الأخبار

علموا طلبة الطب الفلسفة والمنطق والفن

 

 

127

 

طرحت سؤالاً فى مقالى الأخير عن سر تواجد الأطباء، بل قيادتهم وزعامتهم وتشكيلهم لأغلب الخلايا الإرهابية التى تم ضبطها مؤخراً، ومصدر التساؤل والدهشة والاستغراب هو أن المجتمع يعتبر الأطباء كريمة خريجى الثانوية العامة ومن المفترض ألا يتأثر هؤلاء بفاشية الإسلام السياسى، طرحت عدة تفسيرات واجتهادات وطلبت من علماء الاجتماع والنفس المشاركة، وكان أول من استجاب عالم النفس الجليل الرائد العظيم د. قدرى حفنى، الذى شرفنى بهذه الرسالة التى اقتبس منها تحليله الثاقب لهذه الظاهرة، والتى شاركنى فى تأملها وتحليلها منذ فترة بعيدة، يقول د. قدرى:

الموضوع شغلنى من زمن بعيد حين لاحظت أن قوائم المحكوم عليهم بتهم الإرهاب فى مصر تتصدرها أسماء خريجى الطب والهندسة والعلوم، وقد أرجعت ذلك وقتها لكون هذه التخصصات تقوم على اليقينية، وأن خريجيها وفقا لنظام التشعيب فى الثانوية العامة ينهون دراساتهم من رياض الأطفال حتى الدكتوراه دون أن تطرق آذانهم كلمة الفلسفة أو حتى تاريخ التخصص الذى يدرسونه فيمتلئون يقينا بأن للحقيقة وجها واحدا لا ثانى له، أما فيما يتعلق بمن أشرت إليهم من أطباء أدباء وفنانين ومفكرين فلعلك توافقنى أنهم ممن تسلل الشك إلى عقولهم رغم يقينية ما يتلقونه، فتمردوا عليه وكانوا استثناء، القائمة طويلة لا تقتصر على من ذكرت من رواد أفاضل. لقد شرفت شخصيا بصداقة كوكبة من الأطباء والمهندسين المثقفين الفنانين المبدعين، شيوخا وشبابا، ممن تبنوا رؤية منفتحة لحاضر الوطن ومستقبله، منهم طارق على حسن ومحمد شعلان ونبيل يونس وعماد فضلى وإسماعيل يوسف وحامد الموصلى وإيمان يحيى وأكرم إسماعيل ولا أجد حرجا فى إضافة اسم الصديق خالد منتصر، وعلى أى حال فيقينى أن القائمة أوسع بكثير مما استدعته اللحظة الراهنة من مخزون ذاكرتى الواهنة، ولكنهم جميعا فيما أظن كانت يقينيتهم على حرف، فاتسعت مساحة الشك المبدع لديهم، وقد كانت لى تجربة.

عندما طلب منى بعض اللقاءات العلمية مع طلاب الدراسات العليا بكلية الطب جامعة عين شمس، وأتاحت لى لقاءاتى مع هؤلاء الطلاب البحث عن إجابة للسؤال الذى كان يؤرقنى: لماذا كان غالبية قادة ورموز وممارسى الإرهاب من بين دارسى تلك التخصصات؟، لقد كان أبنائى من دارسى الطب والهندسة يعدون استثناء بحكم تأثرهم بأساتذتهم الذين أقدموا على مغامرة أظنها لم ولن تتكرر بدعوة أستاذ من كلية الآداب متخصص فى علم النفس السياسى لتدريس «مناهج البحث العلمى» لطلاب متفوقين يستعدون لاستكمال دراساتهم العليا المتخصصة فى كليات لا تعرف سوى العلم، ورغم استثنائية الطلاب والأساتذة على حد سواء فمازلت أتذكر نظرات التشكك والريبة، بل الاستنكار والرفض الصريح أحيانًا، لحديث يدور حول «أسس التفكير العلمى»، وكيف أنه يقوم على التراكمية، بمعنى أننا نكمل ما انتهى إليه من سبقنا، وكيف أن هذه التراكمية تعنى بالضرورة التسليم بأن ما نعرفه من «حقائق» يظل كذلك إلى أن نتجاوزه أو يتجاوزه غيرنا ليصبح فى عداد القديم، وأن «التفسير العلمى» قابل للجدل دائمًا، بمعنى أن صحته نسبية، وأن علميته إنما تتوقف على قبوله الدائم بالخضوع للتفنيد، أى الاختبار، للتأكد من صحته أو خطئه، وأن عجزنا عن تفسير ظاهرة ما لا يعنى بالضرورة استحالة تفسيرها بشكل مطلق، كما أنه لا يعنى حتمية قبولنا بأى تفسير مطروح ما لم تتوافر فيه الشروط العلمية، وعلى رأسها القابلية للتفنيد، وأن التوصل إلى الحقيقة العلمية يقتضى الحذر من مخاطر الانبهار بالشيوع أو بالقدم إلى آخر تفاصيل شروط التفكير العلمى، وعلى رأسها نسبية الحقيقة، واتضح لى أن هؤلاء الأبناء معذورون، فهم وفقًا لنظامنا التعليمى لم يتلقوا طيلة سنوات تعليمهم من مرحلة الحضانة إلى مرحلة الدراسات العليا مقررًا دراسيًا واحدًا يتعلق بالمنطق أو الفلسفة أو تاريخ الفكر أو ما إلى ذلك من موضوعات تحمل شبهة تعليم المنهج العلمى. وكان طبيعيًا والأمر كذلك أن ترسخ لدى هؤلاء الأبناء عقيدة مؤداها أن التفكير لا يحتاج إلى تعليم، وأن تمحيص الأفكار لا يحتاج إلى تدريب، وأنه يكفى للتسليم بصواب فكرة معينة أن تبدو منطقية أو أن تصدر عن مصدر ثقة أو أن تتفق مع مشاهدات «واقعية»، أو أن تكون متكررة لزمن طويل، وكان طبيعيًا والأمر كذلك ألا يجد هؤلاء صعوبة فى تقبل فكر يقينى إطلاقى آخر.

[email protected]

 

المصرى اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى