الأخبار

الكاتدرائية اختبار المواطنة !!

katdr2ia

 

 

بين موجات التطاحن السياسي التي تجتاحنا بعنف ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى انحسارها، ما زلنا نبحث عن حوار موضوعي مفقود، ونتلمس في المشهد ومضات تأتي كشهب، لكنها تؤكد أن ثمة أمل ما زال ينبض في عروق وقلب وطن عصيّ على الاندثار أو الاختطاف بثراء تنوعه وتعدده ورقائق حضارته. ذلك هو درس التاريخ المتكرر، يأتي الغزاة ويذهبون، ويبقى هذا الشعب بموروثه وأصالته وقيمه، التي قد يعلوها التراب حينًا وقد يلحقها الصدأ، لكن سرعان ما يفيض النيل ويغسل ويزيل وينقي ويجدد شباب الأمة المصرية ويفجر طاقات التنوير ليبهر العالم من حوله. تتغير اللغة واللسان، لكنها لا تنعدم، فبين لغتنا العربية بلساننا المصري تتربع نحو ألفي لفظة مصرية قديمة في حياتنا اليومية ومعيشتنا، وبسببها تستعصي الثاء والظاء، لتصبح تاء وضاد، ويتغير الدين ثلاثًا وربما أكثر لكن تبقى عاداتنا نُعمِدُّها مسيحيًّا ونطوعها إسلامًا، وبين آلهة قرى عصر الفراعنة وقديسيها في العصر القبطي وأوليائها في العصر الإسلامي خط موصول وتشابه أو انتقال للحكايات والمعجزات والكرامات في الموروث الشعبي، في تصالح قلما تجده بعيدًا عنا، وتبقى مسيحيتنا نسكية وجدانية صحيحة وإسلامنا وسطيًّا متصالحًا ناصعًا. كانت الكاتدرائية المرقسية بالعباسية في قلب الأحداث الأيام الماضية، كما كانت قبل نحو نصف قرن، حين كان المد القومي في عنفوانه، كانت أرضها ديرًا لا يلتفت إليه أحد، وقت كانت القاهرة تقف بخطها العمراني عند تخومها لتبدأ بعدها صحراء العباسية بطابعها العسكري حيث ثكنات الجيش، كان الود موصولاً بين الزعيم عبد الناصر وبين البابا كيرلس السادس، التقى حلماهما في لحظة تاريخية، الرئيس يمد بصره لتقود الكنيسة المصرية المسيحية الشرقية إسوة بالفاتيكان في مجاله الغربي، فهي صاحبة السبق والتأسيس لنسق الرهبنة الديرية والمتوحدة، ومنها انتقلت إلى كل بقاع الدنيا، وإلى الغرب. وكان البابا يتطلع إلى بعث وتجديد الكنيسة بإعادة التواصل مع مدرسة الإسكندرية اللاهوتية التي كانت تمد الكنيسة في عصورها الذهبية ببطاركتها من أساتذتها وعلمائها، وبقي أن تتوافر له الكاتدرائية الجامعة القادرة على تفعيل وترجمة حلمه، لتبدأ ملحمة بناء الكاتدرائة، وتشهد حكايات مصرية مؤكِدة للاندماج الوطني، فيسارع أبناء الرئيس في واحدة من زيارات البابا لبيتهم بكسر حصالاتهم وتجميع ما بها وإعطائه كمساهمة تلقائية من أطفال مصريين ليضعها البابا في منديله -كما يفعل الفلاح المصري البسيط- ويبادر ناصر بالمساهمة الرسمية بنحو مائة ألف جنية للبدء في العمل. ويسند للدكتور المهندس عوض كامل والمهندس سليم كامل فهمي مهمة تصميم الكاتدرائية، ويقوم بإعداد التصميم الإنشائي الدكتور المهندس ميشيل باخوم، وتكلف شركة النيل العامة للخرسانة المسلحة  سبيكو  بمهمة التنفيذ بأمر مباشر من الرئيس جمال عبد الناصر (حجر الأساس 24 يوليو 1965 – الافتتاح 25 يونيو 1968 بحضور عبد الناصر في كليهما). كانت المواطنة فعلاً على الأرض وحياة معاشة قبل أن تكون نصًّا في الدستور، والمفارقة أنها حين أصبحت -فيما بعد- نصًّا كانت قد غادرت موقعها على الأرض؛ لذلك كان غيابها مجددًا من الدستور في طبعته المشوهة متسقًا مع الردة الحضارية في دورة جديدة للصراع بين المد التنويري واليمين المتطرف. شموخ الكاتدرائية لم يقتصر على مبانيها، التي تستلهم تصميمها المعماري من سفينة نوح التي احتمى فيها وبنيه من غوائل الطوفان، ليجدد الحياة على الأرض، بل يمتد شموخها إلى جذورها المصرية وتاريخها الذي انحاز إلى وطنيتها في مواجهة موجات الاستهداف المتوالية، والتي كانت إحدى ذُراها في عصر الاستشهاد تحت حكم الرومان والذي جعلته بعبقرية نقطة البدء لتقويمها القبطي المنسوب للشهداء، وبقت حارسة للإيمان لتهدي العالم المسيحي في عصر المجامع -الذي بدأ في القرن الرابع- ضوابط الإيمان مصاغة بتعبيرات لاهوتية مبدعة خطها قلم الشاب السكندري إثناسيوس في قانون الإيمان وما زال يتردد في جنبات كنائس المسكونة بأسرها، والذي يستهله بجوهر إيماننا  بالحقيقة نؤمن بإله واحد.. ويختتم بإعلان الرجاء القائم والدائم.. ننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي ، وكأني به يؤكد في إيمانه كل المفاهيم المصرية التي سجلتها متون الأهرام في الوحدانية والخلود، حتى جاء المسيح ليفك طلاسمها ويصالحنا لله في شخصه. ها هي الكاتدرائية تحتل موقعًا متقدمًا في دائرة الضوء مجددًا، مرتين في أيام معدودات، فقد انتبهت قوى اليمين الرجعية إلى أن عقبتين تقفان أمام مشروعها المفارق للحضارة وللمصرية بتعددها وتنوعها الذي هو سر ثرائها، الكاتدرائية والأزهر، فتحرك خلاياها للهجوم على كليهما، لتوقظ من جديد الحس المصري الذي يتكاتف للدفاع عنهما، وتشهد الكاتدرائية موجات تأييد شعبية عارمة، وتخرج مسيرات حاشدة من مسجد النور بالعباسية ومسجد الفتح بميدان رمسيس ليصنعا حوائط بشرية لحمايتها،  الله عليك يا مصر.. كم احبك، ثم يأتي عيد القيامة، ومعه تنطلق أصوات تحمل فحيحًا يدعو لعدم تهنئة المصريون المسيحيون (الأقباط) بعيدهم، لتجد الكاتدرائية نفسها مجددًا في بحر من التهاني حتى ممن يقفون على خطوط التماس، ويقف البابا تواضروس ليشكر المهنئين، ونجد أنفسنا أمام استفتاء تلقائي ترجم في استقبال الحضور لرموز المهنئين بين صمت مطبق وكأن على رأسهم الطير، وهدير التصفيق الذي هز أركان الكنيسة، وهي رسالة جديرة بالتوقف والتأسيس عليها، للسعي لمصالحة حقيقية نحو غد أفضل يجفف منابع النفور لحساب وطن لكل المصريين. وبين الهجوم والاستفتاء التلقائي المحمل بالرسائل تأتي كلمات البابا التي لا تخلو بدورها من الرسائل، فتؤكد في كلمات قليلة أن الكنيسة منتبهة ومتيقظة لدورها الروحي والرعوي ولن تنزلق إلى الصراع السياسي الذي لا تملك أدواته، ولا يستهويها، ليحكي عن واقعة شهدتها الكنيسة في القرن الرابع كان بطلها القديس يوحنا ذهبي الفم في مدينة أنطاكية العاصمة السياسية لإقليم سوريا تحت حكم الإمبراطورية الرومانية، ففي العام 387 ميلادية يفرض الإمبراطور ضرائب جديدة؛ ليثور الشعب ويحطم في ثورته تماثيل الإمبراطور الذي يجرد حملة لمعاقبتهم والتنكيل بهم فيهرعون للكنيسة يحتمون بجدرانها، فيمتنع على الجنود اقتحامها وفق قواعد ذلك الزمان، وفيما تسارع الكنيسة لتهدئة الإمبراطور، يبادر القديس يوحنا بتنظيم سلسلة من العظات تدور حول التوبة والحياة المسيحية المستقيمة تمتد لثلاثة أسابيع ليعيد الشعب إلى جادة الإيمان، وسميت في الرصد التاريخي عظات التماثيل. وكانت رسالة البابا بالأمس القريب واضحة: الكنيسة لن تفرط في رسالتها الدعوة للتوبة والاستعداد للأبدية، ولن تخوض معركة ليست لها. ظني أن ما حدث بين موجات الكراهية بالفعل والقول، وبين ثبات الكاتدرائية على موقفها المبدئي وما كشفته ردود أفعال الأطراف المختلفة كان اختبارًا للمواطنة.. هناك من نجح بامتياز، وهناك من هو باق للإعادة .. وهناك من استنفذ مرات الرسوب.. نواصل الإسبوع المقبل سلسلة  أزمة أقباط أم أزمة وطن .. نقلا عن البوابة نيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى