السيول تضيع «أرزاق» الباعة.. والمريدون يواصلون المسير..والشرطة «لا تنام»

 

 

 

كتب : محمد كامل

عاشت «الوطن» يومين مع الصوفية من مريدى «أبوالحسن الشاذلى»، الساكن أعلى جبل حميثرة فى البحر الأحمر، الذين يقدرون أعدادهم بمئات الآلاف، قالوا إنهم جاءوا ليؤدوا «حجهم الأصغر»، تزامناً مع وقفة عرفات ووقفة عيد الأضحى المبارك.

الطريق إلى «الضريح»، يمتد لأكثر من 900 كم، انقطعت تماما الاتصالات بأنواعها عند سيدى سالم بعد مرسى علم؛ إذ يبدأ طريق آخر وعر يمتد لـ110 كم بين جبلين، قبل الوصول إلى «الشاذلى»، الذى لقى حتفه أثناء رحلته إلى الحج، فاتخذه الصوفيون «مولدا» لذكراه وتخليداً لرحلته الشاقة التى انتهت بوفاته.

ضيق الطريق وعدم ازدواجه واجتماع الذهاب والإياب فى حارتين لا يفصلها إلا خط أبيض مرسوم فى منتصفه.. كل ذلك جعل الطريق فخا للسائقين وأكثر من حوادث الطرق به، بينما كان منظر نجوم السماء كأنه فى متناول الأيدى وسط الظلام الدامس.

على يمين مدخل القرية مبنى الإدارة المحلية وعلى يساره نقطة الشرطة فى إشارة إلى أن الحكومة موجودة فى هذه البقعة النائية.

على يمين ويسار الطريق باعة جائلون، ظهرت الخسارة جلية فى وجوههم كما ظهرت آثار السيل الذى أفقدهم بضاعتهم واضحة فى الطريق.

خبيرة تجميل تركت الدنيا وتفرغت لزيارة أولياء الله.. و«الشاذلية» تطوف المكان بجمل ضخم.. والزائرون يرصون الحجارة فوق «حميثرة» أملاً فى العودة مجدداً

خسارة الباعة الجائلين لم تشغل مريدى «الشاذلى» عن هدفهم، وبمجرد أن وصلوا انشغلوا بزيارة الضريح، وهو تتعدى مساحته 400 متر مربع، ويتوسطه بناء معدنى مذهب عليه آيات قرآنية، أبرزها «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، ويكسوه رداء أخضر، ووجود الرجال والنساء يكاد يحجب البصر عن الضريح.

ملابسها الخضراء وكحل عينيها وجلستها بجوار الضريح فى صمت شاخصة ببصرها لفت الانتباه إليها، تعدت الـ60 عاما لكنها تحضر كل عام إلى «الشاذلى»، هى أم هاشم، خبيرة تجميل سابقة، التى تركت الدنيا وتفرغت لزيارة أولياء الله الصالحين وأهمهم «الشاذلى».

«حميثرة»، الهدف الثانى من الرحلة، حيث كان يختلى الشيخ، ويصعد ليرى أنوار مكة، لم تمنع وعورة الجبل وارتفاعه الشاهق كبار السن من صعوده، وفور وصولهم ينهمك الجميع فى تكوين أشكال هرمية من أحجار، يعتقدون أنها ستعيدهم ثانية إلى «حميثرة» يوم عرفة، فى حجٍّ أصغر لا يغنى عن الحج الأكبر لبيت الله الحرام، وسط تزاحم شديد على خلوة «الشاذلى»، لينتهى الأمر بسكون واسترخاء ونظر إلى السماء وتوجه بالأبصار الشاخصة إلى الشرق حيث مكة قبلة كل مسلم.

محمد حسن، من سوهاج وفى العقد السادس من عمره، بنى خلوة بجوار خلوة «الشاذلى» وارتدى اللون الأخضر، مكث فى الجبل 10 أيام من أول المولد حتى انتهاء العيد، ولولا أسرته فى قريته لمكث فى «حميثرة» إلى يوم يبعثون.

تعددت أسماء الطرق الصوفية الحاضرة إلى المكان، بين «حامدية وقوقائية وشاذلية وبرهامية»، ولكن الأفعال واحدة، رجال ونساء يجتمعون فى الساحة، جزء يجهز الذبائح التى نحرت، وآخر يطبخها، وشيخ طريقة يلتفون حوله شوقا لكلماته وتوجيهاته.

تتحول الساحات فى الليل إلى خلية نحل نتيجة حلقات المدح والذكر، لا يضاهيها نشاط إلا أكتاف المريدين التى تتمايل مع المدح النبوى والقصائد الصوفية، وعند المغرب يجتمعون فى حلقات للإفطار معا.

أكثر من 100 ساحة تتقاتل على زوار «الشاذلى» من أجل إطعامهم وسقايتهم بلحوم أكثر من 100 ألف ذبيحة والكل سعيد إلا مجلس المدينة الذى يلاقى أهوال تنظيف بقايا 100 ألف رأس ماشية تذبح.

لم تمنع روحانية المكان تشاحن المريدين أمام سيارة المياه من أجل الأسبقية حتى لا تنفد من العربة، الماء هو الشاغل الأهم هناك رغم إحضارهم مياههم معهم التى سرعان ما تنفد منهم بفعل الكرم الصوفى.

تنافست الطرق الصوفية فى مواكبها، لكن الغلبة كانت للطرق الشاذلية التى أعدت جملا ضخما يشابه المحمل الذى كان يتوجه للأراضى المقدسة وعلى ظهره يجلس شيخ الطريقة فى حجرة خشبية صغيرة تخبئه عن العيون مثل العروس فى حفلات الزفاف قديما لدى العرب، هذا التشابه جعل المريدين يسمون هذا الموكب الزفة، حول المحمل وأمامه وخلفه أتباع الطريقة الشاذلية يضربون بالدف وآلات موسيقية أخرى وينشدون المدائح النبوية والقصائد فى مأثر «الشاذلى»، طافت الزفة حميثرة وتوجهت إلى ضريح الشاذلى، وبرك الجمل أمام الضريح، وكان ذلك شرارة الهجوم من المريدين أغلبهم نساء ومنهم رجال على الجمل يلمسونه بأيديهم ثم يضعونها على صدورهم وأفواههم ليقبِّلوه جلبا للبركة.

قبيل صلاة مغرب يوم الوقفة زاد النشاط أمام الضريح، فإذا بموكب آخر ولكنه ليس موكبا محمليا بل كان موكبا من السيارات الحديثة يتجه مباشرة إلى الضريح، خرج من السيارة الأولى داعية باكستانى شهير وأحد أقطاب الصوفية هناك، هو شيخ الإسلام محمد طاهر القادرى، لم تكن قدمه تطأ الأرض حتى نزل تلاميذه وأبناء وطنه من سيارتهم وأحاطوه رغم عددهم الذى يزيد على المائة وتوجهوا به إلى الضريح.

جلس الشيخ أمام ضريح الشاذلى يدعو هو وأتباعه، ثم جلس بينهم وهم وقوف يردد فى أذن أحدهم كلمة لا نعرفها ولكنه يقولها فيرددها أتباع الشيخ بلغة عربية لا تخفى الطابع الباكستانى.

كلمات عدة رددها الأتباع خلف الشيخ: يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا حى يا جبار.. يا حى يا جبار، يا قيوم يا قيوم، لم تنته كلمات الذكر الجماعية إلا مع أذان المغرب، ثم أم الشيخ الناس للصلاة فى الضريح، وتوجه إلى ساحة الأشراف الأدارسة ليتناول إفطاره.

أما رجال الشرطة فقد ظهر عليهم تأثير السهر وقلة النوم، عيون منتفخة وإرهاق واضح من كثرة المجهود، أما زوار المولد فأثنوا على جهود الشرطة، خاصة وقت السيل.

الوحدة الطبية بُنيت حديثا وخُبئت على استحياء خلف مبنى الإدارة المحلية، لكن لا يوجد فيها طبيب؛ لأنه توجه مع أحد المرضى إلى مستشفى مرسى علم العام ولا بديل له.

عقب صلاة الفجر ساد المكان هدوء قطعه الاستعداد لصلاة العيد، وبعدها استعد المريدون للرحيل بأن رصوا أحجارا على قمة حميثرة لعلهم يعودون مرة أخرى.

 الوطن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى