أخبار مصر

«الإيمان الراسخ»

قبل أيام قليلة، احتفل المَسيحيُّون ببَدء السنة القبطية الجديدة 1739، الذى يُعرف باسم «عيد النيروز»، مصلين إلى الله من أجل أن يمنح بلادنا «مِصر» والعالم بأسره الخير والسلام والهدوء.

و«عيد النيروز القبطىّ» يختلف عن «عيد النيروز الفارسىّ» الذى يرتبط بالربيع عند الفرس، إذ يعيِّدون به الفرس فى شهر مارس احتفالا بقدومه. أما كلمة «نَيروز» المِصرية، فيُذكر أنها تعود إلى الكلمة القبطية «نِى يارُؤو» التى تعنى «الأنهار»، والتى تطورت إلى لفظة «نيروس» ثم «نَيروز»، فاعتُقد أنها ترتبط بالعيد الفارسىّ. إلا أنه يُذكر أيضًا أن كلمة «نَيروز» اختصار للعبارة القبطية: «نِيارُو إسمو رُوؤو»، التى يُقصد به مبارَكة الأنهار وقت اكتمال موسم الفيضان.

 

 

ويرتبط «عيد النيروز القبطىّ» ارتباطًا وثيقًا بـ«الشهداء» الذين قدمتهم الكنيسة القبطية على مر العصور، خصوصًا عصرى حكم الإمبراطورَين الروميين «دِقْلِدْيانوس» و«مَكْسِمْيانوس»، اللذين زادت فيهما ضراوة الاضطهاد حتى زفت الكنيسة القبطية آلافًا من الشهداء إلى السماء.

 

 

وقد امتدت نيران الاضطهاد فى المقاطعات الرومانية عشرة أعوام، بدأت مع «دقلديانوس»، واستمرت فى عهد «جالِريوس» مساعده، وابن أخيه «مكسيمينوس دازا» حتى سنة 313 م. وبحسب ما يذكر المؤرخون، فإن الاضطهادات فى الشرق كانت أكثر عنفًا وأشد وطأة منها فى الغرب. لذٰلك اتخذ الأقباط بداية عصر «دِقْلِدْيانوس» (305- 284م م)، بدءًا للتقويم القبطىّ وتأريخًا لما مر بالمَسيحيين من آلام واضطهادات وعذابات ضارية، وأطلقوا عليه «تقويم الشهداء» لكِثرة ما سُفك من دماء الشهداء الطاهرة على أرض «مِصر».

 

 

وقد ذكر المؤرخ «المقريزىّ» فى شأن الطاغية الرومانى «دِقْلِدْيانوس»: «وأوقع بالنصارى فأسال دماءهم، وغلَّق كنائسهم، ومنع من دين النصارى، وحمَل على الرِّدة وعبادة الأصنام، وأسرف جدًّا فى قتل النصارى، وهو آخر من عبد الأصنام من ملوك الروم». وهكذا تميزت «الكنيسة القبطية» بأنها كنيسة الشهداء الذين رجحت كفتهم على شهداء العالم كافة حتى قيل فيهم: «لو أن شهداء العالم كله وُضعوا فى كفة ميزان، وشهداء (مِصر) فى الكفة الأخرى، لرجَحت كفة المِصريِّين!»، حيث قُدر عدد شهداء المَسيحية من الأقباط فقط بثمانى مائة ألف!!.

 

 

لقد تمسك المِصريُّون بإيمانهم الراسخ الذى يفوح عبقه من جذور تاريخهم، مفضلين الموت عن حياة هشة يشوبها ضعف إيمان، لا ينكرون ما يؤمنون ولو الثمن حياتهم! ومن العجيب، على مدى التاريخ المِصرىّ، أن الشعب جميعه، برجاله ونسائه وأطفاله وشيوخه، كان يهِبّ ويقف أمام الطغيان بثبات تام دون أدنى اهتزاز، حتى إن المؤرخ «يوسابيوس القيصرىّ» الذى شهِد تلك الحقبة من الاضطهادات قال: «لم تكُن النساء أقل من الرجال بسالةً فى الدفاع عن تعاليم الكلمة الإلهية، إذ اشتركن هن والرجال فى النضال». إن الاستشهاد المَسيحى «المِصرى» كان انعكاسًا لأصالة شعب أبَى إلا أن يتخلى عما يؤمن به.

 

 

ومع كل بداية جديدة وكل عام جديد، ينبغى دائمًا أن نضع فى اعتبارنا أن الشر مهما طغى وطال فلا بد له من نهاية، إننا نقرأ اليوم عن الأباطرة الرومان الذين اضطهدوا الأبرياء ونزعوا منهم حق الحياة لمجرد الاختلاف فى العقائد، فلا نجد لهم على صفحات التاريخ سوى الذكر الردىء والنهايات البشعة، فها هو «دِقْلِدْيانوس» تذكر بعض المراجع أنه أصيب بلَوثة عقلية، واعتزل الحكم بسبب المرض الذى لم يدَعه يأكل ولا يرتاح!! بل كان يتأوَّه وينوح ويبكى دائمًا، ثم فقد بصره!! وقد حُطمت تماثيله وأُزيلت صوره إلى أن مات سنة 316 م. أمّا الكنيسة التى اضطُهدت، فقد ظلت ثابتة على مر الأزمان، بل ازداد عدد مؤمنيها.

 

 

إن دماء الشهداء حفرت نهرًا روى بذار الإيمان، فنمت «الكنيسة القبطية» حاملة فى قلبها وفكرها محبةً نحو كل إنسان، وشجاعةً لا ترهب موتًا، بل تجعل منه مجرد معبر تجتازه فى اشتياق إلى الوصول للحياة الأبدية.

 

 

كل عام وجميعكم بخير. و… والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.

 

 

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى