اليوم الخميس، بذكرى وفاة البابا كيرلس السادس، بابا الإسكندرية، وبطريرك الكرازة المرقسية، الـ 116، الذى لا يزال معشوق المسيحيين، رغم مرور 46 عاما على رحيله، إذ يلقبونه بصانع المعجزات.

وُلِدَ البابا كيرلس فى 8 أغسطس سنة 1902، بمدينة دمنهور من والدين محبين للكنيسة، والمبادئ المسيحية، ودُعِى “عازر”، ولمَّا كبُر كان يحلو له أن يختلى فى غرفته الخاصة، وينكبّ على دراسة الكتاب المُقدَّس، مواظباً على الاستزادة من علوم الكنيسة وطقوسها وألحانها.

بعد أن نال قسطاً من التعليم، اشتاق إلى حياة العبادة وخدمة اللَّـه، فالتحق فى سنة 1927 بدير البرَموس بوادى النطرون، ومنذ ذلك الوقت بدأت تلمذته للقمص عبد المسيح المسعودى، ورُسِمَ راهباً بِاسم “مينا” فى سنة 1928، ثم قساً فى سنة 1931.

وبعد أن نما فى حياة الفضيلة إلى الحد الذى أهَّله للتعمُّق فى العبادة والخلوة الروحيّة، انفرد متوحِّداً فى مغارة مجاورة للدير سنة 1932م. ثم اتخذ من طاحونة من طواحين الهواء الكائنة بجبل المقطم بمصر القديمة مقرّاً لخلوته وعبادته من سنة 1936م حتى أواخر سنة 1941م. وظل يتنقل بين كنائس مصر القديمة، إلى أن عُيِّنَ فى ديسمبر سنة 1943 رئيساً لدير الأنبا صموئيل بالقلمون، فازدهر الدير ثانيةً. وفى سنة 1947م، تمكَّن من بناء كنيسة مار مينا العجائبى بآخِر مصر القديمة.

اشتهر بالصلاة الدائمة والإيمان القوى، فكان يأتـى إليه المرضى من جميع أنحاء البلاد فيُصلِّى لهم، فكانوا يشفون من أمراضهم. وقد أكرمه اللَّـه بهذه المعجزات فى حياته، وأيضاً بعد وفاته، اختارته العناية الإلهية بالقرعة الهيكلية ليصير بابا الإسكندرية الـ 116، فرُسِمَ فى 10 مايو 1959. وفى 28 يونيو 1959 قام برسامة بطريرك جاثليق لإثيوبيا وعُقِدت اتفاقية بين كنيستى مصر وإثيوبيا لتأكيد أواصر المحبة بينهما.

وفى 27 نوفمبر سنة 1959م، أرسى حجر الأساس لدير الشهيد مار مينا العجائبى بصحراء مريوط، وأعاد له جزءاً من جسده الطاهر، وبنى به كنائس وكاتدرائية عظيمة تشابه فى مجدها الكاتدرائية القديمة بالمدينة الأثرية. وفى يناير 1965م، رأَسَ مؤتمر الكنائس الأرثوذكسية الشرقية فى أديس أبابا، وهو أول مجمع مسكونـى للكنائس الأرثوذكسية غير الخلقدونية فى العصور الحديثة. وفى سنة 1967م، عمل الميرون المقدس، وكان حدثاً تاريخياً مهما، إذ هى المرّة السادسة والعشرون فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

فى 2 أبريل سنة 1968م، تجلَّت العذراء أم النور القديسة مريم، فوق قباب كنيستها فى ضاحية الزيتون. وفى يونيو 1968م استقبل البابا جسد القديس مار مرقس، مبشر مصر بالمسيحية بعد غيبته عن أرض مصر زهاء أحد عشر قرناً من الزمان، وأودعه فى مزار خاص بُنى خصيصاً تحت مذابح الكاتدرائية العظيمة للقديس مار مرقس التى أنشأها البابا كيرلس السادس، وافتتحها فى احتفال عظيم.

لم ينسَ البابا كيرلس السادس يوماً أنه الراهب الفقير مينا. فكان طعامه بسيطاً. وملابسه كانت بسيطة جداً، ونومه كان قليلا. مرض قليلاً، وتوفى فى 9 مارس 1971م، ودُفِنَ أسفل الكاتدرائية المرقسية بالأنبا رويس بالقاهرة. وفى 23 نوفمبر 1972م نُقِلَ جسده إلى دير مار مينا بمريوط، وذلك تنفيذًا لوصيّته.

وضع البابا كيرلس السادس منهجا لعمل البطريركى، جاء فى نص الرسالة البابوية القاها يوم رسامته: “ما أحوج البشر إلى خدمة الروح فى عصر سادت فيه المادية والكفر والإلحاد والاتجاهات الفكرية المنحرفة. ما أحوج الناس إلى أن يروا المسيح فى حياتنا ويشتموا رائحته الزكية فينا. إن على الكنيسة واجبا خطيرا فى هذه الآونة التى يجتازها العالم اليوم. عليها أن تدعم الإيمان فى القلوب، وتنشر الفضيلة، وتدخل السﻻم والطمأنينة إلى كل نفس متعبة، ليتوافر الاستقرار وتكثر السعادة. ﻷن رسالة السيد المسيح هى توفير الحياة الفضلى للناس “أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة ويكون لهم أفضل”. الحياة الطاهرة النقية الهادئة المطمئنة الفاعلة التى تكون المواطن الصالح المنتج، والعصو العامل بالكنيسة، الذى يعرف أن يكون أمينا دائما لله وللوطن وللمجتمع الإنسانى العالمى، متعاونا مع الجميع بروح التعاون والإخاء والإيثار”.

علاقته بعبدالناصر

رصد الباحث القبطى، ماجد كامل، علاقة البابا كيرلس بعبد الناصر، إذ يقول إنها تميزت بالمحبة والحميمية، وهى العلاقة التى عبر عنها محمد حسنين هيكل فى كتابه “ريف الغضب” بقوله “كانت العلاقات بين جمال عبد الناصر وكيرلس السادس علاقات ممتازة، وكان بينهما إعجاب متبادل، وكان معروفا أن البطريرك يستطيع مقابلة عبد الناصر فى أى وقت يشاء”.

وفى لقاء ودى خاص بين عبد الناصر والبابا كيرلس فى بداية سيامته بطريركا عام 1959 قال البابا كيرلس لعبد الناصر: “إنى بعون الله سأعمل على تعليم أبنائى معرفة الله وحب الوطن ومعنى الأخوة الحقة ليشب الوطن وحدة قوية لديها الإيمان بالله والحب للوطن”.

ولعل أول مشكلة واجهت البابا كيرلس السادس مع بداية سيامته بطريركا هى رغبته فى بناء كاتدرائية جديدة فى أرض الأنبا رويس بالعباسية، ولم يكن لديه الاعتمادات المالية الكافية، ويروى الأستاذ محمد حسنين هيكل فى كتابه أنه تلقى دعوة شخصية من البابا كيرلس للقائه، فتوجه إليه وبصحبته الأنبا صموئيل، وكان يشغل منصب أسقف الخدمات العامة والاجتماعية “وهو نفسه الأسقف الذى اغتيل مع الرئيس الراحل السادات فى حادث المنصة الشهير”، وفى هذا اللقاء فاتح البابا هيكل فى الموضوع وأبدى له حرجه من مفاتحة الرئيس فى الأمر مباشرة حتى لا تكون فيه إثارة أى حساسيات.

وعندما فاتح الرئيس فى الأمر أبدى تفهما كاملا، فقد كان يرى أهمية وحقوق المسيحيين فى النسيج المصرى الواحد، ثم إنه كان على وعى كامل بالمركز الممتاز للكنيسة القبطية ودورها الأساسى فى تاريخ مصر. وهكذا قرر أن تساهم الدولة بنصف مليون جنيه فى بناء الكاتدرائية الجديدة، نصفها يدفع نقدا ونصفها الآخر يدفع عينا بواسطة شركات المقاولات التابعة للقطاع العام، التى يمكن أن يعهد إليها بعملية البناء. وبالفعل تم وضع الحجر الأساسى ببناء الكاتدرائية فى 24 يوليو 1965، بحضور الرئيس عبد الناصر والبابا كيرلس السادس.

وفى حفل الافتتاح ألقى الرئيس عبد الناصر خطابا تاريخيا قال فيه: “أيها الأخوة ،يسرنى أن أشترك معكم اليوم فى إرساء حجر الأساس للكاتدرائية الجديدة. فحينما تقابلت أخيرا مع البابا فى منزلى، فاتحته فى بناء الكاتدرائية، وأن الحكومة مستعدة للمساهمة فى هذا الموضوع، ولم يكن القصد من هذا فعلا المساهمة المادية، فالمساهمة المادية أمرها سهل، ولكنى كنت أقصد الناحية المعنوية. إن هذه الثورة قامت أصلا على المحبة، ولم تقم أبدا بأى حال من الأحوال على الكراهية والتعصب. هذه الثورة قامت وهى تدعو للمساواة، ولتكافؤ الفرص، والمحبة والمساوة، لأنه بالمحبة والمساواة، وتكافؤ الفرص تستطيع أن تبنى المجتمع الصحيح السليم الذى نريده والذى نادت به الأديان”.

ويروى لنا الكاتب الصفحى الراحل الأستاذ محمود فوزى فى كتابه “البابا كيرلس السادس وعبد الناصر” أن البابا كيرلس السادس زار الرئيس ذات يوم فى منزله، فجاء إليه أولاده. وكل منهم معه حصالته، ثم وقفوا أمامه، وقال له الرئيس “أنا علمت أولادى وفهمتهم إن اللى يتبرع لكنيسة زى اللى يتبرع لجامع، والأولاد لما عرفوا إنك بتبنى كاتدرائية صمموا على المساهمة فيها. وقالوا حنحوش قرشين، ولما ييجى البابا كيرلس حنقدمهم له، وأرجو أن لا تكسفهم وخذ منهم تبرعاتهم” فأخرج البابا كيرلس منديله ووضعه على حجره ووضع أولاد عبد الناصر تبرعاتهم، ثم لفها وشكرهم وباركهم.

وجاء حفل افتتاح الكاتدرائية فى صباح يوم الثلاثاء 25 يونية 1968، فى حفل مهيب حضره الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والبابا كيرلس السادس والامبراطور هيلاسلاسى إمبراطور أثيوبيا الراحل.

ومن القصص الجميلة التى تروى عن هذا الحفل أنه أثناء صعود البابا والرئيس سلالم الكاتدرائية، صدرت أنّة ألم خفيفة من الرئيس الراحل، فالتفت إليه البابا وسأله: ما بك يا سيادة الرئيس ولماذا تتألم؟ لعلى أنا الذى يحق لى أن أتأوه، إذ ما زلت أشعر بألم فى ساقى إثر الجلطة التى أصابتنى فى العام الماضى. فرد عليه الرئيس إننى أشعر بآلام فى ساقى أيضا، فرد عليه البابا ولماذالم تخبرنا بذلك، إننا كنا على استعداد لتأجيل الحفل حتى تتماثل سيادتكم للشفاء الكامل، فرد عليه الرئيس “لا بل أنا مسرور هكذا”.

وعندما أعلن الرئيس الراحل خطاب التنحى فى 8 يونيو 1967، توجه البابا كيرلس إلى منزله بمنشية البكرى بصحبة ثلاثة مطارنة ونحو خمسة عشر كاهنا، وعندما وجدوا طوفان البشر محيطا بمنزل الرئيس ،صدرت التعليمات من رئاسة الجمهورية أن تقوم سيارة بفتح الطريق أمام سيارة البابا. وعندما دخل المنزل قال: “أنا عايز أقابل الريس”، فأخبروا الرئيس برغبة البابا فى مقابلته، فتحدث إليه فى التليفون قائلا: “أنا عمرى ما اتأخرت عن مقابلتك فى بيتى فى أى وقت، لكنى عيان والدكاترة من حولى”، فقال له البابا: “طيب عاوز أسمع منك وعد واحد”، فرد عليه الرئيس “قل يا والدى” فقال له البابا “الشعب بيأمرك أنك ما تتنازلش” فرد عليه الرئيس “وأنا أمر عند الشعب وأمرك”.

وعندما أعلن السيد أنور السادات أن الرئيس قد نزل على إرادة الشعب، توجه قداسته صباح يوم 10 يونيو إلى القصر الجمهورى بالقبة وكتب كلمة فى سجل الزيارات أعلن فيها عن فرحته بنزول عبد الناصر على إرادة الشعب والعودة لممارسة مهامه كزعيم للأمة.

وعندما توفى الرئيس عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970، أصدر قداسته بيانا جاء فيه “إن الحزن الذى يخيم ثقيلا على أمتنا كلها، لانتقال الرئيس المحبوب والبطل المظفر جمال عبد الناصر، إلى عالم البقاء والخلود، أعظم من أن يعبر عنه أو ينطق به. إن النبأ الأليم هز مشاعرنا جميعا ومشاعر الناس فى كل الشرق والغرب بصورة لم يسبق إليها. ونحن لا نستطيع أن نصدق أن هذا الرجل الذى تجسدت فيه آمال المصريين يمكن أن يموت. إن جمال لم يمت ولن يموت، إنه صنع فى نحو عشرين سنة من تاريخنا ما لم يصنعه أحد من قبله فى قرون. وسيظل تاريخ مصر وتاريخ الأمة العربية إلى عشرات الأجيال مرتبطا باسم البطل المناضل الشجاع، الذى أجبر الأعداء قبل الأصدقاء على أن يحترموه ويهابوه ،ويشهدوا أنه الزعيم الذى لا يملك أن ينكر عليه عظمته وحكمته”.

ثم توجه قداسته إلى القصر الجمهورى بالقبة، وبصحبته الأنبا اسطفانوس مطران النوبة وعطبرة وأم درمان، والأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى أسقف البحث العلمى والدراسات العليا والثقافة القبطية ،وتقابلوا مع أنور السادات مقدمين له واجب العزاء. وسجل قداسته كلمة فى سجل التشريفات بقصر القبة قال فيها: “يوم حزين على بلادنا وبلاد الشرق العربى، ما أعظم الخسارة التى لحقت بنا جميعا. إن اسم هذا البطل سوف يظل مرتبطا بتاريخ مصر والعرب وإفريقيا ودول عدم الانحياز، بل وبتاريخ الأسرة البشرية كلها”.

 

مبتدا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى