قصة الدستور الساكت عن الحقوق الاجتماعية

نجحت اللجنة التأسيسية فى إخراج مسودة دستور تحمى الهوية الدينية والقيمية للمجتمع، إلى درجة أن نشطاء إسلاميين رأوا فيها تزيدا لا لزوم له، بينما تحدث الدستور الجديد عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكل مقتضب وصاغ موادها بطريقة مراوغة حافظت على الفلسفة الاقتصادية لدستور «مبارك»، وفقا لقراءة العديد من المحللين.

 

 

 

يمثل المشهد السياسى القائم فى خلفية إعداد أى دستور عاملا رئيسيا فى تحديد الشكل الذى سيخرج به هذا الدستور، خاصة فى مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتى تحددها مصالح القوى الاجتماعية المهيمنة فى لحظة اعداد الدستور.

 

 

 

وبالنظر إلى أولى محاولات اعداد دستور بعد ثورة 23 يوليو، كان مشروع دستور 1954، نجده يشمل ضمانات قوية للحقوق الاجتماعية، حيث كانت صياغات مواده «تلزم الدولة بكفالة تلك الحقوق وتلزم المشرع بخلق قوانين لا تتعارض معها بل تضمنها»، وفقا لدراسة للمركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو الدستور الذى أعده نخبة من الخبراء كانوا يعبرون عن الطموحات الاجتماعية فى تلك الفترة ولكنه تم إهماله من المجموعة الحاكمة آنداك.

 

 

 

بينما كان دستور عام 1971 هو الأطول عمرا فى دولة يوليو، حيث استمر إلى ثورة يناير، ومثل تراجعا عن مكتسبات أول دستور بعد الثورة حيث «قام بتقليص دور الدولة والتزاماتها تجاه حقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية» وفقا لدراسة المركز الحقوقى.

 

 

 

وبالانتقال لمشهد ثورة يناير، فإن أول دساتيرها يواجه تنازعا بين الطموحات الاجتماعية للقوى الثورية والنزعة المحافظة للقوى السياسية التى أصبحت تمثل السلطة الجديدة، حيث كان غياب العديد من الحقوق الاجتماعية عن مسودة الدستور، التى طرحتها الجمعية التأسيسية على الرأى العام، على رأس الانتقادات التى وجهتها قوى المعارضة ، مستشهدين بتجارب الدساتير فى الدول التى مرت بمراحل تحول ديمقراطى مشابهة لمصر. «الدساتير الحديثة فى العديد من الدول النامية كانت تحرص على التوسع فى توفير الضمانات الدستورية للحقوق الاجتماعية، لأن هذه الدول كانت قد خرجت لتوها من استبداد سياسى أو سياسات تحررية متطرفة، وهى الظروف المشابهة لثورة يناير الا أن الدستور المصرى لم يخرج بهذه الروح «كما يقول عمرو عبدالرحمن، عضو حزب التحالف الشعبى الاشتراكى.

 

 

 

دستور ما بعد الديكتاتور

 

 

 

ويعد الدستور الدنماركى، الذى تم إعداده عام 1849، أحد النماذج على الدساتير التى لم يظهر فيها بقوة نصوص عن الحقوق الاجتماعية، وهو ما يرجع إلى طبيعة الفترة التى أُعد فيها، والتى كان فيها اتجاه قوى لليبرالية، وساهمت قوة المنظمات الديمقراطية فى البلاد مثل النقابات العمالية إلى طمأنة المشرعين على قدرة المواطنين على التفاوض على تلك الحقوق من خلالها.

 

 

 

أما التجارب الدستورية فى القرن العشرين فقد جاءت مختلفة، فدستور إسبانيا، الذى أعد عام 1987، بعد 40 عاما من الديكتاتورية، خرج بصيغة مفصلة للحقوق الاجتماعية مثل الحديث عن سياسات الأمان الاجتماعى ورعاية العاطلين، وسياسات توزيع الثروة فى البلاد والتأكيد على ادماج الشباب فى منظومة التنمية الاجتماعية ، علاوة على سياسات لرعاية فئات خاصة مثل المسنين الذين ضمن لهم الدستور مسكنا ملائما ورعاية صحية.

 

 

 

وقدمت البرازيل تجربة مشابهة فى دستور عام 1988 الذى أعدته بعد سقوط الحكم العسكرى، ويعد الدستور البرازيلى من أضخم الدساتير فى العالم بسبب توسع الضمانات الدستورية للسياسات الاجتماعية، الأمر الذى وصل إلى حد النص على تفاصيل كعدم انخفاض الانفاق العام على التعليم عن 25% من الايرادات السنوية، إلا أنه يؤخذ على الدستور البرازيلى أنه استغراقه فى التفاصيل مما اضطر المشرعين إلى إدخال 74 تعديلا عليه منذ صدوره لإتاحة المزيد من المرونة فى السياسات.

 

 

 

ومن أحدث التجارب للدساتير المعنية بالحقوق الاجتماعية، تجربة دستور الأكوادور عام 2008، والذى تم إعداده استجابة لتظاهرات سلمية من قطاعات اجتماعية واسعة، فى ظل موجة من التحول إلى سياسات أكثر انحيازا للمواطنين بعد عقود طويلة من السياسات التحررية.

 

 

 

عن أى دولة نتحدث؟

 

 

 

محاولة فهم المضمون الاجتماعى للدستور المصرى الجديد تبدأ من تعريفه للنظام الاقتصادى، والذى اشتمل على أنه يهدف «إلى تحقيق التنمية المستدامة المتوازنة، وحماية الإنتاج وزيادة الدخل، وكفالة العدالة الاجتماعية والتكافل والرفاه»، ويرى معارضون للدستور الجديد أن المادة التى عرفت النظام الاقتصادى «مادة أشبه بموضع إنشاء أكثر منها مادة دستورية تحدد أولويات أجندة الاقتصاد الوطنى»، كما جاء فى بيان لحزب مصر القوية، والذى أضاف أن تعريف النظام الاقتصادى كان به «غايات مبهمة» مثل الحديث عن «حماية الإنتاج»، «حمايته ممن؟ هل من إضرابات العمال مثلا، أم من استغلال رءوس الأموال؟».

 

 

 

ويعتبر محمد المهندس، مقرر لجنة البرنامج بحزب مصر القوية أن النصوص الخاصة بالنظام الاقتصادى للدولة كان يجب أن تقدم صورة أوضح عن طبيعة النظام الاقتصادى كنظام «دولة تنموية» تطبق سياسات محفزة للإنتاج وتكافح الاحتكار.

 

 

 

كما يرى خبراء أن مسودة التأسيسية بصفة عامة لم تقدم فلسفة اقتصادية واضحة «الجمعية التأسيسية للدستور فى تونس وضعت ديباجة والتى تشتمل على الفلسفة العامة للدستور، وهذا ما لم تفعله الجمعية المصرية، لذا لا نرى فى مشروع الدستور المصرى تعريفا واضحا للدولة الجديدة التى نتطلع إلى تأسيسها» بحسب سامر سليمان، أستاذ الاقتصاد السياسى بالجامعة الأمريكية.

 

 

 

وكان الدستور السابق لعام 1971 يشتمل على مواد أكثر صراحة عن طبيعة النظام الاقتصادى كـ«نظام اشتراكى»، قبل دخول تعديلات عام 2007 عليه، فى فترة تأهل مبارك الابن ومجموعته النيوليبرالية للوصول للحكم، «المواد الاشتراكية فى الدستور مثلت مساحة للمناورة أمام الحركات الاجتماعية لملاحقة الدولة أمام القضاء لمواجهة الآثار الاجتماعية لسياسات الخصخصة، ولم يقدم الدستور الجديد نصوص بديلة توفر حماية للحقوق الاجتماعية بنفس القوة» برأى عبدالرحمن.

 

 

 

ما هى الحقوق؟

 

 

 

أما عن تفاصيل الحقوق الاجتماعية، فلا ينكر الخبراء أن مسودة الدستور اشتملت على حقوق جديدة، أبرزها الحديث عن الحق فى السكن، والذى لم يظهر فى دستور عام 1971، وكذلك حرية تداول المعلومات، كما حافظ الدستور الجديد على مبدأ مجانية التعليم، إلا أن الحديث عن بعض الحقوق الاجتماعية الأخرى جاء مقتضبا ويحتاج إلى مزيد من التفصيل، ففى مجال الحق فى الصحة يتحدث الدستور عن دور الدولة فى توفير نظام تأمين صحى عادل وعالى الجودة، بينما يقترح حزب التحالف الشعبى النص على توفير نظام تأمين صحى «اجتماعى، أى غير تجارى، يغطى جميع المواطنين من جميع الأعمار ضد جميع الأمراض، على أن يشارك المنتفعون فى إدارته ويخضع للرقابة الشعبية».

 

 

 

ويشير مقرر لجنة البرنامج فى مصر القوية إلى عدم اشتمال مسودة الدستور على نصوص أكثر توسعا لضمان حقوق ذوى الإعاقة «لا بد من النص الدستورى على توفير فرص عمل إلزامية، على الشركات إتاحة مشاركة الأشخاص ذوى الإعاقة فى العمل، مع عدم التمييز بينهم وبين الأصحاء فى الأجر، وكذلك توفير كل التسهيلات لهم فى الطرق، ووسائل النقل، والمبانى، وغيرها، وحصولهم على حقهم فى التعليم بما يناسب احتياجاتهم، ويحقق دمجهم فى المجتمع»، كما يقترح مصر القوية اشتمال الدستور على «خطة محددة لرعاية وحماية أطفال الشوارع».

 

 

 

حقوق عمالية منقوصة

 

 

 

الحق فى الإضراب، كان أيضا من المكتسبات الاجتماعية فى مسودة الدستور الجديد، إلا أن المادة التى نصت عليه اشترطت أن «ينظمه القانون»، وهو التعبير الذى يعتبره خبراء التشريع من الاصطلاحات المراوغة التى تتيح التراجع عن هذا الحق مع فرض قيود على الإضراب فى القانون.

 

 

 

وفى المقابل ينص الدستور الذى أعدته منظمات عمالية وفلاحية ومجتمع مدنى، خلال حملة العمال والفلاحون يكتبون الدستور، على أنه «لا يجوز للقانون تقييد الحق فى الإضراب أو الانتقاص منه. وتحمى الدولة الاتفاقات الناتجة عن الإضراب وتضمن عدم تعرض عامل لمعاقبة أو مطاردة بسبب مشاركته فى حركة احتجاجية بأى شكل»؟

 

 

 

ووضع دستور النقابات المستقلة محددات على قانون العمل بنصه على أنه «يضمن القانون استقرار العمل والأمان الوظيفى، ويضع الأسس التى تؤدى لمنع كل أشكال الفصل التعسفى، ويعتبر الفصل المخالف للقانون كأن لم يكن يستوجب إعادة العامل إلى عمله وتعويضه عن ما أصابه من أضرار»،

 

 

 

كما اقترح أنه «عند الاختلاف حول تطبيق أو تنازع قواعد قانونية فى حقوق العمل، يطبق الأكثر فائدة للعامل».

 

 

 

ولم يكتف الدستور الذى اقترحه العمال بالحديث عن الحق فى العمل، ولكنه تناول أيضا قضية الاجور بشكل مفصل، حيث نص على أنه «للعمال الحق فى الحصول على أجر لا يقل عن الحد الأدنى الموحد للأجور الذى يجب إقراره على المستوى الوطنى، والذى يجب أن يكون كافيا وقادرا على اشباع احتياجات المعيشية الأساسية للعامل وأسرته من حيث السكن والغذاء والتعليم والصحة ووقت الفراغ والملبس والنظافة والانتقال والتأمينات الاجتماعية، مع إدخال زيادات دورية عليه تتوازن على الأقل مع نسب التضخم التى قد تصيب الاقتصاد، وربطه بحد أقصى للأجور لا يزيد على خمسة عشر ضعف الحد الأدنى للأجور لتقريب الفروق بين الدخول».

 

 

 

وفى مجال حقوق الفلاحين، قدمت المسودة نصا مقتضبا أيضا يلزم الدولة بأن تحمى «الفلاح والعامل الزراعى من الاستغلال»، بينما دعت النقابات المستقلة إلى النص على أن «تكفل الدولة لكل المزارعين الحق فى المياه اللازمة لإنتاج الغذاء بالكمية والجودة المناسبتين وبلا مقابل، وتدعم الدولة المزارعين لتطوير طرق الرى بما يضمن ترشيد استهلاك المياه».

 

 

 

لا مركزية بالاسم فقط

 

 

 

«للوهلة الأولى تجد أن مسودة الدستور تتحدث عن سياسات لامركزية فى ادارة المحليات، ولكن بالنظر إلى التفاصيل تجد أن الدستور يحافظ على نفس الروح القديمة للسياسات المركزية»، كما يقول المهندس، مشيرا إلى أنه بينما نص الدستور على تشكيل مجالس ادارة محلية منتخبة، فإنه لم يفرض على الحكومة تخصيص نسبة من النفقات العامة للمحليات او يحدد للمحافظات المختلفة الإيرادات المحلية التى من حقها اقتطاعها لنفسها بشكل مباشر، وكذلك لم يشرك الدستور المحليات فى صياغة خطة التنمية الاقتصادية.

 

 

 

وبالرغم من أن مسودة الدستور أعطت المجالس المحلية الحق فى ادارة المرافق العامة، الا أن حزب مصر القوية يرى أن هناك أجهزة مركزية ستنازع المحليات فى تلك الصلاحيات «فالحديث عن إدارة المرافق الصحية فى ظل تبعية الأطباء والمستشفيات لوزارة الصحة سيسبب حتما تضاربا شديدا فى ظل عدم وجود موارد حقيقية للمحليات فى مقابل إنفاق وزارة الصحة على الأجهزة، ودفعها لمرتبات الأطباء والممرضين وغيرهم».

 

بوابه الشروق

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى