الأخبار

معاناة «مواطن» فى الحصول على «دم» من البنوك الخاصة: هات 3 متبرعين وخد «كيس» مجاناً

68680_660_2002325_opt

ينهض من نومه فزعاً فى ظلمات الليل على صرخات زوجته الممزوجة بآهات وألم قدوم مولوده الرابع، يتذكر ما قاله الطبيب المتابع لحملها: «مراتك هتولد قيصرى زى ولادتها السابقة، وممكن تحتاج لنقل دم، ومن الأفضل أن تضع مولودها فى المستشفى»، ولضيق ذات اليد نقلها زوجها كرم محمد، ذو الـ40 عاما، إلى مستشفى الجلاء للولادة.

احتياجات العملية، كما تقول الممرضة نقلا عن الطبيب، «كيسين دم فصيله (-o)»، يلتقط كرم من يد الممرضة الممدودة عينة من دماء زوجته فى زجاجة صغيرة طول خنصرها الرفيعة، وورقة صفراء مدوناً عليها نوع فصيلة الدم والكمية المطلوبة، ممهورة بختم المستشفى المستطيل. اعتقد كرم أن الختم الأزرق سيسهل مهمته للحصول على طلبه من بنوك دم لا تعترف بهذه الأختام بقدر اعترافها بالعائد المادى، ليبدأ رحلة البحث عن «كيسين دم»، لا يجدهما فى المستشفيات الحكومية، لتنتقل رحلة البحث إلى السوق السوداء لبنوك الدم فى المستشفيات الخاصة، لينهى كرم رحلته مع دقات الثالثة عصرا دون الحصول على كيس دم، وتوقيع خطاب فى المستشفى بالموافقة على إجراء عملية الولادة لزوجته دون وجود الدم المطلوب، وإخلاء مسئولية المستشفى من مضاعفات يمكن أن تحدث لها.

موظف استقبال أحد المستشفيات نصحه: «شوف الشباب اللى بيعمل قمسيون سفر الكويت على ناصية الشارع.. إدى كل واحد 50 أو 100 جنيه هييجوا معاك»

بدأت رحلة كرم بمصاحبة «الوطن»، التى تشبه مئات وربما الآلاف من الحالات اليومية للمواطنين، من أمام هيئة المصل واللقاح، التى أوصدت أبوابها فى وجهه لعدم وجود فصيلة الدم التى ينتظرها الطبيب. ويبرر الدكتور إيهاب سمير، مدير بنك الدم بهيئة المصل واللقاح، نقص الدم فى بنوك الدم بالمستشفيات الحكومية والخاصة – بالعجز الذى تعانى منه الدولة، «نحتاج سنويا إلى 200 مليون قِربة دم، يتوافر منها 800 ألف فقط، فطبيعى أن يحدث العجز على مدار العام، ويزداد فى وقت الكوارث والأزمات، كما حدث فى أحداث الثورة وغيرها».

أحد العاملين بـ«المصل واللقاح» ينصح كرم بالذهاب إلى مستشفى الزراعيين، أمام باب المستشفى يشير فرد الأمن إلى بنك الدم رداً على استفسار كرم، الذى لم يجد فيه غير نصيحه ثانية بالتوجه إلى مستشفى «م. ج» الخاص بالدقى، يهرول الرجل بجلبابه البلدى الواسع، ولا يعيق حركته غير جهله بمكان المستشفى، الذى حاول الوصول إليه بالسؤال المتكرر لكل من يقابله، وبمجرد الوصول للمستشفى القابع فى أحد الشوارع الضيقة المتفرعة من شارع السد العالى، يفاجأ بمدخل جانبى طويل، الدخول إليه يتطلب نزول 6 درجات سلم صغير، مزدحم يمينه بأشجار الزينة ويساره بكراكيب متراكمة، فى نهاية الممر باب صغير تعلوه لافتة «مقر بنك الدم».. المبنى أشبه ببدروم أسفل الأرض، طرقاته ضيقة مزدحمة بالمتبرعين بالدماء، على عكس مبنى المستشفى الذى يسكن حجراته وطرقاته الهدوء إلا قليلا من غرف المرضى.

الموجودون بالمكان نوعان، يشتركان فى الاستعداد للتبرع بالدم، لكنهما يختلفان فى الهدف الذى يتبرعان من أجله، فالأول أصدقاء وأقارب يتبرعون لمرضاهم، بينما الفريق الثانى شباب يتبرعون للمرضى أيضا، لكنهم ليسوا من أقاربهم ولا أصدقائهم، يأتون بهم من المقاهى أو من أمام القمسيون الخاص بسفارة الكويت، الذى يتجمع أمامه عشرات الشباب الذين ينهون الإجراءات الطبية من أجل السفر إلى الكويت.

بعد نصيحة من أحد أفراد طاقم التمريض بالمستشفى بالبحث فى هذه الأماكن، ينتظر كرم 10 دقائق فى طابور المنتظرين حتى يأتى دوره، يأخذ الطبيب العينة والورقة المصاحبة لها، طالباً الانتظار، يجلس كرم وسط الجالسين لانتظار رد الطبيب، ويفتح نقاشاً مع شابين جالسين بجواره، متسائلا: «هو الكيس بكام؟»، يأتيه الرد من أحدهما: المهم يكون موجود وبعد كده الفلوس سهلة، بينما يأتيه الآخر بسعر الكيس الذى حدده بـ300 جنيه، موضحاً أن المشكلة من وجهة نظره هى إصرار الطبيب أحياناً على أن تأتى بـ3 أشخاص يتبرعون بالدم مقابل الحصول على كيس واحد للفصيلة التى تريدها، قائلا: «أنا طلبت من الطبيب كيس دم فصيلة «a موجب»، فكان رده أن آتى بمتبرعيْن اثنين وأدفع 100 جنيه مقابل الحصول على الكيس».

مستشفيات خاصة تشترط على المواطنين التبرع بدمائهم مقابل كيس دم للفصيلة التى يبحث عنها.. والباحثون يلجأون لرواد المقاهى

يقطع الحوار تأكيد الطبيب لكرم وجود الفصيلة التى يريدها، لكنه اشترط عليه أن يحضر 3 أشخاص يتبرعون بدمائهم مقابل الحصول على كيس واحد فقط، ويؤكد كرم للطبيب أنه يريد «كيسين دم» مش كيس واحد، ليأتى رد الطبيب: «هات 6 أشخاص يتبرعوا»، يعرض كرم على الطبيب أن يدفع فلوس لأن زوجته محجوزة فى المستشفى الآن وتحتاج إلى نقل الدم، فيرفض الطبيب مبرراً رفضه بأنها تعليمات وزارة الصحة، التى ترفض بيع الدم بالفلوس، وهو ما دفع شابا عشرينيا يدعى أسامة فتحى موجوداً لنفس سبب وجود كرم إلى الضحك ساخراً من كلام الطبيب الذى انصرف، قائلا: «أنا بجرى على بنوك الدم منذ 4 سنوات بسبب مرض والدتى بمرض الكبد واحتياجها إلى الدم ومشتقاته بصفه دورية، وفاهم طريقة تفكير الأطباء داخل بنوك الدم بالمستشفيات الخاصة»، مضيفاً أن بنوك الدم أفضل لها أن تقوم بمقايضة كيس الدم بثلاثة أكياس بدل بيعه بـ300 جنيه فقط، موضحاً أن كيس الدم الذى يتبرع به المواطن يتم تقسيمه إلى ثلاثة أقسام؛ كيس كرات الدم يباع من قبل بنك الدم فى المستشفيات الخاصة بـ300 جنيه، وكيس ثانٍ للبلازما يحتوى على وحدتين يباع بـ220 جنيها، وثالث لصفائح الدم يضم 6 وحدات يباع بـ770 جنيها، ليستنتج «شهاب» الشاب الثلاثينى، سبب تبرعه بكيس دم مملوء على آخره، بينما يأخد كيس الفصيلة التى يريدها لا يتجاوز الدم به نصف الكمية التى يتبرع بها.

يخرج كرم من المستشفى ليبحث عن 3 أشخاص بعد نصيحة من موظف الاستقبال: «شوف الشباب اللى بيعمل قمسيون للسفر إلى الكويت على ناصية الشارع، إدى كل واحد منهم 50 أو 100 جنيه، هييجوا معاك». يخرج كرم إلى الشارع بحثا عن 6 أفراد يتبرعون له، يجرى مفاوضات مع العديد من الواقفين على ناصية الشارع، تنتهى بموافقة شخص واحد فقط، ليفاجئه بائع الشاى بقوله: «العيال اللى انت بتدور عليها بتكون موجودة هنا الصبح بدرى، دلوقتى مش هتلاقى حد».

ويوضح الدكتور إيهاب سمير، مدير بنك الدم بـ«المصل واللقاح»، أنه لا توجد قوانين تحكم بيع الدم فى بنوك الدم بالمستشفيات الخاصة، فهى تقديرية وفقا لما يراه العاملون بها، بينما الهيئة لها أسعار ثابتة، حيث لا يتجاوز كيس الدم 220 جنيها، موضحاً أن أمام المواطنين 3 طرق للحصول على الدم؛ تبدأ بتوفير دم مجانى لغير القادرين والمرضى، الذين يعالجون على نفقة الدولة، والثانية شراء كيس الدم بـ220 جنيهاً من الهيئة، والأخيرة أن يأتى المواطن بمتبرعين ويحصل على الكيس مجانا.

فى بنك الدم بمستشفى مصر الدولى، الذى لجأ إليه كرم بعد فشله فى إيجاد متبرعين، يخبره الموظف المسئول بعدم وجود هذه الفصيلة، مقترحاً عليه أن يذهب إلى مستشفى الشبراوى، يسأله كرم: «هو سعر الكيس كام؟»، يرد الموظف: «كل مستشفى لها أسعاره الخاصة به، ويختلف السعر من مكان إلى آخر»، لينتهى الحوار بخروج «كرم» قاصداً مستشفى الشبراوى لعله يجد ضالته المنشودة.

خلف «طاولة» خشبية ممزوجة بالرخام، تجلس 3 فتيات يستقبلن زوار بنك الدم، تقف فتاة تطلب 4 أكياس بها وحدات بلازما، تطلب منها الموظفة دفع 440 جنيها، والانتظار قليلا فى صالون الاستقبال، بينما يدفع آخر 770 جنيها ثمن كيس به 6 وحدات صفائح دموية، وكرم كالمعتاد لم يجد فصيلة الدم التى يبحث عنها هنا، يصمت لبرهة قائلا بجهالة: «أنا عندى إحساس إن الفصيلة النادرة دى مش بتاعة مراتى، وأطباء المستشفى هما اللى عايزين الفصيلة دى»!

مدير بنك الدم بـ«المصل واللقاح» يطالب الدولة بابتكار طرق جديدة لمعالجة العجز.. تبدأ بحملات توعية وتصل إلى التبرع الإجبارى عند تجديد رخصة القيادة

أثناء خروجه يسأل فرد الأمن على الباب الرئيسى: «فيه مكان تانى هنا ممكن أدور فيه على دم؟»، يطلب منه أن يذهب إلى القهوة ويأتى بـ3 متبرعين، يمكن أن يجد بينهم الفصيلة التى يبحث عنها، يقطع الحوار بينهما جرس تليفون فى جلباب كرم، إحدى قريباته، بالمستشفى، يخبرها بأنه لا يجد فصيلة الدم التى يبحث عنها، تخبره بأن الأطباء يطلبون حضوره لتوقيع خطاب الموافقة على إجراء العملية لزوجته.

يقول الدكتور سمير: «إن عملية فصل الدم تتم من خلال جهاز طرد مركزى، يتمكن من فصل أكياس الدم بعد فحصها إلى كرات الدم وصفائح وبلازما، وبعد عملية الفصل يباع كل فصيل بسعر مختلف»، مضيفاً أن الدم الذى يتبرع به المواطنون يخضع لعمليتى فحص؛ الأولى فحص مبدئى ويشمل الكشف على وجود فيروس الكبد c وb والإيدز والزهايمر، والثانى هو «فحص التأكيد» nat، ويهدف إلى كشف خلو الدم من العدوى التى انتقلت إلى الجسم حديثاً ولم تنشط بعد، وهذا لا يحدث فى كل بنوك الدم فى مصر، ويطالب «سمير» الدولة بابتكار طرق جديدة لمعالجة العجز فى بنوك الدم على مستوى الجمهورية، تبدأ بحملات توعية على مستوى الدولة بضرورة التبرع، وتصل إلى التبرع الإجبارى عند تجديد رخصة القيادة، باعتبار أن قائدى السيارات من أكثر الفئات التى تحتاج إلى التبرع بالدم فى حالة الحوادث.

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى