الآثار السلبية الضارة لاختيار أسقف أو مطران للبطريركية

القضية ليست قضية أشخاص وأسماء، فنحن نكنُّ لجميع الأشخاص كل احترام وتقدير.

ولكن مما يحزُّ في النفس أن هناك قوماً لم يأخذوا عبرة من الزمان، ولم يستفيدوا من دروس التاريخ، رغم أنه ما أكثر العظات والعِبَر التي يمكن أن يتعظوا بها لو أحسنوا الرؤية وفتحوا أذهانهم.

ونظرة إلى تاريخ الكنيسة في عهد بابوية المطارنة الذين صاروا بطاركة في كنيستنا القبطية في القرن العشرين، نرى كيف تردَّت الأحوال وساءت الأموروكيف دخلت الكنيسة – في عصورهم – في مجال الظلام الروحي؛ حيث كثرت الانقسامات والطعون والمهاترات التي لا تليق برؤساء الدين ولا بالمؤمنين، وكانت هذه علامة واضحة صريحة على فشل هذا الاتجاه (أي اختيار مطران للبطريركية).

حتى لو كان ترشيح أسقف أو مطران للبطريركية تسمح به قوانين الرسل أو مجمع نيقية، فهذا كان على سبيل الاستثناء وليس القاعدة، والمهم هو روح القانون وأثره الإيجابي وليس مجرد حرفه، لأن الحرف يقتل.

والتجربة العملية في الكنيسة القبطية أثبتت أنه منذ عام 1928 إلى 1959، عندما لم تلتزم الكنيسة بالتقليد الآبائي، عانت الكثير، وضاعت هيبة الكنيسة ووقار رعاتها أمام الآخرين، وصارت الكنيسة عُرْضة للقال والقيل أمام غير المؤمنين، وتبرهَنَ عملياً أن الفكرة من أساسها كانت خطأًفادحاً وثمنها باهظاًَ.

أما عندما يوافق الأساقفة على ترشيح مطران للبطريركية لكي يكتسب مشروعية، فهذا الأمر في جوهره الروحي سلوك غير لائق يسيء إلى سمعة رؤساء الدين الذين يعلِّمون الشعب فضيلَتَي الاتضاع وإنكار الذات، وهم بذلك يدوسون على قيم روحية عظمى وأهمها عدم التحزب، لأن التحزب من أعمال الجسد لا يدل على روحانية (انظر غل 19:5).

وعندما يسعى الراعي نحو المتكأ الأول، ويبذل قصارى جهده ليكسب مؤيدين وأنصاراً في صفِّه، فهو يفتح الباب على اتساعه أمام معارضيه لكي يطعنوا في سلوكه، فتتشوَّه صورته كراعٍ أمام رعيته، وتتلوَّث سمعته؛ فيفقد وقاره واحترامه أمام الجميع.

إن مخالفة الراعي لوصية الإنجيل (التي تحذِّر من المتكأ الأول والكراسي العاليةفيه تكريس لروح التمرد والعصيان على الوصية، فكيف يستطيعأن يعلِّم الناس فيما بعد بطاعة الوصية، إن كان هو الكاسر الكبير للوصية أمام الجميعوهل يستطيع أن يعظ الناس فيما بعد عن إنكار الذات والاتضاع والوداعة واختيار المتكأ الأخير؟ أم ستكون عينه مكسورة وضميره مجروحاً وتعليمه بلا ثمرة لأنه لم يطع الوصية ولم يعمل بهاوهنا لابد للحجة التي يتمسك بها وهي صلاحيته للتعليم أن تفقد قيمتها، وتصبح صلاحية زائفة منتهية الصلاحية.

أما افتخاره بأنه هو أكثر المؤهَّلين وأفضل المعلِّمين، فيظهر فيه نبرة التعالي والكبرياء، وهو افتخار ليس في محلِّه، لأن بقية الرهبانالمرشَّحين ليسوا غير متعلمين، بل وربما يكون أحدهم أفضل، مع ملاحظة أن الشك في قدرات الآخرين والحطَّ من شأنهم على أنهم أقلُّ منه، هو نوع من سوء الظن، ويدل على قلب خالٍ من المحبة، لأن المحبة لا تظن السوء، والكتاب يعلمنا أن العلم ينفخ أما المحبة فتبني” (1كو 1:8).

وعندما تغيب المحبة أو تحتجب، يجفُّ إحساس الإنسان بشعور الآخرين، ويكون من السهل عليه أن يحتقر هؤلاء الآخرين ويدوس على وصية الإنجيل مقدِّمين بعضكم بعضاً في الكرامة” (رو 10:12).

وهذا السلوك يتنافى تماماً مع روح الإنجيل، مهما ادعى ذلك الإنسان أنه خبير في شؤون اللوائح والقوانين.

نتائج سلبية ضارة :

الذين يرشِّحون أسقفاً أو مطراناً للبطريركية، لم يحسنوا وزن الأمور وتقدير العواقف الوخيمة الناجمة عن تصرفهم، وهو تصرف غير حكيم يشوبه القصور الشديد في رؤية النتائج السلبية الضارة لعملهم، وإليكم بعضها:

أولاً: المطران الذي يتم ترشيحه للبطريركية سيتورط في صراع عنيف مع معارضيه، ويثير البلبلة وانقسام الناس بين مؤيد ومعارض، وهذا يؤدي حتماً إلى تفريق الشمل بدلاً من لمِّه.

فإن كان من قَبْل اختياره بطريركاً قد تسبب في هذه الفُرْقة والبلبلة والانقسام، فهل يستطيع أن يعالج الشروخ والتصدعات الخطيرة التي تكونتفهو لن يقدر أن يعيد لَمَّ الشمل، وهذا أمر غير محبوب وغير مرغوب فيه، بل هو أمرٌ مقيت وبغيض لأن فيه عثرات كثيرة، والكتاب يحذرنا من العثرات:

ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة” (مت 7:18).

إن كان طعاماً يعثر أخي فلن آكل لحماً إلى الأبد” (1كو 13:8).

من لا يجمع معي فهو يفرِّق” (مت 30:12 ، لو 23:11).

ثانياً : الأسقف أو المطران تكون عليه مسؤوليات ثقيلة والتزامات كبيرة من نحو رعية أبروشيته المرسوم عليها، وهي تتطلب الكثير من الوقت والجهد لحل مشاكل الرعية التي بلا كيل ولا حدٍّ، فعندما يسعى إلى أبروشية أكبر وهي رعاية أبروشية الإسكندرية وتدبير أمور كل الكرازة المرقسية بالإضافة إلى أبروشيته الأصلية (التي ستبقى بلا أسقف جديد عليها)، فهل يقدر في هذه الحالة أن يكون راعياً صالحاً أميناً قادراً على القيام بهذه المهمة الثقيلة للغاية كشخص يهمه خلاص الرعية؟ أم أن كل ما يهمه هو المنصب الرفيع والكرسي العالي والمقام السامي، حتى لو أدَّى ذلك إلى اختلال الرعاية وهلاك الرعية؟!

أما صفة التعليم العظيم التي يتشدَّق بها فهذه ليست ميزة يتباهى بها، لأن عند فوزه بالكرسي العالي، ونظراً لكثرة المشغوليات والمسؤوليات وتفاقم المشكلات، سيكون ذهنه مشتَّتاً غير قادر على التركيز، ويتمنى أن يرحمه أحد من عذاب الأرق والتوتر من جراء إتساعحقل الخدمة والهموم في الداخل والخارج، في أبروشيته الصغيرة وأبروشيته الكبيرة، فينتابه الإحساس بالحيرة وقلة الحيلة، ونتيجة الذهن المضطرب والمشوَّش من كثرة التفكير في حلِّ المشاكل ليل نهار، سيجد نفسه بعد قليل من الوقت ناقماً وساخطاً على الرعية وليس معلِّماً لها، لا يصدر عنه سوى الإجراءات التعسُّفية التي يمكنها أن تعثر الرعية، مما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع وانحدارها إلى أسفل، وخسران نفوسكثيرة، والتي ربما تترك الكنيسة القبطية بسببه.

ثالثاً : إذا فاز المطران بالمنصب، فسوف يلتف حوله أصحاب المآرب والمنافع، والذين ساندوه وأيَّدوه وآزروه ليصل إلى الكرسي العالي، معتبرين أن ذلك يُعَدُّ فوزاً عظيماً ونصراً مبيناً، والبطريرك الفائز في هذه الحالة لابدَّ أن يردَّ لهم الجميل فيمنح عطاياه لمن ساندوه، ولمن يرضى عنهم، ويمنعها عن معارضيه وعمَّن يسخط عليهم، فيخلق، بذلك، جوًّا مشحوناً بالبغضاء والكراهية، وهذا بدوره يؤدي إلى انشقاق أكثر في صفوفالجماعة ينتهي بالتفكك والتصدُّع، ثم تؤول الحال إلى أردأ حتى تصل إلى الحضيض.

وحينئذ، تصير أخبار الأوضاع المترديَّة في الكنيسة هي موضوع حديث الناس، وتسوء سمعة الكنيسة أمام العالم، وتلوك الألسنة سيرة رعاتها بالحق والباطل، ويُفتَح الباب على مصراعيه أمام الغرباء للتقولات الكثيرة، وتكون فرصة للشماتة، ويتهلهل اسم المسيح، ويُجدَّف على الاسم المبارك علناً وتُنتهك حُرْمة المقدسات المسيحية عياناً بياناً على صفحات الجر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى