الأخبار

محمود السعدني.. «جحا المصري»

108

 

 

صورة «الولد الشقي» أو «عاشق الصياعة» اختار أن يرسمها لنفسه المرحة، التي تجعل المقربين منه يطلقون عليه «جحا المصري» لنوادره أو «ابن البلد»، الذي يستمد مفرداته من الشارع كما عاش أحداثه على أرصفته، ساردًا لنا قصصًا من حياتنا في سطور عنوان لُغتها البهجة وفي طياتها سخرية و«ضحك كالبكاء»، فهو يرى أن «الفُكهي الحق ينبغي أن يكون ممرورًا غاية المرارة، وإلا فإن فكاهته تصبح ضربًا من اللهو».

 

 

أصل الحكاية

 

 

اسمه الكامل محمود عثمان محمد علي السعدني، وشهرته محمود السعدني، تعرفه شوارع الجيزة بحكاياته عنها وعن مقاهيها، التي ساهمت بجزء من تكوينه في رحلته.

اختار «السعدني» المولود عام 1928، طريق الصحافة للتعبير عما يراه في حياته، خاصة داخل الجيزة، التي استقر مقام أسرته بين أرجائها، وفي ذهنه أن الصحافة «صاحبة جلالة ولها بلاط، وأنها حفلات ورحلات ونجم صحفي مشهور يكتب وهو جالس على كرسي في مقهى أنيق في الشانزلزيه، ونسوان كما القشطة الصابحة تعاكسه وتباكسه وتجري وراءه، وزعماء يستيقظون في الليل على هدير صوته، ووزارات تسقط تحت هول كلماته، وعدل يقوم وظلم يندك بفضل توجيهاته وتعليماته».

 

 

Embedded image permalink

 

 

تلك الصورة استمدها من قرائته لسطور محمد التابعي، آنذاك، لكن الواقع صدم الولد الشقي، الذي يكشف في مذكراته أن منظر الصحف، التي طرق أبوابها مع صديقه رسام الكاريكاتير، طوغان، لم تطابق حلمه، فتخيل وهو يتجول بقلمه بين إصدارات تحمل أسماء «الكوكب»، «الشهاب المضيء»، «الخميس»، أن الجالسين وراء جدرانها يمثلون رهبان الفكر وأصحاب القضية، لكن في رحلته بين شوارع العتبة، محمد علي، وعابدين، كشفت له عكس ذلك.

دخل «ابن عطوطة»، كما أطلق «السعدني» على نفسه لكثرة رحلاته، في مشاكسات مع «صاحبة الجلالة»، فبدأ عمله بمجلة «الضباب» لكن تركيز صاحبها كامل خليفة انصب على النصب بطباعة تذاكر «خيرية» لحفلات يتقاضى ثمنها من جيوب أثرياء تلك الفترة، إلى أن وقع في قبضة البوليس.

لكنه بعد زمن استطاع شق طريقه بالكتابة في إصدارات لها وزن وقيمة بعد قيام ثورة يوليو، عام 1952، سواء في «الجمهورية» أو «روزاليوسف» أو «صباح الخير»، التي ترأس تحريرها، بعدما عبر عن صدمته بسبب بداياته في «الضباب»، لدرجة قوله: «خرجت من تجربتي الأولى في الصحافة بحسرة، وفقدت تلك الصورة زاهية الألوان عن صاحبة الجلالة وبلاطها، وأدركت أن البلاط هو الواجهة ولكن في القفا بدرونات ومزابل ومطابخ ذات رائحة عفنة».

مدرسة «السخرية» في «قهوة عبدالله»

براعة «السعدني» وسخريته المستمدة من الواقع، يعود تكوينها إلى «قهوة عبدالله»، التي جلس على كراسيها في الجيزة في صحبة أدباء وفنانين وشعراء، بعضهم تتلمذ هو على يديهم، وبعضهم زاملهم، وبعضهم كما يقول: «تأستذت عليه إن صح هذا التعبير».

ويمضي قائلًا: «كانت سياحتي في قهوة عبدالله هي أهم سياحة في العمر، وكانت رحلتي خلالها هي أطول رحلاتي فقد امتدت 10 سنوات كاملة»، معتبرًا أنها «بخيرها وشرها كانت حياة حافلة وجامعات كبرى للفلسفة والتاريخ والمنطق والفن والأدب والشعر والموسيقى، وفن النكتة وعلم الحديث والكلام».

 

 

Embedded image permalink

 

 

رواد المقهى، الذين تأثر بهم «السعدني»، هاموا بحب مصر ولكن أحد منهم لم يفز بها، كما يحكي في كتابه «مسافر على الرصيف»، من بينهم زكريا الحجاوي، أنور المعداوي، عبدالرحمن الخميسي، نزار قباني، نعمان عاشور، صلاح جاهين، يوسف إدريس، صلاح عبدالصبور، رجاء النقاش، بالإضافة لتأثره بأزجال بيرم التونسي، الذي كسب صداقته أثناء عملهما في صحيفة «الجمهورية».

 

 

Embedded image permalink

 

 

الولد الشقي في السجن

لسانه اللاذع كان سببًا في دخوله السجن عهد الرئيس الراحل، محمد أنور السادات، من خلال النكات، التي أطلقها عليه هو وأهل بيته، لكنها لم تكن تهمته الأساسية بل الأمر يتعلق بانضمام اسمه لقوائم المحسوبين على كفة الرئيس الراحل، جمال عبدالناصر، فكانت خطوة لسجنه بعد وصول السادات للحكم.

 

 

Embedded image permalink

 

 

ربما يعود إطلاق النكات على السادات إلى عشق «السعدني» لـ«أيام الناصرية»، التي شهدت أيضًا دخوله السجن، وقتها، بتهمة أنه «شيوعي».

وفي رحلته داخل سجون مصر، يتحدث الولد الشقي فيكتب: «بعد أن ترددت على جميع السجون الحربية منها والمدنية، وبعد أن ذقت جميع أنواع الصفعات والشلاليت، ومارست الأشغال الشاقة في صحراء الواحات، أستطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير أن السجن ليس رادعًا وليس وسيلة للعقاب، لقد اخترع الإنسان السجن ليقضي على الجريمة، ولكن ها هو السجن قائم، والجريمة موجودة، يسيران جنبًا إلى جنب ولا يلتقيان، كأنهما شريط سكة حديد يكملان بعضهما ولا يتعارضان، وأعتقد أن الإنسان لابد أن أن يسعى لاختراع بديل آخر إذا أراد أن يقضي على المجرمين والإجرام».

حديث «السعدني» عن السجون يكمله بسطور تقول: «لقد كان القصد من بناء السجن، كما هو مكتوب عليه بحروف بارزة أعلى البوابات وعلى الأسوار (السجن تأديب وتهذيب وإصلاح)، ولكن يبدو أن الأعمال ليست بالنيات في مصلحة السجون، لأن السجن تحول بالفعل إلى تحطيم وتعذيب وإفساد».

 

 

 

 

 

Embedded image permalink

 

 

«وتسألني، وماذا استفدت من السجن؟ وأقول لا شىء، فالسجن ليس تجربة مفيدة، لأن التجربة الحقيقية في الخارج، حيث الحياة عريضة والحركة سريعة، والاختبارات متعددة، ولكن السجن يوم واحد ممل ومكرر وكئيب، غير أنني أستطيع أن أقول أيضًا إن تجربة السجن مفيدة وضرورية بشرط أن تحدث مرة واحدة ولفترة قصيرة».. من هذه السطور تستطيع الوقوف على خلاصة تجربة «السعدني» في السجون، التي دخلها 3 مرات لأسباب سياسية.

 

 

Embedded image permalink

 

 

«دوخيني يا لمونة»

بعد خروجه من السجن، بعهد السادات، رأى «السعدني» أنه مارس لعبة «دوخيني يا لمونة»، في رحلات أخذته بالطول والعرض من القاهرة إلى لندن، ومنها إلى الإمارات ثم إلى بيروت بل أن ينتقل إلى ليبيا ومنها إلى مالطة وبعدها الكويت والعراق إلى أن وقع السادات أمام مرمى النيران، التي اغتالت روحه، 1981، فكان موعدًا يسمح بعودة الولد الشقي من منفاه، بعد منعه من الكتابة داخل مصر لسنوات.

لكنه في تلك الفترة شارك بقلمه في تأسيس صحف عدة لم يكن حليفها مثل مجلة «23 يوليو» في لندن و«الفجر» في الإمارات.

 

 

 

 

 

Embedded image permalink

 

 

الصعلوك الرحالة

حب «السعدني» للرحلات، جعله يدخل مضمار أدبها ليحكي بقلمه عما رآه من أماكن وشخصيات في «بلاد تشيل وبلاد تحط»، ويمنح نفسه لقب «السعلوكي» خلال جولاته في أدغال أفريقيا، ولا يمانع في حمل اسم «ابن عطوطة» على وزن الرحالة الشهير «ابن بطوطة»، الذي كتب عنه: «رحمة الله وبركاته على عمنا القديم ابن بطوطة، كان هو الآخر صحفيًا، وإن كان ليس عضوًا بنقابة الصحفيين، فلم يكن في زمانه صحافة ولا يحزنون، كان الشاعر هو الصحفي وكانت غاية الشاعر هي مدح الملوك والخلفاء والولاة وعساكر المرور».

 

 

Embedded image permalink

 

 

ويكمل بسخرية تنتقد واقعه: «كان الشاعر، الذي يرفع قصيدة جيدة من نوع (وسمعًا بالعشارى إذا ذهبنا.. بأرض الله في كل زمان)، يحصل على مكافأة تساوي الهبرة، التي هبرها توفيق عبدالحي من بيع اللحوم الفاسدة والكتاكيت الميتة».

ويمضي الولد الشقي للحديث عن «ابن بطوطة»، فيقول: «اسمه كان عيبه، فبطوطة من البط، والبط طائر لا يطير، شديد الكسل، شديد الوخم، غاية رحلته لفة، في بحيرة أو نزهة في بركة أو بلبطة في ترعة حسب التساهيل.. المهم أن ابن عطوطة لم يكن اسمًا على مسمى، ولذلك أنا رأيت بعد كل هذا العمر الطويل أن أصحح هذا الخطأ الرهيب، وأطلقت على نفسي لقب عطوطة على وزن ابن بطوطة، باعتبار أن كلا منا له رحلات وجولات وسفريات على اختلاف الزمان والمكان، أنا إذن ابن عطوطة، وهو من العط، والإنسان يعط حتى يزهق، وأحيانًا يعط حتى يغمى عليه، وبعض الناس تعط وتعط حتى تضيع».

 

 

Embedded image permalink

 

 

ويكمل بسخرية تنتقد واقعه: «كان الشاعر، الذي يرفع قصيدة جيدة من نوع (وسمعًا بالعشارى إذا ذهبنا.. بأرض الله في كل زمان)، يحصل على مكافأة تساوي الهبرة، التي هبرها توفيق عبدالحي من بيع اللحوم الفاسدة والكتاكيت الميتة».

مؤرخ الشارع

لم يكتف «السعدني» بأدب الرحلات، الذي دخله بالحديث عن هونج كونج و«أمريكا يا ويكا»، وطوكيو، وباريس، ولندن، والخرطوم، وغيرها من البلاد، التي استضافته، بل دخل بقلمه إلى ساحة التاريخ في كتابه «مصر من تاني»، بقرار يقول عنه: «فكرنا ولله الحمد أن نلقي نظرة على تاريخ مصر من تاني، نظرة رجل من الشارع غير متخصص وغير كمساري، وعلى غير علاقة رسمية بالتاريخ»، شارحًا مبدأه في سطوره التالية بقوله: «سنحاول أن نجرد التاريخ من السلطة وأبهة الحاكم».

 

 

Embedded image permalink

 

 

وعن سبب مسلك «السعدني» لهذا الطريق، يوضح أنه «من المآسي ما يمتد في بطن التاريخ عدة مئات من السنين، ولكن أخطر مأساة في التاريخ أن كل خليفة حي هو مصدر الحكمة وينبوع المعرفة ونموذج الكمال، وهو يظل كذلك حتى يموت، فإذا مات فهو منبع الجهل ومصدر الظلم والنموذج الأكبر للفساد والاستبداد».

الولد الشقي يرى أن جذور تلك المأساة تعود إلى أن «نمط الحكم العربي يجعل من الخليفة أو السلطان أو الوالي الملك المعصوم، فلا يسمح لأحد بانتقاده وهو حي يرزق.. مسموح للجميع بأن يبالغوا في مدحه.. وفي الاعتراف بعبقريته.. فإذا مات الخليفة، قلبوا الأسطوانة على الوجه الآخر، وهي دائمًا عكس الوجه الأول».

 

 

 

 

Embedded image permalink

 

 

انتقاد «السعدني» للحاشية، التي تسير في ركب الحاكم، جعله ينحاز لطبقة هي الأقرب منه كما يظهر في كتاباته، فهو لا يرى أن مصر تقتصر على سلسلة من الأمراء والسلاطين والملوك، بل أصلها يعود إلى «حرافيش» الشارع.

يقول «السعدني» عن الفترة «الناصرية – الساداتية»، التي عاصرها: «مصر أيام عبدالناصر لم تكن هي الرئيس ونوابه ومدير المخابرات وأجهزة الاتحاد الاشتراكي، ولكنها كانت العمال والفلاحين والرأسمالية الوطنية والجنود والمثقفين، ومصر في عهد السادات لم تكن هي الرئيس أو زعماء المنابر أو تجار الشنطة وأصحاب بوتيكات شارع الشواربي وأصحاب الكباريهات ورواد الحانات، ولكنها كانت أيضًا ملايين الشحاتين والمتسولين، الذين يعانون المرض وخيبة الأمل والجوع».

 

 

Embedded image permalink

 

 

انتقاد «السعدني» للحاشية، التي تسير في ركب الحاكم، جعله ينحاز لطبقة هي الأقرب منه كما يظهر في كتاباته، فهو لا يرى أن مصر تقتصر على سلسلة من الأمراء والسلاطين والملوك، بل أصلها يعود إلى «حرافيش» الشارع.

وعن رأيه في عهد مبارك، يحكي الكاتب البارز محمد حسنين هيكل، عن وصف «السعدني» لكواليس لقائه الرئيس الأسبق بأنها «مصيبة».

 

 

Embedded image permalink

 

 

 

 

ويكشف «هيكل» في كتابه «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان»، عن الواقعة التالية، بعد وصول الرئيس الأسبق لسدة الحكم: «.. في هذه الفترة جاءني الكاتب الكبير والساخر الأكبر الأستاذ محمود السعدني، وقد مرَّ على مكتبى دون موعد يقول (إنه لا يريد غير خمس دقائق وسوف ينصرف بعدها)، ودخل محمود السعدني إلى مكتبي، وسحبنى من يدي إلى شرفة مكتبي يقول لي بصوت هامس:

(مصيبة.. كنت عند الرئيس مبارك الآن).

وأبديت بالإشارة تساؤلا مؤداه، وأين المصيبة؟!

وراح محمود السعدني يروي:

جلست مع الرئيس ساعة كاملة كلها ضحك ونكت، وعندما حان موعد انصرافي سألته مشيرا إلى المقعد، الذي كان يجلس عليه:

يا ريس.. ما هو شعورك وأنت تجلس على الكرسي، الذي جلس عليه رمسيس الثاني وصلاح الدين ومحمد علي وجمال عبدالناصر»؟

بماذا تظنه أجاب عليّ؟

ولم ينتظر محمود السعدني، بل واصل روايته:

نظر إلى الكرسي، الذي كان يقعد عليه، والتفت إليّ وسألني:

هل أعجبك الكرسي؟.. إذا كان أعجبك، فخذه معك.

ويخبط محمود السعدني كفًا بكف ويقول:

(وخرجت وطول الطريق لم أفق من الصدمة، الرجل لم يستطع أن يرى من الكرسي إلا أنه كرسي، لم يدرك المعنى، الذي قصدت إليه)».

وحاولت طمأنة محمود السعدني، وأنا نفسى لا أشعر بالاطمئنان، وكان تعليقي:

الحق عليك وليس عليه، لماذا تحدثه بالرمز؟، لماذا تفترض أن رئيس الدولة يجب أن يكون عليما بالمجاز في أدب اللغة؟، وكان تعليق السعدني لفظًا واحدًا لا يجوز نشره».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Embedded image permalink

 

 

«السعدني» نفسه تحدث عن مبارك في كتابه «مسافر بلا متاع»، فقال عنه إنه «الرجل، الذي أشعر بأنني لن أدخل السجن في ظله إلا إذا ارتكبت جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد»، كما رأى أنه «لا يحقد ولا يغتاظ، وليس من النوع الذي يجز على أسنانه».

كما وصف الولد الشقي في سطوره مبارك بأنه «طيار مقاتل ليلي، وأعصابه دائمًا في ثلاجة، ورياضي مزاجه معتدل لا يشخط ولا ينطر ولا يصرخ في الفاضية وفي المليانة».

 

 

Embedded image permalink

 

 

بالفعل لم يعرف السجن في عهد مبارك طريقه إلى «السعدني»، عاشق «الطواجن» من المحمر والمشمر والمسبك، وكل ما لذ وطاب من المشتهيات، لكن المرض تعرف على جسده وطوى صفحته، زائرًا إياه ليحجبه عن مريديه، عام 2006، فزحف على رئته وقدميه حتى كتب نهايته، 4 مايو 2010، بعد حياة ملأها صخبًا بقلمه «الساخر» بحرفي «السين» و«الشين»، كما وصف رحلته، التي امتدت 82 سنة.

 

 

Embedded image permalink

 

 

المصرى اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى