منوعات

محمد الباز يكتب.. الله في مصر (30): الحلقة الأخيرة

 

 

قالت الأرض: يارب دعنى أبتلع ابن آدم فقد أكل خيرك ومنع شكرك.
وقالت السماء: يارب دعنى أسقط على ابن آدم فقد أكل خيرك ومنع شكرك.
وقالت الجبال: يارب دعنى أطبق على ابن آدم فقد أكل خيرك ومنع شكرك.
وقالت البحار: يارب دعنى أغرق ابن آدم فقد أكل خيرك ومنع شكرك.
نظر الله إلى مخلوقاته القوية العفية القادرة المتجبرة المتسلطة، التى قررت أن تتخلص من الإنسان الذى هو أضعفها جميعا، لأنه لا يؤدى لربه واجب الشكر على نعمته، وفى لحظة إلهية خالصة وصادقة، يقول لهم: دعوهم دعوهم… لو خلقتموهم لرحمتموهم… إن تابوا إلى فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم؟
حديثى قدسى درامى جدا، يصعد بك إلى أعلى درجات الخيال، سمعته من خطيب مسجد وأنا صغير، كان يقوله وهو متأثر جدا به، وبعد أن احترفت الخطابة لمدة ست سنوات، كان يحلو لى أنا أكرره، وفى كل مرة كنت ألقيه على مسامع من يستمعون إلى، كنت أشعر بكل معانيه، وبما يوحى به من حنان وطيبة وصبر.
منذ هذه اللحظة وترسخ فى قلبى أن الله طيب.
كنت أمر من أمام آيات العذاب فى القرآن” كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب”… وأعبر سريعا.
كنت أشعر أنها آيات لا يمكن أن تخص الله الرحيم.
لقد جاءت مثل هذه الآيات فى القرآن وهى كثيرة للتخويف والترهيب، وإعطاء العظة والعبرة، إنها تشبه خطاب الأب الذى يهدد ويتوعد أبناءه حتى لا يقعوا فى الخطأ، وحتى عندما يقعون فيه فهو يقسو عليهم، لكنه لا يعذبهم أبدا.
هل أحدثكم عن الشعور الحقيقى الذى لم يغادرنى أبدا؟
الله عندى مثل الأم التى تدعو على ابنها لكنها تكره من يقول آمين، ستغضب وتقول أن الله رجل، وليس إمراة، هكذا صوروه ويصورنه، وخيالك لا يجرؤ أبدا سأقول لك هو ليس هذا ولا تلك.
الله هو الله.
أنا أحدثك عما أحس به وأشعر، فقلبه قلب أم، يمكن أن تحمل على كتفيها عناء الدنيا كلها، لكنها لا تتعب أبدا، ولا تمل أبدا، ولا تكره أبدا، ولا تعذب أبدا، فهى رحمة كاملة، طول الوقت وبلا انقطاع.
حتى صفات الله التى توحى بالعنف، لم ينسبها لنفسه للتعامل مع أبناءه، ولكن للتعامل مع من يقسون عليهم، ولو قلت أننا جميعا أبناءه، سأقول لك، لكنه عادل، منحنا جميعا أسباب الحياة، وتركنا نتفاعل بها وفيها وعليها، ومن ينحرف فلابد أن يعاقب، على الأقل حتى تستقيم الحياة، و لو رأيت من يخطئ لا يعاقب فى الدنيا، فقد جعل الله موازينه فى الآخرة لا تكذب ولا تتجمل، بل تمنح كل منا ما يستحق دون زيادة أو نقصان.
ولأن الله طيب فلم يمنع نعمه عمن يعصونه، يريدهم فقط أن يسعوا وهو سيقف إلى جوارهم فى مساعيهم، ستقول مثلا أن هناك كثيرون لا يرضون عن أرزاقهم، يغضبون لأنهم لا يحصلون على ما يتخيلون أنهم يستحقونه، رغم أنهم لا يعرفون أن هذا قدرهم وهذا رزقهم.
لقد تقاطع المصريون مع ربهم فى مسألة الرزق تحديدا بشكل عبقرى.
على مستوى الدين مثلا، لهم نظرية فى مسألة الزرق، فلأن الله عادل، فقد وزع الأرزاق كلها على الناس بالتساوى، قد لا يكون فيها توازن، لكنها فى النهاية متساوية.
مؤكد أنك سمعت ما يتبناه كثير من الشيوخ، فالرزق الذى يأخذه كل منا موزع إلى 24 جزءا، بعضها صحة وبعضها مال وبعضها ولد، وبعضها رضا، يمكن أن يكون مالك كثير، لكن صحتك معتلة، ويمكن أن تكون صحيح البدن معافى، لكن لا تملك من متاع الدنيا شيئا، يمكن أن يكون عندك المال والصحة، لكن بلا ولد، ويمكن أن يملأ الله عليك الدنيا أولادا، لكن بلا مال، المهم أن يكون لديك ال 24 جزءا كاملة.
ولأن الرضا بهذه القسمة ليس موجودا طول الوقت، أخرج المصريون تبريرا لما يجرى على الأرض، فقالوا أن الله عندما قسم العقول جعل ذلك بالليل، فلم ير أحد عقل الآخر، ولذلك فكل منا يرضى بعقله، ولا يقبل فيه نقدا أو له رفضا، أما الأرزاق فقد وزعها الله بالنهار، ولأن كل منا رأى رزق غيره، فنحن لا نرضى عنه أبدا، بل ونتنازع بسببه، ولا أبالغ إذا قلت أن كل الحروب التى شهدتها البشرية، كانت بسبب هذا الرزق المادى الذى وزعه الله بالنهار.
إننا لا نتصارع فى هذه الدنيا إلا بأسباب الله، وفى صراعنا نكفر به، ونخطئ فى حقه ونتطاول عليه، يدعى بعضنا أنه يحميه، بعد أن يقنع أتباعه بأنه يتحدث باسمه، وبعضنا يدعى أنه يخلصه من أسر من يدعون أنهم يحمونه، وفى هذه الحالة يقنع هؤلاء أتباعهم أن الله ليس ملكا لأحد، ولكنه ملك للناس جميعا.
يطلع الله علينا جميعا ” يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور”… هكذا استقر فى قلوبنا ورسخ فى وجداننا، ورغم أنه يعرف كل شئ، ليس بعد ما يجرى على أيدينا، ولكن قبل أن يجرى، إلا أنه يغفر ويعفو ويسامح، ولا يؤاخذنا بأعمالنا، ولا حتى بما يفعله السفهاء منا، فالله أكبر من ذلك كله وأعز وأكرم.
هل تذكرون الدعاء الذى ننكره فى صلواتنا ” اللهم حاسبنا بفضلك، ولا تحاسبنا بعدلك”… هذه هى الحكاية بيننا وبينه، فنحن نطعم فى فضل الله لأننا به سننجو، أما لو حاسبنا الله بعدله، قال لنا لكم ما قدمتم، وعليكم ما منعتم، فتقريبا لن يدخل أحد منا الجنة.
وكم كان نجيب محفوظ عظيما وحكيما وقريبا من الله، وهو يسجل فى أصداء سيرته الذاتية، عمله الرائع والموجز والمكثف، والذى لخص فيه كل فلسفته فى الحياة، عندما قال: سألت الشيخ عبد ربه: كيف تنتهى المحنة التى نعانيها؟ فأجاب: إن خرجنا منها سالمين فهى الرحمة، وإن خرجنا منها هالكين فهو العدل.
المحنة التى قصدها نجيب محفوظ هى الحياة التى نعانى منها وتعانى منا، لا محنة غيرها، ولا مصير لنا إلا أن نخرج منها سالمين أو هالكين، وفى الحالتين كله مكتوب فى يد الله، لا يغادرها.
يعطف الله علينا كثيرا دون أن نستحق؟
أعرف أن الله حكم علينا بالشقاء، قال لآدم وحواء وهو يودعهما بعد أن أخرجهما من جنته” اهبط أنت وزوجك من الجنة لتشقى”… لكن هل كتب الله علينا كل هذا الإنحطاط البشرى الذى ندير به حياتنا؟ إننا لا نتصرف من تلقاء أنفسنا أبدا، فكل شئ منه وإليه.
ربما كان هذا هو الاختبار الأكبر، فقد وضع فينا الخبيث والطيب، يجاور كل منهما الآخر، ثم يترك لنا الإختيار، هل نسمح للطيب أن ينتصر، أم نترك الخبيث يعيش ويحكم ويتحكم؟
طيبة الله المطلقة أنه تركنا نعبث فى الكون كما نريد؟
هو ذاته تحدث مع الملائكة الكرام، قال لهم ” إنى جاعل فى الأرض خليفة”… اعترضوا بأدب: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”… لو صمتوا عند هذا الحد، لقلنا أنهم يتحدثون بموضوعية وحيادية شديدة، لكنهم قالوا ” ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك”… وكأنهم كانوا يريدون الله لهم وحدهم، عرفوا أنه سينشغل بهذه المخلوق بذريته، فأحبوا أن يقطعوا الطريق عليه، لكن الله حسم الأمر كله ” قال إنى أعلم ما لا تعلمون”.
ما الذى كان يعلمه الله عنا، ولا تعلمه الملائك؟
المنطق يقول: أن الله الذى رفض منطق الملائكة فى الحديث عن آدم، عندما قالوا أنه سيفسد ويسفك الدماء، يعلم يقينا أن المخلوق الجديد لن يفعل ذلك على الإطلاق… لكنه قبل أن يفعل عصى الله شخصيا، وخرج عن طاعته، ثم فعل ما هو أكثر من الفساد وسفك الدماء على الأرض.
الحيرة… لا نملك إلا الحيرة حيال كل ما جرى ويجرى لنا؟
يمكن أن تختار الراحة، تحسم الأمر كله، ويمكن أن تظل باحثا عن حكمة حياتك وموتك، الغريب أن فى الحالتين لن ترتاح أبدا، فلكل حالة أزماتها وانفعالاتها وقلقها وأرقها، وفى كل حالة وبعد أن تعتقد أنك وصلت إلى مرفأ آمن خلالها، تتجدد الحيرة من جديد.
لم يظلمنا الله عندما خلقنا؟
هذا يقينى الكامل.
لكن ما يحدث على هذه الأرض، هو أننا مظلومون بالفعل، فكيف يمكن أن نفك هذا الاشتباك؟
يمكن أن نتحدث كثيرا، ننظر كثيرا، نستدعى كل ما فى جعبتنا من ثقافات ومعرفة بالأديان وعطاءات المفكرين والزاهدين والأولياء، ويمكن أن نصادف ما يريح عقولنا، لكن الشقاء لا ينتهى أبدا.
الله ليس طيبا فقط، إنه متسامح أيضا، متسامح جدا، يعرف ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا، فيمد لنا من حبال رحمته، ما نستطيع أن نعيش به، لا نعيش فقط، بل نتجرأ عليه به، معتقدين أننا يمكن أن نعيش بمفردنا، دون أن نتكأ عليه.
الغريب أنه يمنح من يتجرأون عليه بغير حساب، ليس بمنطق أنه يمد لهم، حتى إذا أمسكهم لم يفلتهم، وليس بالمنطق الشعبى المصرى الذى يردد مقولة أن الله إذا كره عبدا قال لملائكته: اذهبوا إلى عبدى فلان، فصبوا عليه النعم، فإنى لا أريده أن يمر بضيق أبدا، لأنى لا أريد أن أسمعه يقول يارب.
ربما لا يكون هذا حديثا من الأساس لا نبوى ولا قدسى ولا يحزنون، بل إن الله الرحيم الذى يقبل عباده مهما أجرموا لا يمكن أبدا أن يتعامل بهذا المنطق مع من يخطئون فى حقه.
إننى أتحدث عن شئ آخر تماما، شئ يصل إلى درجة السحر.
واسمحوا لى أن أنهى هذه الحديث الطويل عن الله بنموذج مما أقصد، وهو نموذج لا يدل على طيبة الله فقط، ولكن يؤكد تسامحه وكرمه.
تعرفون الشيخ سيد النقشبندى، وتعرفون أغنيته العظيمة ” مولاى”، وتعرفون أن من لحنها هو العبقرى بليغ حمدى.
كان النقشبندى نموذجا لعبد الله الطائع، الذى يهيم عشقا ويذوب ولها فى اولياء الله الصالحين، بعد أن فتح الله عليه الدنيا، رفض أن يغادر بيته فى طنطا، لا لشئ إلا لأنه يجاور الولى الكبير السيد البدوى.
يقولون أن الرئيس السادات كان يحبه، وأنه من طلب منه أن يترك طنطا ويأتى إلى القاهرة ليقيم فيها، لكن الشيخ سيد رفض، وقال له أنه لا يفضل على جوار البدوى جوار، هناك من قال أن البدوى نفسه زار الشيخ النقشبندى فى المنام، وقال له: اوعى تسبنى يا سيدى، لكنى أعتقد أن النقشبندى فعلها من نفسه، لكن ماذا نفعل والأساطير تسعى خلف أصحابها.
أما بليغ حمدى فهو من هو فى الموسيقى، لكنه فى حياته كان أبعد ما يكون عن الحياة الروحية ولو حتى بمعناها النظرى وليس الطقوسى، ولم يكن أحد يتوقع أن تخرج من بين يديه هذه التحفة التى هى آتية من السماء رأسا، فكيف يمنحها الله لمثله، ويحجبها عن غيره ممن هم إلى الله أقرب؟
لا يفرش الله ثوبة لمن أطاعوه فقط، ولكنه يفرش لمن يريد، وعندما ترى وحى الله يتأت لمن لا تتوقع، فلا تسأل، لأنه أراد، وعندما يريد، فلا راد لمشيئه.
الحكاية معروفة لك، الرئيس السادات طلب من الإذاعى الشهير وجدى الحكيم أن يجمع النقشبندى وبليغ حمدى فى عمل دينى، رفض النقشبندى بحسم، وكان من بين ما قاله لوجدى: إزاى يا سى وجدى أغنى حاجة ملحنها واحد مخمور لا يفيق.
هنا مربط الفرس، فرغم تقوى وورع سيد النقسبندى،إلا أن حكمة الله خفت عليه، فالله لا يمنح من أطاعوه فقط، ولكنه يمنح من عصوه أيضا، لا أحكم على بليغ حمدى هنا بشئ، فطاعته له ومعصيته عليه، ولا يحكم فى ذلك كله إلا الله، لكننى أسجل فقط ما حدث.
غنى النقشبندى ” مولاى” وهى واحدة من 17 أغنية لحنها له بليغ، لكن تظل هذه الأغنية أشهرهم وأكثرهم قدرة على التأثير.
ستقول أن الصوت شجى وندى، أعتبر صوت النقشبندى هو أجمل صوت خلقه الله على الإطلاق، وستقول أن اللحن عبقرى، تفوق فيه بليغ على نفسه، لكن السر كله فى الكلمات، التى من فرط ما تعودنا على سماعها يفوتنا تأملها، وللأسف الشديد لا نأتى على من كتبها بذكر.
لم أسمع ” مولاى” فى أى مرة، إلا وشعرت بأننى أصعد إلى السماء.
هل تعى ما يقصده عبد الفتاح مصطفى الشاعر والصوفى العظيم كاتب ” مولاى” وهو يقول: “من لى ألوذ به إلاك يا سندى”.
وهل تدرك ما وراء قوله ” بنور وجهك إنى عائذ وجل، ومن يعذ بك لا يشقى إلى الأبد”.
وهل وصل خيالك فى يوم من الأيام أن تقف بين يدى الله وتقول له:” مهما لقيت من الدنيا وعارضها، فأنت شغل لى عما يرى جسدى، تحلو مرارة عيش فى رضاك، وما أطيق سخطا على عيش من الرغد”.
هل قابلت تليخصا لما يربطنا نحن المصريين بالله، أكثر مما سمعته: من لى سواك، ومن سواك يرى قلبى ويسمعه، كل الخلائق فى يد الصمد”.
آه مما كتبوه ولحنوه وغنوه.
هذه هى القصة كلها ” كل الخلائق ظل فى يد الصمد”.
ولذلك لا ترهقوا أنفسكم كثيرا، فمن يده كل شئ، وبيده كل شئ، ادعوه فقط أن نخرج من الدنيا برحمته لأننا أهون مما نعتقد، ولا يخرجنا منها بعدله، لأننا أضعف من أن نتحمل.

 

 

 

الدستور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى