الأخبار

“حوار الطرشان في القصر الفرنساوي”

 

52

 

رغم أني من الحريصين على رؤية النصف الممتلئ من الكأس دوماً، إلا أني منذ وطأت هذا المكان ، مستشفى القصر العيني الفرنساوي ، لم أفلح في العثور على إيجابية واحدة تقلل من وقع تراكم السلبيات في كل تفصيل تقع عليه عيني أو يترامى لمسامعي.

قلت عبارتي تلك وأنا لا أدري إن كنت أنفس غيظاً داخلي أم أحذر المريض الذي جاء يشغل السرير المجاور لي في غرفة المستشفى، لكني فوجئت به يقول بلهجة تشي أنه غير مصري:
* هذا شعور جيد .. يشير لحجم الأمل داخلك .. والأمل عندما يكون كبيرا تنغصه أي سلبية مهما تضاءلت.
* والسلبيات عندما تتعاظم تقتل كل أمل .. ولكن، هل أنت مصري؟
* جنسيتي سويدية .. من أصل عربي .. وكل عربي صادق الانتماء لا بد أن يكون هذة الأيا م مصري بالعاطفة والعقل والوجدان.
* وهل الطب في مصر أفضل منه في السويد حتى تجري جراحتك هنا؟!
* نصف الكوب الفارغ يشير للكثير مما يشوة الطب في مصر .. إلا أن النصف الملآن يشير لأطباء نوابغ على مستوى عالمي من التفوق ومتابعة كل جديد في تخصصاتهم .. ناقشت حالتي مع طبيب سويدي وآخر مصري .. وجدت الطبيب السويدي متردداً على نحو أفقدني الثقة, بينما كان الطبيب المصري واثقاً مقنعاً واضحاً وحاسماً. لذا قررت أن يجري لي الجراحة هنا على نفقتي ..رغم إمكانية إجرائها هناك بالمجان.

أخجلتني كلماته عن مصر والمصريين .. وعن نصف الكوب الملآن أيضاً .. فلم أستطع البوح له بما حدث بالأمس على السريرالذي يجلس عليه الآن .. عندما جاءوا بمريض مغشي عليه وطلبوا من مرافقيه الذهاب للحسابات ثم تركوه وحده .. وبعد لحظات سقط المريض عن السرير سقطة أودت بحياته بعد أن غرق في دمائه .. ثم بدأوا بإلقاء اللوم على أهله الذين تركوه، متناسين أنه في مستشفى, وأن هذا المستشفى هو المسئول الأول والوحيد عن حياته!

رأيته يتلفت حوله والحيرة مرتسمة على ملامحه، فقلت مبتسماً هذه المرة:
* لا وجود لما تبحث عنه .. كان في الماضي هنا جرس جوار كل سرير .. وكان هاتف في كل غرفة، وأشياء أخرى كثيرة ، بعضها ضروري وبعضها كمالي .. أما الآن فلم يعد هناك شيئ من هذا كلة!

قال في حيرة واضحة:
* لكن هذا مستشفى فيه مرضى! الجرس ضروري!! .. ضروري جداً!!! .. لماذا لا تبلغون الإدارة؟!
لم أتمالك نفسي فقلت دون محاولة لتجميل الحقيقة:
* هنا تكمن المشكلة يا صاحبي .. أنت في مستشفى متكامل البناء والتجهيز .. به خيرة الأطباء وطواقم التمريض .. لكنه بلا إدارة .. لست أقول إن الإدارة ضعيفة بل هي غائبة ..غائبة تماماً
* لا .. أنت تبالغ .. كل إدارة يمكن أن تسهو أو تخطئ .. لكن لا يمكن أن تغيب الإدارة حتى عن حانوت صغير.
* ليتني أكون مخطئاً أو مبالغاً! .. ليتني أكون كذلك!!
قلتها وأنا أزفر تنهيدة حارة من الأعماق, منهيا الحوار رأفة بالرجل الذي يتهيأ لجراحة صعبة في الصباح.

ما حدث في اليوم التالي كان دليلاً على صدق توصيفي لغيابٍ كاملٍ للإدارة التي تراقب وتحاسب, إلا أنه أثار خجلي أمامه, فلم أعد راغباً في تأكيد وجهة نظري, عندما بدأ يستفيق من التخدير وينادي على الممرضين الجالسين بعيداً في غرفتهم يتسامرون بأصوات مرتفعة تحول دون سماعهم أي نداء .. توليت بنفسي خدمته قدر استطاعتي .. وعندما كنت أعجز عن ذلك, أضطر للذهاب إليهم في غرفتهم أرجو أحدهم القدوم ـ وللأمانة فقد كانوا عندئذ يستجيبون ولو بتثاقل!! ـ

تبادلنا نظرات تقول كل شبئ ونحن نستجدي النوم ليلآ, وأصوات صاخبة تقطع نعاسنا من وقت لآخر كلما نادى ممرض على زميله يسأله أمراً عن بعد, أو كلما انفجر ضحك جماعي على طرفة تطرد النوم من جفون الساهرين على راحة المرضى! .. الحق أقول .. إنا لم ننم ألا بعد أن تبددت ضوضاؤهم وخلدوا هم للنوم والسكون!!

أفقنا في الصباح على مفاجأة صادمة, عندما اكتشف شريكي في الغرفة سرقة تليفونه المحمول .. حدث هذا ونحن نيام .. تضاعفت امفاجأة عندما علمنا أن سرقة المرضى أمر شائع الحدوث هنا, وتعاظم وقعها عند وصول رجل الأمن بالمستشفى, الذي هو مجرد موظف يحمل مسمى رجل أمن, دون أي مؤهلات أو ملكات تؤهله لأداء دور مسماة .. خلاصة الأمر أن المرحوم كان مخطئاً كالعادة ولا تهمة لأحد, فالمنقولات الشخصية عهدة المريض نفسه وهو وحده المسئول عنها!!!

لم يبد جاري أسفاً على هاتفه المحمول رغم ارتفاع ثمنه, قدر ما أبدى من انشغال بال على أسرته التي تطمئن عليه عبر الاتصال من خلاله. نظر نحوي سائلاً في حيرة:
* هل تتصور حالهم عندما يتصلون فيجدون الهاتف مغلقاً كل الوقت, بعد أن علموا بإجراء الجراحة التي يدركون خطورتها؟ .. لا بد أن أسوأ الهواجس ستداهمهم!!!
* لا عليك .. عندما يأتي ولدي لزيارتي أبعثه ليشتري لك هاتفاً جديداً.
* لن أنتظر لحظة واحدة .. سأخرج الآن بنفسي لشراء هاتف ورقم جديدين.
* تخرج بنفسك؟!! .. ممنوع!!

ضحك ضحكة مجلجلة وهو يردد كلمة “ممنوع” بلهجة فيها مزيج من السخرية والمرارة والألم المكبوت, ولم يضف شيئاً بل بدأ يعد نفسه للخروج, فلم أجد بداً من الاستعداد لمرافقته, فهو غريب وحيد , وجرحه طري.

في مشهد سريالي لامعقول خرجنا وعدنا بعد ساعات .. مررنا من أمام الجميع, كل منا يحمل كيسين, واحد للدم وآخر للبول .. الكل يشاهدنا.. مرضى وزوار وممرضون وعمال نظافة ومظفو أمن واستقبال .. لا أحد يعلق أو يعترض!!! هذا أغرى صاحبي ليقرر الخروج بالليل كي يشاهد نهائي كأس العالم على مقهى قريب .. وقد فعل بعدما رد على اعتراضي قائلاً:
* أنت لا تلقي شيئاً على أرض نظيفة, أما الأرض المتسخة فتدفعك لعدم التردد في إلقاء أعقاب سجائرك كيفما اتفق .. قس على ذلك تفهم الوضع هنا, وفي كل أرض مصر.

جلست في سريري أتأمل عبارته الموجزة البليغة .. تدافعت الأفكار في رأسي .. الإدارة هي التي تعطي أي مكان ملامحه .. هي التي تضبط الأداء وبيئة العمل فتتحكم في النتائج. سرحت بعيداً .. قفز إلى ذهني قول ونستون تشرشل للألمان وهم يقصفون بلاده في الحرب العالمية الثانية:
” دمروا مصانعنا, احرقوا حقولنا, اهدموا بيوتنا .. واستبقوا لنا الإدارة ..بالإدارة وحدها سنكون قادرين على استعادة كل ما تدمروا وتحرقوا وتهدموا”
أعادني لجو الغرفة صوت طرق متواصل على سطحها يشي بهدم يتم في الطابق الأعلى .. تساءلت إن كان يمكن أن يحدث هذا دون تصريح من الإدارة! .. صحيح أننا في الليل, لكن الإدارة ليست رجلاً واحداً يعمل أوقات الدوام فقط .. الإدارة نظام وشبكة متصلة من الضوابط والتوجيهات والمراقبين والمتابعين .. شبكة تتواجد بفاعلية في كل الأوقات!.. فهل يعقل أن يفتقد هذا المستشفى الاستثماري الضخم لنظام إدارة؟!!
هنا تناهى إلى مسمعي صوت شجار بين الممرضين .. سمعت أحدهم يصيح قائلاً بعصبية واستنكار:
من قال إن الشيخ علي جمعة أباح الإفطار للمصيفين؟!! .. هذه إشاعات كاذبة تبثوها للبلبلة والتشكيك .. أنتم من الخلايا النائمة التي تسعى للهدم حيث وجدت.
” الخلايا النائمة التي تسعى للهدم حيث وجدت” .

أدارت العبارة رأسي وبدأت تصوب تفكيري .. ما يجري هنا ليس مصادفة بل بفعل فاعل .. إدارة المستشفى ليست غائبة .. إنها حاضرة بالغياب .. الامتناع عن الفعل فعل له نتائج, وهذا ما تقترف الإدارة هنا فتتحقق النتائج التي ترجوها .. ها هي النتائج شاخصة أمامي … الجناح الذي أرقد فية يتسع لقرابة الأربعين سريراً.. كان الدخول إليه في الماضي يتم بحجز مسبق .. أما اليوم فلا يشغله سوى إحدى عشر مريضاً .. واحد فقط من غير موظفي الدولة يسدد تكاليف العلاج على نفقته الخاصة, وها هي الفرصة متاحة أمامه وأمام غيره لمغادرة المستشفى دون تسديد فاتورة العلاج!!

عندما سمعت جاري العربي السويدي، عاشق مصر وأهل مصر، يعاتب طبيبه قائلاً:
* كان عليك أن تنصحني ألا أجري العملية هنا يا دكتور .. هذا ليس مستشفى! .. ليس مستشفى!!
لم أعد في شك أن إدارة هذا المستشفى حاضرة وفاعلة بالغياب المتعمد .. وأن هذا واحد من أساليب الخلايا النائمة والكامنة في الهدم والتدمير والتشوية وإحباط طموحات الوطن والمواطن.

 

صدى البلد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى