الأخبار

ثورة 19 بداية المرحلة التعبيرية فى الفن المصرى

مثلت ثورة 1919 إحدى نقاط التحول المهمة فى الثقافة والفنون المصرية، واعتبرها مؤرخو الفن المصرى مرحلة فارقة تمثل الانتقال من الاداء الكلاسيكى واستعراض القدرات إلى الأداء التعبيرى، والذى يتناول موضوعات تلامس الواقع ومتغيراته، ولأن الموسيقى والغناء والمسرح كانت هى الفنون التى تصدرها فى هذه الحقبة التاريخية؛ فكانت هى الأكثر تأثرا بهذا التغيير، والأكثر ارتباطا بالشارع فى تلك المرحلة الفارقة فى تاريخ مصر، والتى نتتبع بعضا من ملامحها فى السطور التالية.

سيد درويش كان الصوت المحرض والمحرك للثورة ضد الاستعمار، وكانت أغانيه أجنحة تحلق بها أفكار الزعماء لتصل إلى الجماهير، وجاء نشيد «بلادى بلادى» الذى أصبح لحنا للسلام الوطنى المصرى، من جملة قالها الزعيم مصطفى كامل فى إحدى خطبه الثورية: «بلادى بلادى لكِ حبى وفؤادى»، والتقطها يونس القاضى لتكون مطلع قصيدته التى لحنها موسيقار الشعب لتكون نشيدا للوطن.
«كان سيد درويش بمثابة متحدث رسمى بلسان ثورة 1919، لأنه قام بالتعبير عن ملامح هذه الحالة الثورية فى الشارع المصرى عبر الاغانى التى قدمها فى تلك الفترة التاريخية، ولهذا استحق لقب فنان الشعب عن جدارة» تلك العبارة قالها الدكتور زين نصار، استاذ النقد الفنى بأكاديمية الفنون، والباحث والمؤرخ الموسيقى فى حديثه لـ«الشروق» عن دور الموسيقى والغناء فى إذكاء روح الثورة والوطنية.
وعن سيد درويش قال نصار إن طبيعة سيد درويش جعلته يميل إلى هذه الحالة الثورية، فهو فنان استطاع أن يستوعب ما سبقه من موجات غنائية.
وأشار نصار إلى ما قدمه درويش فى تلك المرحلة من اعمال اسقاطات ينال فيها من الاستعمار، ومنها اوبريت «شهرزاد»، الذى يدور حول الاميرة التى يحمى ملكها جيش من المرتزقة، ومن بينهم «زعبلة» الذى ارتحل من مصر وراء حبيبته «حورية»، فى رتبة الجندى، وتعجب به الأميرة فترقيه إلى رتبة قائد عام جيوش الأميرة.
من خلال أغانى العرض يمجد بذكاء فى الجيش المصرى ويبدى اعتزاز المصرى بجنسيته، وعمق انتمائه إلى تراب وطنه، وذلك من خلال لحنى «أنا المصرى»، و«أحسن جيوش»، وكذلك قدم اغنية الاسود، والتى يقول فيها على لسانهم: «إحنا الجنود.. زى الاسود.. نموت ولا نبعش الوطن».
أغانى موسيقار الشعب كان فيها تحدٍ واضح لسلطة لاستعمار، كما يؤكد المؤرخ الموسيقى الكبير، فعندما منعوا ذكر اسم قائد الثورة سعد باشا زغلول، قام بتقديم أغنية «يا بلح زعلول يا حليوة يا بلح» ليدفع الناس لتحدى القرار وذكر اسم الزعيم فى ترديدهم للأغنية التى انتشرت انتشار النار فى الهشيم وأصبحت على كل لسان فى مصر المحروسة، وفى سياق التحفيز والتحريض على الثورة قدم سيد درويش أغانى مثل «قم يا مصرى» التى كان لها صدى كبير فى الشارع المصرى.
وأكد زين نصار أن سيد درويش وإن كان الرمز الأهم والاشهر، إلا أن مشاعر الوطنية كانت حالة عامة ألهمت مبدعين آخرين، وذكر منهم الموسيقار يوسف جريس (1899 ــ 1961) والذى قدم مجموعة من الأعمال الموسيقية التى جسد فيها حالة الثورة التى شارك فيها، ومنها قصيد سيمفونى بعنوان «مصر»، والذى ألفه فى عام 1932 بعد خروجه من الحبس، حيث كان قد تم القبض عليه فى إحدى التظاهرات، وهذا القصيد هو أول مؤلف مصرى للأوركسترا السيمفونى، ويجسد فيه حالة ثورة 19 بشكل موسيقى، وتم تقديمه لأول مرة فى 16 أغسطس من عام 1937 بالإسكندرية.
وأشار إلى أهم المؤلفات والتى حملت مضامين وعناوين مصرية خالصة، ومنها القصيد السيمفونى «اهرام الفراعنة»، وقصيد «النيل والثورة»، و«نحو دير فى الصحراء»، كما ألف يوسف جريس السيمفونية الاولى «مصر» فى عام 1937.
«الثورة بالأساس شكلا مسرحيا».. بهذه الجملة يعبر الناقد المسرحى هشام ابراهيم عن ارتباط المسرح بالحالة الثورية التى عاشتها مصر بين عامى 1919 و1922، والتى انتهت بعودة زعيم الامة سعد باشا زعلول ورفاقه إلى ارض الوطن.

ويعلق الناقد المسرحى: «إذا اعتبرنا المسرح ساحة للتعبير الفردى والجماعى الموجه لجمهور ما، فيمكن اعتبار الثورات الشعبية، فى إحدى تجلياتها، شكلا موسعا من أشكال الأداء المسرحى، بل هو الفعل المسرحى الأضخم فى حياة الشعوب، من حيث التحام قطاعات واسعة من الجماهير فى حالة فعل يصوغ وعيها بذاتها وبمطالبها الجماعية فى وجه السلطة التى تثور عليها».

وأضاف بأنه فى الثورات الشعبية تتنوع مظاهر هذا الفعل المسرحى الذى تنطوى عليه، ما بين وقفات واعتصامات ومسيرات تأخذ أشكالا مشهدية متنوعة، حيث تتردد شعارات تلخص حالتها وأهدافها ومطالبها، وفى ثورة 1919، شأنها شأن الثورات الوطنية الكبرى، شكلت مظاهرها مسرحا بطول الوطن وعرضه، ومع تدرج مراحلها، ومع العنف القاتل الذى واجه به جيش الاحتلال صدور الثوار.

وأشار هشام إبراهيم إلى أن ثورة 1919 كسبت نصرا أخلاقيا حاسما عبر المشهديات المهيبة لمسيرات تشييع جثامين شهداء الثورة بصمتها الحزين النبيل، والتى ساهم فى دحض دعاوى التميز الأخلاقى والحضارى الذى طالما برر به الاحتلال حقه فى حكم المصريين.

وعن انعكاسات ثورة 19 على المسرح المصرى يرى الناقد المسرحى أن المظاهر المشهدية فى الثورات الشعبية لعبت دورا مركزيا فى إعادة اكتشاف وتعريف الذات الجماعية ومجالاتها الروحية، التى تجد تجلياتها فى أشكال التعبير الفنى عامة والأدائية خاصة، وحيث تكتشف الشعوب تنوعها فى سياق وحدتها، فيما يولد المسرح مجددا من رحم الثورات الشعبية مكتسبا روحا جديدة بوصفة ساحة عقلية لجدل تجليات الهوية وتناقضاتها، وهو ما تبدى فى سياق ثورة 1919 وما بعدها، حيث أخذ المسرح فى البحث عن أصول الهوية الوطنية سواء فى مصر القديمة أو الإسلامية أو العروبية.. إلخ، وهو ما شكل مدارات الجدل الفكرى فى حقبة ما يسمى بعصر الليبرالية المصرية قبل 1952.

 

الشروق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى