الأخبار

الناجون يروون حكايات «العودة من الموت»

 

 

136

 

لموت ضيف ينتظرونه كل لحظة، أصوات الصواريخ ودك البيوت وصراخ الأطفال هى المعزوفة الأخيرة التى أدمنوا سماعها قبل الشهادة.. إنهم شعب الله المختار لـ«القتل» فى غزة، على يد غارات المحتل الإسرائيلى التى لا ترحم. «الوطن» زارت مستشفى العريش والتقت مصابى الحرب الإسرائيلية على غزة، واستمعت إلى حكايات الألم والفراق والشهادة.

بعد أن تم قصف بيت جاره، أسرع لإخلاء منزله لينقذ زوجته وأولاده الثلاثة، وعاد ليحضر أغراضه الأساسية لكن الطائرات الغادرة لم تمهله، ودون تفكير قفز من الدور الثانى لينجو بنفسه، وسار زحفاً على بطنه لمسافة مائة متر حتى خرج من الشارع مصاباً بكسر فى قدمه اليمنى، يروى مؤيد حمدان، ثلاثينى العمر، من خان يونس، قصة إصابته: «اليهود ألقوا صاروخى زنانة تحذيراً أمام البيت ووراءه، نطيت من الدور الثانى وزحفت لغاية ما خرجت من الشارع، وبعدها ضربوا صاروخ إف 16، خلى البيت كوم تراب، وقصفوا 5 بيوت أخرى عشوائياً». «مؤيد» أجرى عملية جراحية فى قدمه اليمنى، وبصوت لا يكاد يخرج من شدة تعبه، يقول: «عملت عملية جراحية امبارح وركبوا لى شرايح فى رجلى».

كل ما يتمناه «مؤيد» أن يبنى منزلاً بديلاً، وبصوت يغمره الأمل يقول: «نفسى أبنى بيت تانى وألم شمل أسرتى وولادى يبقى عندهم بيت يعيشوا فيه».

«مؤيد» أب لثلاثة أطفال: «محمد»، 13 سنة، و«لميس»، 10 سنوات، و«ليث»، عام ونصف العام، وبعينين دامعتين يقول: «ولادنا اتكتب عليهم ما يعيشوش زى أى أطفال يلعبوا ويمرحوا، عايشين على صوت الدمار والحرب والدم والخراب».

يعيش «مؤيد» وأسرته على المساعدات الإنسانية الدولية: «أنا ما بشتغلش، إحنا فى حصار، يا دوب بنوفر قوت يومنا بالعافية، إحنا عايشين على مساعدات البنك الدولى والشئون الاجتماعية». ويصمت عدة دقائق ليرد على هاتفه، ليستأنف حديثه بعبارة «لا حول ولا قوة إلا بالله.. أهلى بيقولولى بيت 4 أدوار فى رفح انضرب، والعيلة اللى كانت ساكنة البيت بقت أشلاء».

وبصوت مختنق محاولاً إمساك دموعه، يستأنف «مؤيد» حديثه: «كل واحد بقى بيلزم بيته، ما حدش بيتحرك، بيموتوا أى واحد بيمشى فى الشارع، حتى الإسعافات بيضربوا عليها صواريخ، إحنا عايشين ومتوقعين الموت فى أى لحظة».

على السرير المجاور لـ«مؤيد»، تسمع أنات شخص ممدد يضع يديه على وجهه، ينظر لمن حوله نظرات زائغة، تحاول أن تجد من تعرفه، يقدمون الخدمات الطبية والعلاجية له، يواسونه لكنه بحاجة لمن يطمئنه على أهله الذين تركهم تحت القصف من أقاربه أم من أصدقائه، «عطا الله»، عشرينى العمر من بيت لاهيا، أصيب هو وأخوه الصغير بشظايا قصف صاروخى. نقل إثره إلى مستشفى العريش لسوء حالته الصحية؛ حيث تسببت الشظايا فى قطع فى الكبد والأمعاء. بصوت متقطع وعينين تغلقان أثناء الحديث يقول: «الدكاترة عملولى استكشاف للبطن ومعالجة فى الأمعاء والكبد، الشظايا قطعت بطنى». «عطا الله» يدرس بكلية التربية بجامعة القدس، يحلم أن يعلم أجيالاً تبنى مستقبل فلسطين، بصوت يغلب عليه الانكسار: «كان نفسى أبقى مدرس علشان أعلم الأطفال، لكن مفيش أساساً أطفال أعلمهم، بيموتوا كل ثانية، بيتحولوا لأشلاء».

لا يوجد مرافق مع «عطا الله»، هو لوحده بالمستشفى؛ لأن السلطات المصرية رفضت دخول عمه؛ حيث كان مرافقاً معه، بعينين دامعتين يقول «عطا الله»: «عمى رجعوه على المعبر وأنا هنا لوحدى، ومش عارف هقدر أخرج إمتى من المستشفى، نفسى أرجع وأطمن على أهلى هناك». ويتساءل: «يا ترى حد من أهلى أو أصحابى مات؟».

فى العنبر المقابل للعنبر الذى يوجد به المريضان «مؤيد» و«عطا الله»، يوجد إسلام فتحى أبوحطب، عشرينى العمر، على جهاز تنفس صناعى، يعتبر أسوأ الحالات المرضية التى جاءت من غزة، لإصابته بنزيف فى المخ نتيجة لكسر فى الجمجمة. يقول عصام محمد أبوحطب، عمه المرافق له، ويعمل ملازماً أول فى الأمن الوطنى فى الجيش، وتم السماح له بالدخول لحصوله على الجنسية المصرية؛ فهو من أم مصرية وأب فلسطينى، بصوت يغلب عليه الانكسار: «منهم لله، ضربوا صاروخ على البيت، البيت بقى كوم تراب، وإسلام نجا بأعجوبة، كان عنده نزيف فى المخ بسبب كسر فى الجمجمة».

«إسلام» انتهى من مرحلة الثانوية العامة ولم يكمل دراسته، يقول «عصام» متحدثاً عن ابن أخيه: «إحنا شعب اتكتب علينا الشدايد والمحن طول الوقت، كان إسلام نفسه يكمل جامعته، لكن ما كملش بسبب الظروف اللى عايشين فيها، مفيش استقرار».

يصمت «عصام» عن الحديث، ليسأل عن وقت نقل «إسلام» للمستشفى العسكرى لإجراء أشعة مقطعية على المخ، ليرد عليه الطبيب: سيتم إحضار الإسعاف خلال دقائق.

يستأنف «عصام» حديثه: «دخلت مع ابن أخويا لأن معايا جنسية مصرية، أنا أمى مصرية من محافظة الشرقية»، وسرعان ما تتبدل ملامحه من العبوس للابتسامة قائلاً: «لما اليهود قصفوا بيت جارنا وماتت أسرة كاملة من أب وأم وأولادهم الخمسة، أمى قعدت على حجارة البيت وقالت اللى يصير يصير أنا مش هقوم من هنا». ويضيف: «أمى بقت فلسطينية خلاص».

 

ويقول الدكتور طارق خاطر، وكيل وزارة الصحة بشمال سيناء، لـ«الوطن»: نستقبل الحالات من الجانب الفلسطينى لتقديم الخدمات الطبية اللازمة للحالات»، مشيراً إلى أن مستشفيات غزة امتلأت بنسبة 100% وأن المعبر سيجرى فتحه اليوم لاحتمال استقبال حالات أخرى.

ويقول الدكتور خالد وشاحى، رئيس الطاقم الطبى بمعبر رفح: إن الطاقم مكون من 15 استشارياً وطبيباً و4 عناصر تمريض، وإنه مستعد لأداء واجبه حتى انتهاء الأحداث، مع تغيير الطاقم كل عدة أيام. ويضيف «وشاحى» أن الحالات يتم فرزها على معبر رفح وتوزيعها على المستشفيات، سواء مستشفى العريش أو مستشفيات القاهرة حسب الحالة.

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى