منوعات

صغيرة على «الإدمان»

 

 

فى حلقات دائرية، يجتمعن للحديث عن متاع الحياة، والفضفضة بما تعج به أنفسهن، فى عرف هذا المجتمع الصغير لا يمكن لأحد أن يفهم المدمن غير زميله فى المرض، غنى أو فقير، أسمر أو أبيض، تلك التصنيفات تختفى فى اجتماعات المدمنات الدورية، الفيصل بين الناس هو مرض الإدمان أو عدمه، وحدها الصدفة هى ما أبعدت الأصحاء عن طريق المخدرات، فالشوارع تمتلئ بعشرات المدمنين، بين هؤلاء فتيات، أخذنا نبحث عنهن مراراً، فهن مختبئات خائفات يعشن فى مجهولية، لا تكاد تراهن فى الشوارع، فهن خلف الجدران، أو مكبلات على الأسرَّة، أو بين أنغام الموسيقى ليلاً، تلاحقهن الوصمة الاجتماعية أينما ذهبن، فبينما يحاول المجتمع إعادة تأهيل ذكوره من المدمنين، يلاحق الأنثى بوصماته التى لا تنتهى، فحتى وإن تقبلتها أسرتها كمتعافية، ترفضها العائلة المحافظة.

«منة»: زميلتى فى الدراسة علمتنى الإدمان وكنت أتعاطى المخدر من «على جزمتها».. و«نرمين»: المخدرات علمتنى السرقة والنصب

وفق البحث القومى للإدمان الصادر عن الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان مطلع 2015، فإن نسبة تعاطى الفتيات للمخدرات للرجال فى القاهرة هى 1: 3، وتقل حتى تصل لأدنى مستوياتها فى محافظات جنوب الصعيد وتكون 1: 13، وعلى الرغم من النسبة العالية للفتيات إلا أن إقبالهن على التعافى ضئيل للغاية بالنسبة للرجال، ويقول دكتور عبدالرحمن حماد، رئيس وحدة الإدمان بمستشفى العباسية إن الوحدة تحتوى على أكبر قسم لعلاج السيدات من الإدمان مجموع أَسِرّته 30 معظمها شاغرة، والمشغول بها 8 سرائر فقط، بينما يحتوى قسم الرجال على 120 سريراً جميعها مشغولة ويصعب إيجاد مكان به، نظراً لطول مدة التعافى التى تصل لـ90 يوماً.

ومن قسم علاج السيدات بالعباسية، جلست على كرسيها، بينما تعكس خيوط الشمس على وجهها بشائر أمل فى الشفاء مع سنين عمرها التى لم تتجاوز الـ19، جسدها الضئيل ووجهها الصغير ذو الملامح الدقيقة، لا تظهر فيه سمات المخدر الذى أخذ ينهش فى جسدها طوال 5 أعوام، «منة» هو الاسم المستعار للفتاة، التى خطت فى درب المخدرات والإدمان منذ الصف السادس الابتدائى، بدأته بتدخين السجائر مع زميلاتها فى الدراسة، كونها فتاة واحدة وسط 9 أشقاء ذكور جعلها هى «بونبوناية» الأسرة، تغرقها أموال والديها وتنعم بالحرية، تدريجياً صعدت «منة» إلى الهاوية، من دخان السجائر وصولاً للأبتريل، حتى قسم المدمنات بحثاً عن التعافى.

«فريدة»: تحولت إلى «ديلر» وأقلعت عن التعاطى عندما توفى صديقى بجرعة زائدة

تنفعل الفتاة مع تذكر تفاصيل حكايتها مع الإدمان، فترتجف يداها بإشارات مضطربة، بينما تكشف عن قصة زميلتها فى المدرسة التى دفعتها للإدمان، بعد أن قدمت لها عقاقير طبية على أنها علاج من الصداع، فوجدت بها الفتاة إحساساً بالسعادة، ومع زيادة طلب «منة» على الدواء بدأت تلك المروجة للمخدر فى ابتزازها، «كانت بتخلينى أوطى أجيب المخدرات من على جزمتها قدام المدرسة كلها»، وتكشفت خيوط المؤامرة بعد أن أدمنت «منة» المخدرات، تعترف لها الفتاة بأن شخصاً ما وقع فى حبها وبعد أن رفضت «منة» حبه، قرر أن يدخلها طريقاً لا مخرج منه، ومع سن الـ17 أتمت الفتاة الضحية معرفتها بكل أنواع المخدرات والخمور.

منعها والدها من الخروج إلى الشارع بعد علمه أنها مدمنة مخدرات، وقرر ربطها بالجنزير من قدميها فى فراشها، 4 شهور هى أكثر مدة حفر فيها الجنزير علاماته على قدم الفتاة، وتكرر الموقف مراراً على مدار 5 سنوات، «كنت بحس إنى كلبة»، وتفننت الفتاة فى الطرق المختلفة التى تفك بها قيودها، «كل مرة باخرج كنت بفكر لما أرجع هفك الجنزير تانى إزاى»، ولكن تلك الطريقة لم تنجح مع «منة» التى تسكن الدور الأرضى، «الشباك جنب السرير، أعمل اتصال من أى تليفون فى البيت الحاجة تجيلى لغاية عندى»، وتمد الفتاة يديها فى مشهد تمثيلى للطريقة التى وصلت بها المخدرات «دليفرى» حتى السرير.

أعمارهن كانت تتراوح بين 10 و15 عاماً حين بدأن التعاطى وأسرهن لجأت إلى الحبس لعقابهن

ونفس الداء الذى أصاب «منة» وأدخلها سكة المخدرات، هو ما أخرجها منها، «الحب»، فقد وقع فى غرامها شاب رآها تخرج من منزلها دون حذاء بعد نوبة شعوذة بحثاً عن المخدرات، فأعادها إلى المنزل، وطلب يدها من والدها وترجاه أن يعالجها بشكل فعلى داخل المستشفيات، فوافق والدها رغم معارضته حتى العلاج فى البداية، لكنها قضت فترة خروج السموم من الجسم وهى المرحلة الأولى والأساسية من العلاج فى منزلها، «كنت بحس أن روحى بتطلع».

ولأن الدنيا تسير عكس الاتجاه دوماً، أدمنت «نيرمين»، وهو اسم مستعار للفتاة، منذ عامها الـ10 وهى مدخنة، وعند إتمامها الـ15 عاماً كانت قد أقبلت على المخدرات.

طردت «نرمين» من منزلها، وأجبرت على سكن منزل أختها لفترة، كانت مصدر عار لأشقائها الذكور، قررت والدتها التبرؤ منها حينما أقبلت على تعاطى المخدرات، وظلت فى الجامعة لمدة 6 سنوات تعيد الترم الثانى فى 3 مواد بسبب الإدمان، ووصل وزنها إلى 40 كيلوجراماً، وزادت رغبتها فى الانتحار، «وببقى مقتنعة إنى لو مت ربنا هيسامحنى»، بالإضافة إلى أنها لجأت إلى السرقة والنصب لتوفير نفقات الإدمان.

«نرمين» ذاتها لم تقتنع بتبطيلها الإدمان «كنت عايزة أهدى الدنيا بس عشان أرجع أضرب تانى»، لكن قضية قتل حدثت أمامها تحفظت «نرمين» على ذكر تفاصيلها كانت النهاية التى أقرت بعدها أنها يجب أن تتعافى من المخدرات.

«ماترجعيش للضرب تانى إنتى كده أحسن، بلاش ترجعى تتعبى وحبى نفسك».. جملة احتفظت بها «فريدة» داخل أحد أدراجها بمنزل والدها القديم، الذى عزف الجميع عن زيارته، ولأن الحياة الطبيعية تصبح ضرورة للمدمنات عندما يصلن فيها إلى «القاع»، أبقت «فريدة»، وهو الاسم المستعار للسيدة الأربعينية، على بقاياها كمدمنة وسيجارة الحشيش الأخيرة التى دخنت نصفها، ومعها أدوات الإدمان من أوراق بفرة «لرص لاين هيروين»، وأغلقت عليها بمفتاح.

معاناتها مع الإدمان استمرت لما يزيد على 25 عاماً، تناولت فيها جميع أنواع المخدرات والكحوليات، وانجرفت مع أشخاص لا تتمنى رؤيتهم مجدداً، «كنت فى الثانوى فى مدرسة إنترناشونال، عرفت المخدرات من صحابى لما كانوا بيحششوا»، كانت تمزج نوعين من المخدرات مع الحشيش، وتتناول معها الكحوليات، ما كان يفقدها الوعى بعد فترة «كنت بفوق ألاقى مسروق منى فلوس، ومرة موبايل وماكانش بيفرق معايا»، فقد انغمست مع مدمنين سعوا لاستغلالها بكافة الطرق.

تطور الحال مع «فريدة» إلى أن أصبحت موردة مخدرات لجميع من فى الجامعة الخاصة التى التحقت بها بعد المرحلة الثانوية، إلى أن اكتشف والداها تلك الأمور، ويحصلا على نصيبهما من المفاجأة التى أرادا إنهاءها بشكل سريع بحجزها داخل إحدى مصحات علاج الإدمان، التى هربت منها بمجرد دخولها، «ورحت قعدت عند واحد كنت بحبه عنده بيته لوحده وبقينا بنضرب براحتنا لدرجة قعدنا شهر ونص تقريباً مش فايقين ومش بنطلع بره الشقة ومش متخيلين أن فى حاجة اسمها تبطيل».

كانت المفاجآت رفيقة «فريدة» فى كل صباح، حينما استيقظت ذات مرة لتجد حبيبها ميتاً بجوارها إثر جرعة زائدة، فأجرت اتصالاً بوالدتها لتأتى لاصطحابها، وتقرر بداية التعافى، والمضى قدماً فى البرنامج العلاجى الـ12 خطوة، خشية ألا تستيقظ ذات يوم هى الأخرى ميتة.

لا تختلف طريقة علاج الفتاة من الإدمان عن الرجل من حيث التطبيق العملى، وفق الدكتور خالد الدباغ، المتخصص فى علاج الإدمان والحاصل على ماجستير الباطنة والسموم، ولكن المفارقة الحقيقية تكون فى إقناع أهل الفتاة الذين يكونون غالباً متعنتين فى ذهاب الفتاة لمركز علاجى، ظناً منهم أن هذا الأمر يعد عاراً على العائلة، موضحاً أن أغلب الأهالى يعدون الحبس فى المنزل وربط الفتاة من العلاجات الفعالة فى حالات الإدمان، ولذلك لا يكتمل البروتوكول العلاجى لآخره فى الغالب، فبمجرد أن تزول السموم ترجع الفتاة لمنزل والديها، وهو ما حدث مع مريضاته.

مضيفاً أن العلاج الأكثر فاعلية هو الذى تقرره الفتاة خارج المركز العلاجى قائماً على الإرادة الحرة، وذلك لأن للفتاة خصوصية ولا ترغب فى كشف أسرارها على مجموعات كبيرة، ويضيف «الدباغ» أن التلفظ والتبجح، والتغييرات الجسمانية والعصبية، والسرقة والسلوك غير السوى، والانعزال والكذب، جميعها علامات على إدمان الفتاة، ويجب احتواؤها واستشارة المتخصصين.

ويستكمل الدكتور أحمد البحيرى، استشارى الطب النفسى وعلاج الإدمان، أسباب الإدمان النفسية وتشمل الاضطرابات والتغيرات الشخصية، فضلاً عن وجود السمات الذاتية للفرد كـ«الشخصية الإدمانية» التى تعنى حب البحث والمغامرة والاندفاعية والتردد، ورغم أنها سمات تكون إيجابية فى بعض الأشخاص، إلا أنها تكون سبباً فى تورط الشخص فى مرض الإدمان.

أما عن العوامل الاجتماعية والثقافية، فأوضح البحيرى أنها تشمل العنف فى التربية من الأهل، ومدى الارتباط الاجتماعى للفرد مع أسرته ومجتمعه، والمحن وضغوط الحياة، وهو ما يجعل النساء والأطفال فى هذه الحالة الأكثر عرضة للإدمان.

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى