الأخبار

الشأنُ العام

 

110

 

 

الشأن العام هو كل ما يتجاوز اهتمامات الفرد بذاته أو بأسرته المُباشرة. هو شأنٌ يتعلق بالكيان السياسى الذى يعيش الإنسانُ فى ظله. فى عصرنا الحاضر، هذا الكيان يُدعى الدولة القومية الحديثة. فى الحضارة اليونانية الكلاسيكية ظهرت منذ القرن الثامن قبل الميلاد تجمعات سُكانية تُسمى «الدولة- المدينة» Polis. من هذه الكلمة اشتُقت كلمة «السياسة» Politics، أى الشؤون العامة المتعلقة بهذه المُدن/ الدول. السياسة إذاً هى كل الأمور المتصلة بإدارة المُدن من فرض الضرائب واستخدام الأموال العامة وإعلان الحروب… إلخ. رأى اليونانيون القدماء أن الاشتراك فى الشأن العام هو فرضُ عين على كل مواطن فى المدينة (المواطن هنا هو الذكرُ الحُر- أى يُستثنى العبيد والنساء).

المُشاركة فى الشأن العام تخلق بالضرورة حالة من الجدل والاختلاف. هذه الحالة تدفع الناس إلى التفكير، وإلى تقليب وجهات النظر المختلفة فى كل مسألة. بالتدريج، يظهر من هم أكثر اهتماماً من غيرهم بالشأن العام. هؤلاء يُدعون بالسياسيين، أى الأشخاص الذى لا صنعة لهم سوى الشأن العام. هؤلاء الأشخاص يحوزون هذه المكانة بواقع قدراتهم ومواهبهم فى مناقشة القضايا العامة وإقناع الجمهور بتبنى وجهة نظر معينة فى شأن من الشؤون.

هذه «الحالة السياسية» تفترض فى السياسيين قدرات خاصة، قد يكون من أهمها التمكن من اللغة وتوظيفها، فضلاً عن القدرة على تحديد أهداف المجتمع وتعيين أولوياته. فى جُملة بسيطة: السياسة هى فن تحديد الأولويات بصورة صحيحة، وصناعة التوافق العام حولها. هكذا، ظهر فى اليونان القديمة المُدرسون الذين يعلمون الناس فنون الجدل. هؤلاء كانوا يُدعون بالسوفسطائيين (ولهذا نصف الجدل العقيم بالسوفسطائية لأنه ينصرف إلى مهارة الجدل فى ذاتها بصرف النظر عن التماس الحقيقة).

على أن هذه الحالة السياسية تفترض كذلك درجة من النضج فى جمهور المواطنين. الحُكم على ما يسوقه السياسيون من حجج، والمُفاضلة بين الآراء المختلفة تقتضى التمكن من بعض المعارف الأولية. مثلاً، لا يستطيع المواطن المُشاركة الفعالة فى الجدل العام من دون إلمام كافٍ باللغة. كذلك، لا يُمكن للمواطن الحُكم على الأمور بغير معرفة معقولة بتاريخ المدينة التى يعيش فيها.. وهكذا.

تعقدت الأمور كثيراً منذ عهد الدولة/ المدينة التى لم تكن مجالسها العامة تتعدى الخمسة آلاف مواطن. صار الشأنُ العام مجالاً أوسع كثيراً. مع عصر الطباعة، أصبحت الصحافة جُزءاً لا يتجزأ من المجال العام. بظهور الإذاعة والتليفزيون صار الشأن العام ضيفاً على غرف المعيشة فى البيوت. مع تضافر تكنولوجيا الشبكات الاجتماعية والهواتف الذكية أصبح ممكناً أن تحمل «الشأن العام» فى جيبك أينما ذهبت!

كُل هذه التعقيدات الحديثة هى امتدادٌ للفكرة الأصلية التى تفترض أن المواطن لا يصير مواطناً من دون اهتمام بالشؤون العامة، أى بالسياسة. الميديا والمناقشات السياسية فى التوك شو والجرائد والفيسبوك كلها مجرد وسائل حديثة لتسهيل تداول الشأن العام فى دول يقطنها الملايين، وليس عشرات الآلاف كما كان الحالُ فى اليونان القديمة. يُفترض أن تُقدم هذه الوسائل للمواطن ما يُعينه ويُساعده على فهم القضايا محل الجدل حتى يكون له رأيه الخاص. كلما كان هذا المجال العام نشطاً وحياً وعامراً بالمعارف والمواقف والأفكار المختلفة، كلما زاد وعى المواطن بما يجرى حوله.

لاحظ أن النموذج الأصلى يفترض حداً أدنى من الوعى لدى الجمهور. بدون هذا الوعى تُصبح المنظومة كلها بلا معنى أو هدف، بل يُمكن أن تتحول لمصدرٍ للالتباس والتشويش. لهذا السبب تحديداً فإن التعليم يُمثل الركيزة الأساسية للمجتمع المفتوح. ليس التعليم بمعنى التمكن من القراءة والكتابة، أو حتى تحصيل العلوم المختلفة. المعنى المقصود أوسع وينصرف إلى مهارات تتصل بالقدرة على الحُكم على الأشياء. النزوع إلى تكوين الرأى المستقل. الفضول إلى اكتساب المعارف ذاتياً. الرغبة فى التعلم وامتلاك العقل الناقد. الشعور بالمسؤولية المُشتركة عن المجتمع. هذه كلها معانٍ لصيقة بمفهوم المواطن الحُر المُشارك والمسؤول. هذه المعانى تُربى فى وجدان الناشئة. تُزرع فى شعورهم. تُغرس فى نفوسهم. بدونها يصير سُكان البلد رعايا، لا مواطنين.

ها نحن قد وصلنا إلى لُب القضية. لقد انحدرت مستويات التعليم فى بلدنا حتى صار التمكن من القراءة والكتابة والكلام بعربية صحيحة مفهومة من الأمنيات البعيدة، فما بالنا بالمهارات الأخرى التى تتصل بتنمية الوجدان الحُر وتربية الحس الناقد؟

لن يكون فى مصر مجتمع مفتوح- بالمعنى المُشار إليه آنفاً- من دون ثورة تعليمية شاملة. علينا أن نقنع بهذه الحقيقة. أن نستوعبها ونضعها نصب أعيننا حتى لا تشط بنا الأحلام أو تتقاذفنا الأوهام. ما نشهده فى مصر اليوم هو حالة من «الفرجة» والتسلية بالشأن العام، وليس المشاركة الفعالة والمسؤولة فى قضاياه. النتيجة الطبيعية لهذه الحالة هو ما نلمسه من فوضى وبلبلة وتشويش وشحن وتخليط.

فى وسط هذه الفوضى، وبرغم انحدار مستويات التعليم والثقافة العامة، مازالت هناك مصابيح قليلة تنير الطريق. من دونها يدخل بلدُنا نفقاً مُظلِماً. هذه المصابيح القليلة- ومنها مثلاً الجريدة التى تُطالعها الآن- تُبقى على شىء أشبه بالمجال العام فى مصر. تسعى لتعريف الناس بالقضايا. تخلق حالة- وإن لم تكن مثالية- من الجدل حول السياسات والأفكار. تحرِّض المواطن على أن يكون مواطناً. تتبنى إشاعة المعرفة، لا الشحن أو التحريض. صحيحٌ أنها لا تخلق مجتمعاً مفتوحاً، ولكنها على الأقل تقف حائلاً دون الانغلاق الكامل.

حصار هذه المنابر القليلة أو التضييق عليها ليس فى مصلحة الحُكم أو المجتمع. اختفاؤها لن يُريح السلطة من «وجع الراس» كما قد يُعتَقَد. البديل هو فوضى أكبر، وتشويش أشد، وانزلاق غير مأمون إلى قنواتٍ ومسارات أبعد ما تكون عن الرُشد والمسؤولية.

[email protected]

المصرىاليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى