الأخبار

عن عاصمة الربيع وصيف الواقع

AmrElznt

مع مطلع الربيع تم الإعلان عن مشروع العاصمة الجديدة. أتذكر جيدا الإعلان المصور الذى عرض فى المؤتمر الاقتصادى. أتذكره جيدا لأنه عبّر فى نظرى عن مجموعة معتبرة من المعوقات التى تكبل حركة هذه البلاد إلى خارج وحل الرمال المتحركة التى تجد نفسها فيه.

عكس الإعلان عدم جدية فى التصور وتحديد وكيفية الوصول إليه، وكأن من صنعه ليس مقتنعا بأن الهدف من الإعلان هو الترويج لشىء سيتحقق بالفعل، أما قبول المسؤولين عن المشروع بما جاء فى الإعلان فإما عبّر عن عدم إدراك لحجم التحدى وأدنى متطلبات التناسق مع معطيات الواقع، أم أنهم أيضا كانوا يعتقدون أن الإعلان (أى المنظر) فى حد ذاته غاية وليس وسيلة للترويج لمشروع جاد، يرمى إلى تحقيق التصميمات المطروحة، وإلا لماذا مثلا وافقوا على الإعلان عن نية حفر أكبر بحيرات العالم فى بلد يمكن أن يدخل فى معارك ضارية من أجل المياه فى المستقبل المنظور؟ المياه التى ستتبخر تحت شمس الصحراء من مساحة السطح الشاسع لهذه البحيرة لتضيع فى السماء؟

فهناك من يطرح أطروحاته العبثية بحسن نية، وهناك من يدرك كل ما قلته وأكثر، لكنه لا يعنيه، فـ«الإعلان» بالنسبة له وسيلة للـ«وصول»، بصرف النظر عن المضمون.. هكذا تتحول المشاريع والتطلعات إلى مسخ. وكثرة المسخ المحيط بالإنسان تنعكس على نظرته للعالم حوله، فيتحول الواقع نفسه الذى يعيشه إلى عبث مغيب من اللامعقولية والزيف، والفقر الفكرى المنعكس فى عدم القدرة على الابتكار حتى فى سياق الـ«فهلوة».

فمن يتأمل الإعلان المذكور سيجد مزيدا من الزيف؛ سيجده مستوحى بالكامل تقريبا من «موديلات» جاهزة تم اقتباسها من الخارج دون تعديل يعكس الواقع المصرى، أو أى ابتكار وليد عقل نقدى مدرك لذلك الواقع وقادر على تقييم المضمون على أساسه – ومن ثم الأطروحات التى تنشأ لا تتماشى مع قوانين الطبيعة أو العالم المادى المكون للبيئة المحلية، كموضوع البحيرات هذا.

هذا الإفلاس الفكرى ليس منفصلا منطقيا عن عشق الشعار والإعلان، على عكس التمسك بقيم الابتكار والإبداع والاستقلاية الفكرية، لأنه فى ظل سيادة الشعار- والواقع المتحول إلى المسخ، وغياب المعايير، وظاهرة الـ«وصول عن طريق الإعلان»- تتدنى قيمة الجدية والمثابرة فى التفكير والجهد العقلى الجسور والمتعمق.

لذلك، ليس من الغريب أن تكون الأزمة أوسع وأعمق فى المجالات، التى تتطلب قدرا أكبر من الجهد الفكرى الجاد مثل العلوم والفنون والآداب، هذه المجالات تصاب بالخمول عندما يكون الصعود سهلا إذا اتبع المرء سبيل الـ«مسخ»، فيصبح السبيل المفضل والأنجح لتحقيق الذات (المزيفة)، بدلا من الفكر الخلاق المبنى على الرغبة فى المساهمة فى المعرفة الإنسانية والإبداع البانى للحضارة، ويمكن تتبع هذه الظاهرة من أول التلميذ الذى يعد «بحثا» منسوخا بالكامل من «ويكيبيديا»، إلى الباحث الذى يزور رسالة الدكتوراه أو يقتبس الأوراق العلمية بالكامل من الخارج، أو ينتج أبحاثا مبتذلة ليس لها قيمة حقيقية، أو حتى منشورة فى دوريات «فالصو» على النت، لأنه يعرف أنها قد تفيده فى الـ«وصول» فى ظل غياب المعايير، خاصة إذا قام بالترويج لها بطريقة مناسبة، تماما كما يفعل أصحاب «الإعلان»، ولا يجب أن ننسى هنا تاريخ الاقتباس الفاقد إلى نواحٍ تطويرية رصينة، أو أحيانا حتى أى إشارة إلى الأصل، فى مجال الفن والأدب، فلنا تاريخ طويل فى هذا المجال.

ولن أتكلم عن موضوع «جهاز الفيروس» إلا بالإشارة بأنه مع مجىء الصيف الثاقب، ثمة بريق أمل أن يعاد التفكير فى تصور مشروع العاصمة الجديدة، ربما فى سياق عقلانى منظم وجاد هذه المرة، بعد أنباء انتشرت مؤخرا عن إعادة النظر فى مضمون المشروع وجهة وطريقة تنفيذه، إذا صح ذلك، فربما سنتعلم من الأخطاء، مثلما تعلمنا من موضوع الفيروس، وذلك فى حد ذاته يدعو إلى قدر من التفاؤل.

 

المصري اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى