الأخبار

مأذون يروى تفاصيل عملية «تزوير» عقود الزواج

 

65

طفأ الأهل الأنوار وأظلموا المكان استعداداً لوصول مأذون القرية، فاليوم هو عقد قران سعاد ذات الأربعة عشر ربيعاً، دخل المأذون خلسة كى لا ينتبه الجيران فى قرية تبعد 10 كيلومترات عن مدينة المنصورة فى محافظة الدقهلية، وجلس فى ركن الحجرة حيث نادى بصوت خافت: «الشهود جاهزين؟». أخرج المأذون وثيقة زواج رسمى وقال إنها تتكلف 5000 جنيه، وخير أهل العروسة بين الوثيقة الرسمية وأخرى عرفية تتكلف 300 جنيه فقط، فاختار أهل العروسين ورقة الزواج العرفى الأقل تكلفة ووقع عليها العريس ووالد العروس. بعد أسبوع واحد من عقد القران دعت أسرتا «سعاد» وزوجها «محمد»، البالغ من العمر 16 سنة، الأقارب والجيران إلى حفل الزواج حيث علقوا الأنوار وشيدوا مسرحاً خشبياً وأحضروا فرقة موسيقية، ولم ينسوا أن يدعوا عمدة القرية وشيخ البلد لمباركة الزواج، ولم يسأل أحد عن عمر الزوجين.

زواج القاصرات بات سمة رئيسية خاصة فى الأحياء الفقيرة

 

 

هذا المشهد يتكرر فى كثير من قرى الدقهلية، بالمخالفة لقانون الطفل 126 لسنة 2008 الذى يمنع زواج البنات أقل من 18 عاماً باعتبارهن أطفالاً، مقارنة بسن الزواج القانونى فى الماضى وهو 16 عاماً الذى كان عموم المواطنين يقبلونه، وإن كان يعترض عليه نشطاء حقوق الإنسان، ومنظمات تعنى بحقوق المرأة والطفل، حتى صدر قانون 2008 تماشياً مع قرارات مؤتمر المرأة الذى عقد فى بكين عام 1995.

ظاهرة تزويج البنات أقل من 18 عاماً تنتشر فى الأرياف وفى بعض مناطق الحضر أيضاً، لأنه بسبب الموروث الاجتماعى والدينى يسود الاعتقاد بأن سن زواج البنت هى البلوغ وليست السن القانونية حسب ما يذكر المأذون «س. م»، مستشهداً بالمثل الشعبى المعروف «زواج البنت سترة».

يقول مأذون شرعى، طلب عدم ذكر اسمه، إن هذه الظاهرة بدأت تنتشر فى كل مكان منذ نحو 5 سنوات بعد صدور قانون الطفل 126 لعام 2008، الذى ينص على معاملة من لم يتعد 18 عاماً باعتباره طفلاً، وبموجب هذا القانون ارتفعت سن زواج البنت إلى 18 عاماً، ولم يستطع المواطنون خاصة فى المناطق الريفية قبول أن تبقى البنت بدون زواج حتى هذه السن، فبدأ التحايل على القانون والتعليمات، ويضيف: «ضعف عقوبة المخالف التى لا تتجاوز السجن سنتين أو الغرامة 300 جنيه حسب قانون العقوبات المصرى، ساهم فى انتشار الظاهرة».

ويتابع: «زواج البنت أقل من 18 عاماً يحدث إما بعقد عرفى، وفى هذه الحالة لا تكون هناك أى مسئولية على المأذون الذى لا يوقع على العقد، وإما بعقد رسمى من أصل و3 نسخ، والمأذون هو المسئول الوحيد عن إبرام العقود ولا توجد جهة رقابة عليه باستثناء القلم الشرعى الذى من المفترض أن يفحص أوراق المتزوجين ولكنه لم يعد يفعل ذلك مع تزايد أعباء العمل كثيراً، وتعين وزارة العدل المأذون إذا انطبقت عليه الشروط ومنها إلمامه بالعلوم الشرعية».

وأضاف: «فى حالة العقد الرسمى يزوِّر المأذون عمر البنت مستخدماً قلم حبر جاف يمكنه محوه، وذلك بأن يكتب تاريخ ميلاد غير صحيح ليصبح سنها 18 عاماً على الأقل وقت الزواج، ويعد التزوير فى المستندات الرسمية جناية بموجب قانون العقوبات المصرى تصل عقوبتها إلى الحبس أو غرامة لا تزيد على 500 جنيه، ويعد استخدام الحبر الجاف المخالفة الأولى للمادة 27 من لائحة المأذونين لسنة 1955 التى تنص على ضرورة استخدام المداد الأسود».

يتوجه المأذون بعد ذلك للقلم الشرعى بالمحكمة التى يتبعها لختم العقد، ثم يقدم للزوج نسخة ولولىِّ أمر الزوجة نسخة، أما النسخة الثالثة فكان يفترض أن يسلمها لإدارة الأحوال المدنية لتسجيل الزواج ما يسمح بإصدار أوراق ثبوتية للزوجين كبطاقة الهوية أو شهادات ميلاد الأطفال، لكن المأذون يمزق هذه النسخة لأن الأحوال المدنية تعمل بنظام مبرمج وستكتشف التزوير بسهولة فور إدخال بيانات الزوجة.

وهكذا يصبح الزواج كأنه رسمى لكن الدولة لا تعترف به، ما يعنى أنه فى حال أنجب الزوجان طفلاً فإنه يبقى بدون تسجيل، ولا يمكن استصدار بطاقة هوية للحصول على الخدمات العامة التى تقدمها الدولة مجاناً مثل التعليم والرعاية الصحية، وفى حالة الطلاق فإن الحقوق القانونية للزوجة تضيع.

عند بلوغ الزوجة السن القانونية 18 سنة، كما يقول المأذون: «أجمع النسختين مرة أخرى من الزوجين وأمزقهما، وأكتب عقد زواج جديداً؛ عقد التصادق».

يستلم المأذون من القلم الشرعى دفتر عقود الزواج ودفتر عقود الطلاق ودفتر عقود التصادق، والهدف من عقد التصادق هو تسجيل علاقة الزواج العرفى أو الزواج بدون أى أوراق، إذ إنه يتضمن بنداً يقول «عقد تصادق عن قيام الزوجية من تاريخ كذا، ولا يُلتفت فى تلك الحالة إلى سن الزوجين وقت قيام الزوجية»، بحسب ما يقول المأذون.

ويضيف: «مع تنامى هذه الظاهرة نشأت شبَكة من المأذونين يديرها وسطاء بين محافظات الدقهلية والشرقية والغربية وكفر الشيخ، من خلالها تُتبادل عقود الزواج، وتوثيقها حال تعرض أى منهم لمضايقات التدقيق فى قلم المأذونين التابع له».

ويوضح كيفية عمل هذه الشبكة قائلاً: «إذا أراد مأذون فى منطقة ما إبرام عقد زواج ولم يستطع لأن القلم الشرعى التابع له يدقق فى الأوراق، فإنه يحصل على عقد من دفتر عقود زواج لدى مأذون آخر قد يكون فى محافظة أخرى، وبعد أن يملأ بياناته أمام الزوجين يعيده إلى ذلك المأذون الآخر ليختمه بمعرفته، وهؤلاء لا يعرفون بعضهم بعضاً لكن وسطاء يرتبون لهذه المعاملات».

يرفض المسئولون تحمُّل أى مسئولية ويشيرون بأصابع الاتهام إلى القانون باعتباره هو السبب فى نشوء هذه الظاهرة، حيث إن الأهالى يخافون على بناتهم من العنوسة أكثر من خوفهم من مخالفة القانون.

مصطفى حسين الشريف، المستشار الشرعى والقانونى لنقابة مأذونى مصر والخبير فى شئون الأسرة، يقول إن «لائحة المأذونين وضعت سنة 1955، ولم تتغير رغم تغير طبيعة المجتمع على مدار أكثر من نصف قرن»، ويضيف: «تسبب هذا فى مشكلات مجتمعية كبيرة».

ويتابع: «أولياء الأمور لا يعترفون إلا بسن البلوغ للبنت، ومع رفع السن إلى 18 عاماً بدأت ظاهرة انتشار زواج القصَّر، والمأذون كان يحتفظ بدفتر التصادق لمدة سنتين أو 3 سنوات دون أن يتمكن من الانتهاء منه، وبعد صدور القانون أصبحت البنات تحت سن 18 يتزوجن عرفياً وبدأنا نحرر عقود تصادق بشكل يومى».

يؤكد رئيس قلم المأذونين بإحدى محاكم الدقهلية أن عقود التصادق التى لم يكن يستخدمها أحد قبل صدور قانون الطفل عام 2008 إلا فى توثيق الزواج العرفى – تسجل زيادة من عام لآخر حتى تجاوز معدل الزواج تحت السن القانونية 40% فى دائرة المحكمة التابعة له.

ويتابع: «عدد الزيجات باستخدام هذا النوع من العقود لم يكن يزيد على 15 زيجة، ويتألف دفتر عقود الزواج من 15 عقداً قبل عام 2008 وهو عام سن القانون، لكن العدد ارتفع عام 2009 إلى 525 زيجة. ثم انخفض عام 2010 إلى 315 زيجة قبل أن يعود إلى الارتفاع المطرد، حيث بلغ 825 زيجة باستخدام عقود التصادق عام 2011 ثم 1245 عام 2012 وأخيراً 1350 زيجة عام 2013».

ويضيف: «إضافة إلى من يلجأون إلى عقد التصادق لتسجيل الزواج رسمياً هناك نسبة ليست بالقليلة من العلاقات الزوجية تبقى غير رسمية أو بالأحرى مزورة إما لوفاة الزوج أو بسبب الطلاق».

فى بيت صغير ومتواضع فى إحدى قرى الدقهلية تعيش «ابتسام»، التى لا تتعدى 17 سنة، مع ابنتيها «حياة» 3 سنوات، و«أمل» فى عامها الأول، اللتين أنجبتهما من زوجين، وهى الآن مطلقة بعد الزيجة الثانية وتعيش مع والدتها.

قبلت أم ابتسام أن تزوج ابنتها عرفياً وهى فى الصف الأول الإعدادى حين كان عمرها 13 سنة لتتخلص من أعبائها، لكن هذا الزواج لم يستمر شهوراً وأثمر عن طفلتها الأولى «حياة»، وبعد مرور عام واحد تقدم لها شاب آخر لتكرر التجربة ولم يكمل زواجها الثانى شهوراً أيضاً حتى طلقها بعد أن حملت منه فى ابنتها الثانية «أمل».

تلخص «ابتسام» ذات الجسد الهزيل قصتها: «لم أتمكن من الحصول على شهادتى ميلاد للبنتين لأن زواجى لم يكن رسمياً ورفضوا فى الوحدة الصحية إعطائى التطعيمات الإجبارية لأنها تصرف للأطفال المسجلين فقط، ولا أستطيع أن أحصل من زوجى على أى نفقات لأنى لا أستطيع إثبات الزواج».

أما «مديحة» التى تبلغ من العمر 19 سنة، فقد تزوجت وعمرها 13 سنة من زوج عمره 45 سنة، إلا أن قصة زواجها لم تستمر طويلاً، حيث طردها الزوج فى وقت كان الجنين يتحرك فى أحشائها.

وتوفى الزوج قبل أن يولد الطفل ورفضت أسرة الزوج الاعتراف به، ويعيش الابن الذى بلغ الخامسة من العمر مع أمه دون أوراق رسمية ما يحول دون قيده فى المدرسة العام المقبل.

ولا يتوقف الضرر الواقع على الفتاة التى تتزوج قبل السن القانونية على ضياع حقوقها الشرعية بل يمتد إلى أبنائها، ما أكدته الدعوى القضائية التى رفعتها «منال» ضد مكتب صحة تابع لمركز المنصورة رفض استخراج شهادة ميلاد لابنتها سلوى لأن زوجها رفض الاعتراف بابنته. وطلبت «منال» من محكمة الأسرة قيد «سلوى» بمكتب الصحة المختص، لكن المحكمة رفضت الدعوى ورفضت نسب الطفلة لأبيها لعدم وجود عقد زواج رسمى.

ويقول موظف بالمحكمة إن مثل هذه القضايا نادر لأنها قضايا خاسرة دائماً، ولأن أسرة الزوجة تعتبر ذلك «فضيحة».

يقول رئيس إحدى وحدات طب الأسرة بالمنصورة: «مثل تلك القضايا نعانى منها يومياً خاصة فى قيد المواليد الجديدة، وتأتى لنا قسائم زواج مزورة ولكننا لسنا جهة تحقيق أو مباحث»، ويوضح أن رئيس الوحدة لا يستطيع الإبلاغ عن هذه القسائم المزورة لأنه فى العادة يكون من أهل القرية التى تقع فيها الوحدة، ولذلك فإن مثل هذا الإجراء يعتبر وصمة عار له أمام أهالى قريته.

يتفق الأطباء على أن الفتاة التى تتزوج فى سن صغيرة قبل اكتمال نموها الجسدى والنفسى تتعرض لمشكلات جمة قد يصعب علاجها،

ويقول الدكتور سعد عبدالرؤوف، أستاذ أمراض النساء بجامعة المنصورة، إن «الهيكل العظمى للبنت لا يكتمل قبل 18 سنة تقريباً، وبالتالى يكون للزواج تأثير على العمود الفقرى وله تأثيره على الحوض، وإذا حدثت ولادة طبيعية تكون لها تأثيرات ضارة».

ويضيف: «زواج البنت فى سن مبكرة يجعلها أكثر عرضة للإصابة بأمراض الحمل كتسمم الحمل والأنيميا الحادة والضغط المرتفع وتلد مولوداً صغير الحجم».

ويقول الدكتور محمود الوصيفى، استشارى الطب النفسى، إن «الزواج المبكر يمنع البنت من استكمال التعليم، وعندما تقارن نفسها بزميلاتها تشعر بالنقص، ويمكن أن تشعر الأسرة باكتمال جسدها ولكنه لم ينضج بعد»، ويضيف: «زواج البنت فى سن مبكرة لا يتيح لها تلقى أى شكل من أشكال الثقافة الجنسية، كما أن البنت لا تستوعب فى هذه السن الصغيرة حيثيات البلوغ وقد تُصدم من الاتصال الجنسى المبكر ويكون له شكل من أشكال الاغتصاب، فتصاب بالخوف الشديد والتشنجات، وطبيعة الشخصية لا تكتمل معالمها الأساسية فى السن من 12-18 سنة، فيقوم الزوج بتشكيل الشخصية بدلاً من البيت والعائلة، وتكون وظيفة الزوج فى مقام الأب».

يطالب الخبير القانونى جمال رمضان مأمون بالنزول إلى سن زواج البنات إلى 16 سنة، لأن الزواج العرفى وبقسائم مزورة انتشر بعد صدور قانون الطفل عام 2008.

وتتفق إيمان إسماعيل عبدالهادى المحامية مع النزول بسن الزواج إلى 16 سنة، مؤكدة أنه عندما تحدى الأهالى القانون رغبة فى سترة بناتهم أصبحت النيابة العامة تحفظ التحقيقات لعدم الأهمية، فهى ترى أن الجريمة بسيطة ولن يضار أحد من مخالفة القانون. ولم يتسنَّ مقابلة مسئولين فى النيابة العامة للتعقيب على ذلك.

وترفض الدكتور عزة العشماوى، الأمين العام للمركز القومى للطفولة والأمومة، المطالبة بعودة سن الزواج إلى 16 سنة، قائلة: «أقول للمنادين بذلك إنهم لا يدركون حجم المخاطر الصحية والنفسية التى تتعرض لها الفتاة نتيجة الزواج المبكر، فضلاً عن حرمان الطفلة من فرصها فى التعليم وتحجيم دور المرأة فى المجتمع وتقليص فرص مشاركتها فى عمليات التنمية».

وتطالب «عشماوى» بدلاً من ذلك بتغليظ العقوبة على المخالفين ومضاعفة العقوبة إذا وقعت الجريمة على طفل، مع ضرورة إلغاء نص المادة 34 فقرة ثانية فى لائحة المأذونين التى تسمح فى النوبة ومحافظات البحر الأحمر وسيناء ومرسى مطروح والوادى الجديد بتحديد سن الزواج عن طريق تقديم شهادة ببلوغ السن القانونية من اثنين من الأقارب مصدقاً عليها من العمدة أو نائبه، حيث إن القانون العرفى هو السائد وتعترف به الدولة ضمنياً.

 

 

 

 

 

 

 

 

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى