الأخبار

الماشطة و«العكر» !

126

 

 

لست من الذين تُثير مخاوفهم الحملة الإعلامية الدولية ضد مؤسسات مصر، وفي صدارتها جيشها، بعد تغيير 3 يوليو التاريخي الذي استوعب مطالب 30 يونيو وعزل محمد مرسي من منصب رئيس الجمهورية.
وسواء كانت هذه الحملة عفوية أو مخططة، خاضعة لتأثير الأكاذيب الإخوانية أو تتعمد التشويه من تلقاء نفسها ، فإن المحصلة الأخيرة للحملة لن تكون في صالح جماعة الإخوان.. حتى لو أساءت لصورة المؤسسات المصرية.. بل إن قناعتي أن هذا سوف يعمق من عزلة الجماعة ويعزز «الحظر الشعبي» المفروض علىها بقرار من المصريين.
وصولاً إلى هذه النتيجة نفكك التعقيد الذي تبدو علىه خيوط متشابكة في المشهد الحالي.
* لدى الدولة المصرية مشكلة إعلامية، لا شك في ذلك، خصوصًا على المستوى الخارجي، تمتد بجذورها إلى أيام عصر مبارك. ومن المؤكد أن تفتيتًا واهتراءً وارتباكًا قد حدث خلال العامين الماضيين زاد من تضخم المشكلة، لاسيما أن حكم الإخوان لم يكن يستخدم أدواته الإعلامية لصالح الدولة وإنما لصالح الجماعة .
على أن وجود تلك المشكلة لا ينفي أن هناك تربصًا من الآلة الإعلامية الغربية، خصوصًا رافدها الأميركي الأضخم تأثيرًا. ويمكن القول إن هناك إصرارًا على عدم تداول الصورة الصحيحة، واستخدام الإعلام كوسيلة مدمرة في الصراع السياسي مع مصر التي فاجأت كل صناع القرار الغربي، لاسيما الأميركي بمتغير لم يوضع في الحسبان وتم الاستخفاف به .. ذلك المتغير هو «الخروج الملاييني يوم 30 يونيو» بقرار أعلنه الشعب لإبعاد رئيس الإخوان من منصب رئيس مصر.
لقد دعت القوات المسلحة مندوبي وسائل الإعلام الأجنبية إلى رحلة بالطائرات فوق سماء القاهرة لتصوير الحشود غير المسبوقة التي خرجت ملبية نداء الجيش في يوم 26 يوليو، وأخطأت إعلاميًا حين فعلت ذلك متأخرة..فجاءت الصور بعد أن ترك الكثيرون مواقعهم . هذا صحيح كمثال .. ولكن السؤال هو : منذ متى كان على المراسل الأجنبي أن ينتظر مساعدة طرف ما لكي ينقل الحقيقة، وهل كانت الحشود الملايينية في القاهرة تحتاج إلى طائرات لإدراك حقيقتها. والأهم من كل هذا .. كيف يمكن أن تبرر أن ثلاث محطات تليفزيونية على الأقل نقلت صور الحشود أمام قصر الاتحادية على أنها جماهير تظاهرت من أجل عودة مرسي.. هل بعد ذلك تدليس يمكن أن يُغتفر أو يُبرر؟ أم أن علىنا التعامل معه باعتباره تعمدًا له هدف وتآمرًا لا يخجل حتى في أن يكون مكشوفًا.
الخلاصة المبدئية هنا هي أنه مهما كان الإعلام الخارجي المصري جبارًا فإنه لم يكن ليفلح في أن يبدل موقفًا متربصًا وله نسق في وسائل الإعلام الغربية والأميركية تحديدا.
* هنا السؤال: لماذا تتربص وسائل الإعلام الدولية ضد مصر.. للدقة ضد قرار شعب مصر؟ هناك تفسيرات مختلفة.. ليس من بينها أن هذا هو نوع من عشق غربي مفاجئ لجماعة دينية خطابها وأيديولوجيتها المعلنة ضد الحضارة الغربية برمتها، وحتى هذه اللحظة تتهم الآخرين بأنهم عملاء للولايات المتحدة، وخدم لإسرائيل .. في ذات الوقت الذي تتواصل فيه على مدار الساعة مع وسائل الإعلام والدول التي تقنع أعضاءها بأنهم ليسوا حلفاء للشيطان..بل هم الشيطان نفسه.
في زاوية منها تمثل اتجاهات التغطية الإعلامية جانبًا عقابيًا لشعب قرر ارتكاب أكثر من جُرم – وفق القاموس العربي – في حق العواصم الغربية المختلفة. فهو أولاً أحدث مفاجأة لم تكن متوقعة، صُنفت على أنها من خارج كتب السياسة ولم تدون في أي تعريفات. وهو ثانيًا هدم في لحظة إستراتيجية متكاملة تم بناؤها على مدى سنوات. وهو ثالثًا فرض على صانع القرار الغربي موقفًا اضطراريًا استوجب إعادة دراسة الموقف وبناء تصور جديد لملاحقة المتغيرات.
من زاوية أخرى فإن تلك التغطية الإعلامية هي نوع من «ترويض الوحش» و«إخضاع مبكر» لكائن قرر في لحظة أن يتصرف خارج القواعد ، سواء كان هو «الشعب المصري» المسرور بقدرته .. أو كانت مؤسسات الدولة المصرية وفي صدارتها القوات المسلحة..  ترويض لكي يتم إرجاع تصرفاته للنسق الرتيب، وإخضاع حتى يمكن التعرف على نواياه وتوجهاته فلا تكون مفاجئة أو صادمة مجددًا.
من زاوية ثالثة تمنح هذه التغطية الإعلامية المسيئة تعمدًا فرصة لصانع القرار الغربي من أجل أن يبرئ ذمته أمام حليفه الحقيقي، وهو جماعة الإخوان ، فيصنع ذلك نوعًا من الوقاية من احتمالات رد فعله، أو رد فعل أنصاره من الإرهابيين .. بحيث يوجهون غضبهم إلى داخل مصر ، بدلاً من أن يعبروا عنه في صورة تفجيرات أو أعمال عنيفة داخل العواصم الغربية .
* النقطة الأهم في عملية التفكيك تلك تتعلق بجماعة الإخوان.. وهدفها من شحن هذه الحملة الإعلامية الغربية متعمدة الإساءة. وهنا أرصد ملاحظات عدة :
في حقيقة الأمر تقوم أسطورة الجماعة التي اكتشف حقيقتها الشعب المصري على عملية «بناء الصورة» .. أكثر من كونها تتعلق بتطوير الأصل وتنمية الحقيقة التي تعكسها تلك الصورة. وفي السنوات الماضية، ونتيجة لأسباب مختلفة ـ ليس هنا مجال تفصيلها ـ فإن طموحات الجماعة فاقت قدراتها ولكي تعوض الفارق بين الحقيقة والطموح فإنها غطت على هذا بحملة علاقات عامة مستمرة هدفت في الأساس أن تعدل الصورة الذهنية عنها في الخارج قبل الداخل.. وكان المقصد هو إقناع صانع القرار الغربي بأنها يمكنها أن تكون بديلاً عن نظام مبارك. بمعنى أوضح فإن الجماعة لم تهدف بالأساس – ولكنها لم تتجاهل – أن تقنع المواطن المصري بقدر ما هدفت إلى إقناع صانع القرار الغربي.
لقد قال خيرت الشاطر ذات مرة في نهاية العام الماضي إنه عقد ما يزيد على مائتي اجتماع مع أطراف وصحفيين ومسؤولين أجانب، وبينما كان يتفاخر بذلك فإنه لم يعلن في ذلك الوقت عن عقده لاجتماعات بعدد مماثل مع السياسيين والصحفيين والمستثمرين المصريين. ومن اللحظه الأولى لمتغيرات مصر في 30 يونيو كان أن تواصل المتحدث باسم الإخوان مع الصحافة الأجنبية وواصل جهاد الحداد تغريدة على موقع تويتر باللغة الإنجليزية مستهدفا الأجانب لا غيرهم .
ولأن الجماعة كانت تدرك أنها كيان أسطوري، يعاني من فجوة كبرى بين القدرة والحقيقة والطموح ، فإنها استهدفت من اللحظة الأولى الإعلاميين المصريين .. ليس لأنهم ينتقدونها فحسب ، ولكن لأنهم يهدمون الأساس الوجودي لحقيقتها الناشئة عن صورة إعلامية.. وبالتالي كانت تهديدات القتل للمذيعين ..وحصار مدينة الإنتاج الإعلامي ..وإبلاغ النيابة ضد الصحفيين .. ومن ثم التخطيط والسعي نحو عمليات استحواذ واسعة النطاق على  مؤسسات وشبكات إعلامية خاصة.. تهديدًا أو ترغيبًا.
وحتى هذه اللحظة فإن الجماعة تعتقد، أو تقنع نفسها ، بأن سببًا أساسيًا فيما حدث لها هو ما ترى أنه تحريض إعلامي وتشويه صحفي .. متجاهلة تمامًا أن الإعلام لن ينشئ واقعًا من عدم ، ولن يؤسس بناءً وإن كان يمكن أن يُجمله أو يقبحه. وليس ذلك الإنكار سوى محاولة هروب مستمرة من الحقيقة المرة التي لو اعترفت بها الجماعة سوف ينتهي وجودها برمته .
* النقطة االتي يتم تجاهلها في محور هذه الحملة الإعلامية متعمدة الإساءة، والتي تغذيها جماعة الإخوان، ويساعد علىها الفشل الإعلامي المؤسساتي المصري خارجيًا.. هو الجمهور المستهدف. ذلك أنه يتوزع بين دائرتين .. كلتاهما خارج مصر : أولاً صانع القرار الأوروبي والأميركي ، وثانيًا الرأي العام في العالم الغربي عمومًا والمتلقين باللغة غير العربية في العالم الإسلامي.
ومن المؤكد أن لذلك الجمهور المستهدف تأثيراته، خصوصًا في دائرة صانع القرار الأميركي والأوروبي ، من الجوانب القانونية والسياسية والاقتصادية..وسوف يكون لذلك ضغوطه الحقيقية على القرار المصري.
ولكن السؤال هو : هل هذا سوف يعيد الإخوان إلى الحكم؟ هل هذا يمكن أن يفك «الحظر الشعبي» عنهم؟ هل هذا قد يؤدي إلى إعادة تموضعهم في المعادلة المصرية بصورة إيجابية بحيث يعيدون ترتيب أوراقهم؟ لقد كانت وسائل الإعلام الغربية المختلفة، في أوروبا والولايات المتحدة، تكيل الانتقادات لطريقة تعامل السلطات المصرية مع أحداث العنف في طريق النصر ، اعتمادًا على الرواية الإخوانية الباطلة ، في حين كانت تحدث في مصر مشاهد عديدة.. من الجمهور المستهدف صاحب الشرعية الحقيقية الذي قررت الجماعة ألا تخاطبه وأن تواصل تعاليه علىه أو الهروب منه.
في كل من المحلة، وحلوان، وبورسعيد، وبدرجات متفاوتة من الحدة، تعرضت مسيرات إخوانية إلى نوع من الحصار، والرفض ، وصولاً إلى العنف الأهلي .. وفي حلوان وقف الأهالي أمام أبواب البيوت ينتظرون مرور الإخوان بنفس الدرجة من التوجس والتربص التي كانوا علىها وهم ينتظرون الهاربين من السجون ليلة 28 يناير 2011..وفي مدينة أجا توزع منشور يهدد الإخوان بأن يغلقوا محلاتهم ويغادروا المدينة. وفي الإسكندرية ـ وبعد أن تسبب الإخوان في مقتل ثمانية مواطنين يوم 26 يوليو ـ كان أن توزعت منشورات أيضًا في عشرات من المناطق الشعبية ضدهم تفرض علىهم نوعًا من «حظر التجول الشعبي الانتقائي» .
لست أحبذ هذه التصرفات، ولا أشجعها، ولكني في ذات الوقت أرصدها، متأكدًا من خطورة تأثيرها على احتمالية أن يعود المواطن العادي إلى تقبل الإخوان مجددًا ..أو الرضى بالتعامل معهم بينما هم قد قتلوا وساندوا العنف وتعاونوا مع الأغراب ضد مصر ..وقبل كل هذا لم يعدلوا في صورتهم .
إن النتيجة الجوهرية المباشرة لهذه الحملة الإعلامية الدولية متعمدة الإساءة التي يغذيها الإخوان ويجدون فيها ملاذًا هي أنهم أصبحوا في ذهن المواطن العادي ليسوا فقط متخابرين من أجل هدم السجون والعمل ضد الأمن القومي المصري ..ولكن تحولوا إلى أدوات ضد إرادته ووسائل في مخططات لا تستهدف مصلحته ومن ثم على المدى القريب والمتوسط تترسخ صورة «فاقدي الوطنية» عنهم.. وسوف تكون تلك هي ببساطة نتيجة فعل «الماشطة» في «الوش العكر».
محيط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى