الأخبار

.. ومن الطب ما قتل

93

 

 

قد نكون فى مصر اعتدنا الأخطاء الطبية، بكل ما تحمل من مآسٍ، يتقاسمها الطبيب مع التمريض، وقد نكون اعتدنا الإهمال من هذا وذاك أيضا، وقد نكون اعتدنا الجشع من إدارة المستشفى، أو من رأس المال الاستثمارى المتوحش، إلا أن ما يجب ألا نستسيغه أو نتعايش معه أبدا هو ذلك التوحش الطبى ممثلا فى الطبيب أو الجراح المعالج، الذى يرى طوال الوقت أن الحالة التى أمامه يجب أن تخضع لإجراء جراحة على الفور، فى الوقت الذى قد لا تحتاج فيه إلى ذلك بالفعل، مما جعل من المهنة مدخلا للنصب والاحتيال والتكسب الحرام.

هى أوضاع فى مجملها لم تعد مقبولة بأى حال، لا الإهمال، ولا التوحش، ولا النصب، ناهيك عن العلاقة الفاسدة بين الطبيب وشركات الأدوية، والتى يدور محورها حول ترويج هذا النوع من الدواء، من خلال روشتة المريض، على الرغم من علم الطبيب بأنه ليس الدواء الأمثل، المقابل هنا (حوافز) مادية كبيرة، أو عينية فى صور متعددة، ليس آخرها تذاكر السفر إلى الخارج للتنزه بالأسرة، واستضافة بفنادق الخمسة نجوم، جميعها أمور معلومة للعامة، فما بالنا بالنقابة المسؤولة؟

بالتأكيد نحن هنا لا نتحدث عن كل الأطباء، بالتأكيد هناك من بينهم من يستحقون أن نرفع لهم القبعة، توقيرا لضمير، أو إجلالا لنزاهة، إلا أن ما أصبح شائعا الآن من مخالفات أصبح أمرا لا يُطاق، ولا يمكن تحمله فى ظل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى تمر بها البلاد، فى الوقت الذى أصبحت فيه هذه النوعية من ممارسى المهنة لا يعنيهم أى شىء قدر اهتمامهم بالحصول سريعا على تلك الفيلا المليونية بالساحل الشمالى، وأخرى بالجنوبى، بل أصبح الأمر يمتد إلى ممتلكات خارج القُطر.

نحن هنا نؤكد أيضا ألا أحد يتدخل فى تقسيم الأرزاق، ومن حق كل إنسان أن يتملك ما يشاء، فى المكان الذى يشاء، لكن ما نؤكد عليه هو أن التربح يجب أن يكون من أموال حلال، وبصفة خاصة حينما يتعلق الأمر بحياة البشر، فقد تكون أموال العملية الجراحية بالكامل، من طبيب ومستشفى ونثريات، هى فى حقيقتها قروضا، وسُلفا، واستقطاعات وظيفية، أو بيع ممتلكات، وحتى لو لم تكن كذلك، كيف يمكن أن يقبل هذا الطبيب أو ذاك أموالا هى فى حقيقتها مشبوهة، سواء كان ذلك من خلال المغالاة فى أجر العملية الجراحية، أو بالإهمال فيها، أو بإقرار أدوية على سبيل المجاملة، إلى آخر ذلك من سلسلة لا تنتهى من الفساد، الذى لم يعد يتوقف عند الأخطاء؟!!

مع كل ما جرى ويجرى، من المهم جدا تفعيل دور نقابة الأطباء فى مواجهة تلك الظواهر الكارثية، دور الرقابة على الجودة بالمستشفيات، دور جهاز حماية المستهلك، إعادة النظر فى القوانين واللوائح التى تنظم عمل الطبيب والمؤسسات الصحية، العقوبات هنا يجب أن تمنع المُدان من ممارسة المهنة مرة أخرى، يجب الاهتمام بأى شكوى يقدمها المريض، أو ذووه، بالتحقيق فيها من متخصصين على مستوى عالٍ من الكفاءة، وإعلان نتائج التحقيق فى كل منها.

نحن هنا نتحدث عن مهنة سامية، سواء ما يتعلق منها بالطب أو التمريض، لا يجب بأى حال أن يمتهن أى منها مهزوز الضمير، أو عديم الأخلاق، نحن لا نتحدث عن مهنة سِباكة، أو نِجارة، أو حِدادة، ما تم التقصير فيه اليوم يمكن احتواؤه غدا، الحديث هنا عن صحة البشر، عن أرواحهم، عن أُسر وعائلات فى انتظارهم، عن أطفال تتيتم، عن زوجات تترمل، عن مجتمع فى حاجة إليهم.

القضية أيها السادة أصبحت تحتاج إلى إعادة نظر شاملة من كل الوجوه، وفى غياب برلمان فاعل، أو غياب البرلمان عموما، تحتاج إلى مؤتمر على مستوى عال من المشاركة المجتمعية، للنظر فى كيفية مواجهتها، بما يضمن العودة بهذه المهنة إلى جذورها الأصلية، أو إلى سيرتها الأولى، وقت أن كان الطبيب طبيبا وفقط، وليس مستثمرا فى نفس الوقت بأحد المخابز، أو إحدى صالات السهر، ولو من الباطن.

الحكايات فى ذلك كثيرة، والمآسى فى ذلك نعلمها جميعا، ويعلمها الأطباء أكثر وأكثر، والضحايا لا حصر لهم، والمشاجرات اليومية بالمستشفيات خير شاهد، والبلاغات كذلك، والقضايا بالمحاكم لا تنتهى، وقد تخفى القبور بين أركانها آلاف الروايات المحزنة فى هذا الصدد، وقد يكون من الصالح العام ألا تنطق القبور، أو ألا ينطق من فيها، فالقضايا حينذاك سوف تكون أضعافا مضاعفة، فنحن أمام قتل عمد فى معظم الأحيان، مما جعل من الطب ليس كما فى عقيدتنا الإنسانية والمعرفية ما أحيا، ولكن من الطب ما قتل، والأسوأ أن تكون هذه حالة مصرية خالصة!

[email protected]

 

 

المصرى اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى