ملحق نيويورك تايمز.. حكم مرسى والإخوان يجب ألا يقوم على الخداع
عامان من الحياة فى ظل الصحوة العربية يبدوان كقرن مضنٍ من الزمان. منذ خمس سنوات فقط، لم يكن متخيلا أن يتم تصفية الحسابات مع الاستبداد فى شمال إفريقيا، إلى جانب الانزلاق إلى حرب أهلية فى سوريا، وفوضى فى اليمن، وعنف فى لبنان، وما زالت تلك الهزات تحدث فى كل ركن من المنطقة.
كل شىء تغير حين وصل الأمر إلى ممارسة السلطة فى الشرق الأوسط. ولم يتغير شىء بعد فى كثير من العواصم التى تتكيف مع ظروفها الجديدة.
إن جذور الصحوة العربية محل خلاف بقدر اتضاحها، حيث إنها تطالب بحكومة شرعية فى علاقتها بمن تحكمهم وأن تتم مساءلتها عن أفعالها. لكن هل لحكومتى الحق فى ممارسة السلطة، وهل أستطيع إبعادها إن ظننت أنها فشلت فى تحقيق وعودها بمزيد من الأمن والفرص والرخاء؟
تلك هى الأسئلة الوجودية المطروحة اليوم من قبل رجال ونساء العرب، مجتمعين أخيرا على مطلب، وهو أن يعيشوا كمواطنين لا كمجرد آلات.
لكن بدلا من أن يسعى الحكام العرب لتلبية مطالب شعوبهم، يراهن معظمهم على مزج الخوف والجمود والارتباك؛ بهدف تغيير القضية. هم أساتذة الإلهاء، يسعون لإبدال أعذار القدامى -والتى كانت هى «مقاومة» الاحتلال الإسرائيلى للضفة الغربية والاستياء من النفوذ الأمريكى- وذلك بإشعال مخاوف جديدة أكثر خطرا.
إحدى تلك المخاوف الرئيسية هى إيران، وتحديها على مدار 30 عاما للموقف الإقليمى لمنطقة الخليج التى تهيمن عليها السعودية وحلفاؤها بدعم من الولايات المتحدة. ثانيا، وهو مرتبط بذلك، ما يسمى بـ«الهلال الشيعى» المنبثق من أطلال غزو العراق امتدادا إلى الغرب عبر سوريا والأردن ووصولا إلى لبنان. ثالثا، ظهور الإسلام السياسى كحركة رئيسية فى عدة بلاد.
والشرعية الآن هى الشبح الذى يحوم فى أروقة السلطة فى أنحاء الشرق الأوسط. كثير من زعماء المنطقة المحاصرين يتمنون خداع حلفائهم فى الغرب وخداع أنفسهم وشعوبهم بأن القضية هى فى بلاد فارس الغادرة، أو فى الطائفية الشيعية أو فى الإسلام السياسى (كتهديد أو كمنقذ)، إلا أن الواقع أبسط من ذلك بكثير، وهو أن الشباب العربى يريد حكما كفؤا سريع الاستجابة ومسؤولا.
منذ عقد من الزمان، وكمساعد لكوفى عنان الأمين العام للأمم المتحدة، شاركت فى لقاء بالقاهرة مع حسنى مبارك رئيس مصر آنذاك. كان اللقاء يسير كالمعتاد، ثم تغير سلوك مبارك فجأة فى استجابته لتصريح أنذر بالقلق إزاء انتهاكات حقوق الإنسان فى مصر، فألقى بتحذيره المعهود، وقال: إما هو وإما الإخوان المسلمون.
هل كان مبارك محقا؟ حسنا، كان محقا ولكن إلى حد معين فحسب، وفقط لأنه فعل ذلك من خلال ضمان أن المعارضة الفعالة الوحيدة لحكمه كانت توجد حقيقة عبر المساجد.
الشهر الماضى، بعد لقائى فى القاهرة بصناع السياسة المصرية والدبلوماسيين الذين يناضلون ليكون للحياة معنى فى ظل حكومة الإخوان المسلمين، دخلت إلى ميدان التحرير المزدحم الذى كان يحضر لاحتجاج شعبى آخر، لكن الآن كانت الهتافات ضد الرئيس محمد مرسى.
إن هدف السلطة لم يكن مسار نزاع لهذه الدرجة، كما هو الحال اليوم فى الشرق الأوسط. الشرعية الحقيقية يجب اكتسابها الآن، وإعادة اكتسابها، عبر الممارسة المسؤولة للسلطة.
من الوهلة الأولى تدرك أن هذا يشكل تهديدا حقيقيا كبيرا لقادة المنطقة، لا للحكومات الإسلامية الجديدة، بقدر ما هى تشكل خطرا كبيرا للملكيات والجمهوريات الاستبدادية التى لم يشملها الإصلاح.
مع ذلك، فالأمر الأكثر أهمية هو أن هذه فرصة بالنسبة إلى القادة الذين يتطلعون إلى المضى قدما فى المنطقة بأن يضعوا أسسا مستدامة لحكمهم، أسسا لا تقوم على خداع بالتهديدات والأعذار.
هاجل.. خيار إسرائيل الأفضل
روجر كوهين
ترجمة: أحمد السمانى
لندن – قرار الرئيس باراك أوباما بترشيح الجمهورى السابق، تشاك هاجل، الذى يملك خبرة كافية من خوضه لحروب عديدة، وزيرا جديدا للدفاع، أعتقد أنه الاختيار الصحيح لأسباب عديدة، أهمها أنه سيفتح بابا جادا للنقاش حول ما هو شكل الذى يجب أن تكون عليه الصداقة الحقيقية تجاه إسرائيل.
تشتد الحاجة حقيقة إلى ذلك النقاش، الذى سيُكشف عنه النقاب خلال جلسات مجلس الشيوخ، وذلك لأن النخبة اليهودية فى الولايات المتحدة لا تمثل فى كثير من الأحيان العديد من اليهود الأمريكيين، الذين ابتعدوا عن فكرة أن الدعم الوحيد المشروع لإسرائيل هو الدعم غير المشروط لتل أبيب، وأن الإشارة الوحيدة على الصداقة هى تبنى إسرائيل دون أى انتقاد لها.
وفجر السيناتور الجمهورى لندساى جراهام عن كارولينا الجنوبية تصريحات نارية لـ «سى إن إن» قال فيها: «ترشيح الرئيس الأمريكى هذا، يتحدى كل الجهات الداعمة لإسرائيل».
هذا التصريح، كان مرتكزا على عدم تحمس هاجل السابق للحرب على إيران، وإشارته الوحيدة السابقة لداعمى إسرائيل بـ«اللوبى اليهودى»، التى كانت ضمن حملة الهجوم الجمهورية على أوباما العام الماضى، التى قالوا فيها إن الداعم الأكبر لأمن إسرائيل، قذف بها «تحت الحافلة».
ولكن الناخبون اليهود، فضلوا مرة أخرى أوباما وبأغلبية ساحقة، على الرغم من التوجيه الطفيف الذى قام به رئيس الوزراء الإسرائيلى بينامين نتنياهو تجاه المرشح الجمهورى، والذى ظهر خلافه فى صناديق الاقتراع.
يمكنك أن تحدد أعداء إسرائيل بسهولة، خالد مشعل، زعيم حركة حماس، ويتضح سبب هذا التوصيف عليه عندما أعلن: «فلسطين لنا من النهر إلى البحر ومن الجنوب إلى الشمال.. لن يكون هناك تنازل عن شبر واحد من الأرض.. نحن لن نعترف بشرعية الاحتلال الإسرائيلى، وبالتالى لن يكون هناك شرعية لإسرائيل.. بغض النظر عن المدة التى سوف يستغرقها هذا الأمر».
هذا النوع من المواقف المطلقة المرتكزة على الإبادة المزعومة، ستواصل سعيها لتقويض أى شرعية فلسطينية تحاول أن تقيم دولة جنبا إلى جنب مع إسرائيل آمنة -تلك الفكرة التى اعتمدها الرئيس الفلسطينى محمود عباس أبو مازن لفترة طويلة- التى لن تخدم إلا مصالح شخصية لتجار الكراهية.
لكن تحديد الأصدقاء الحقيقيين لإسرائيل هو أمر أكثر صعوبة، فهذا هو القرار بالغ الأهمية سواء لإسرائيل نفسها، أو بالنسبة إلى مستقبل السياسة الأمريكية تجاه الدولة اليهودية.
السؤال الذى دار فى ذهن الرئيس الأمريكى لفترة طويلة، خلال حملة 2008 فى لقائه بالجالية اليهودية كليفلاند، حينما قال «هذا هو المكان الذى أكون صادقا فيه، وأتمنى أن لا أكون مروج شائعات هنا، أعتقد أن هناك توترًا داخل المجتمع المؤيد لإسرائيل، حيث تقول إنك إذا لم تتبن النهج الثابت المؤيد لحزب الليكود الإسرائيلى، فأنت إذن معاد لإسرائيل، وأعتقد أن هذا لا يجب أن يكون مقياسا لصداقتنا بإسرائيل. إذا لم نتمكن من إجراء حوار صادق حول كيف يمكننا تحقيق تلك الأهداف فإننا لن نحرز أى تقدم».
خمسة أعوام مضت، وهذا الحوار يبدو أنه حقق تقدما نادرا، والآن البطانة التى تسمى نفسها «الأصدقاء الحقيقيون» لإسرائيل ضد ترشيح هاجل، الذين هم فى الواقع الأصدقاء الحقيقيون لليمين الإسرائيلى الذى يدفع للتشدق بالبعد كثيرا عن السلام القائم على حل الدولتين، بالسخرية من التطلعات الوطنية والثقافية للفلسطينيين، ورفض أى إصلاحات هامة تقوم بها الضفة الغربية التى أعدت لإقامة الدولة الفلسطينية، بالاستمرار فى بناء المستوطنات ما يجعل الأرض المتوقع إقامة دولة فلسطينية (حصلت نوفمبر الماضى على دولة مراقب غير عضو فى الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 138 عضوًا) عليها تتقلص بصورة كبيرة جدا، مما يجعل العثور على محاور فلسطينية صالحة على أرض الواقع يمكن للقيادة الإصلاحية المعتدلة مثل محمود عباس أبو مازن ورئيس وزرائه سلام فياض أن ترتكز عليها، يجعله أمرا صعب المنال، وتجاهل الآثار الخطيرة المترتبة على إسرائيل من سطوتها غير المستدامة على حساب شعب آخر، ومسألة كيفية أن تبقى دولة يهودية ديمقراطية آمنة دون وجود حل الدولتين (وهو أمر مستبعد تماما)، وتندفع فى المقابل نحو خطوة استراتيجية مشكوك فيها للحرب مع إيران.
هؤلاء «الأصدقاء الحقيقيون» أصحاب الصوت الأعلى، هم منظمون بصورة جيدة، وبلا رحمة.
لكن هناك أصدقاء آخرين لإسرائيل، أكثر هدوءا منهم، ولديهم التزام لا تردد فيه تجاه أمن إسرائيل، ضمن حدود 1967 (مع تبادل الأراضى المتفق عليها)، الذين يؤمنوا أن التوسع الاستيطانى فى الضفة الغربية هو خطأ بالغ وهزيمة للذات؛ الذين يعتقدوا أن مسعى نحو حل الدولتين يقوم على حسن النوايا ويتضمن تنازلات مؤلمة من كلا الطرفين (تخلى الفلسطينيين عن حق العودة وتخلى إسرائيل عن الأراضى التى احتلتها) هو المسار الحقيقى نحو أمن إسرائيل، وإنقاذ قيمها اليهودية الأساسية، وهو كذلك الذين يرفضون المغامرة العسكرية أحادية الجانب ضد إيران؛ والذين يزعجمهم التوجه القومى اليمينى فى إسرائيل، الذى يبدو مذهبه السياسى المحورى، هو أن الاحتفاظ بكل الأرض ممكن ومستدام.
هاجل، مثل أوباما، فهو صديق قوى هادئ تجاه إسرائيل، والحركة المضادة تجاهه هى مجرد إرث من العلاقات الثنائية مع إسرائيل، أو ضد الرؤية الإسرائيلية التى لا تجعل المصالح الحقيقية الإسرائيلية أو الأمريكية أمرا مركزيا لها.
اتفاق الهاوية المالية.. لا فائز ولا مهزوم
روث دوثات
ترجمة- محمود حسام وابتهال فؤاد
إذا كان من الممكن تبسيط الجدل حول الضرائب إلى رغبة من جانب الليبراليين للتأكد من أن عبء الضرائب يحمله القادرون على تحمله بسهولة، ورغبة من المحافظين فى إبقاء الضرائب فى أدنى مستوى لها، على أكبر عدد ممكن من الناس، فإن الحل الوسط الذى تم التوصل إليه حول الهاوية المالية التى أجريت خلال الـ48 ساعة الأخيرة بين ميتش ماكونيل، زعيم الجمهوريين فى مجلس الشيوخ، وجو بايدن، نائب الرئيس الأمريكى، وهى مساومة ما زال من الممكن أن تفشل فى المرور من مجلس النواب، وربما لا يبدو أنها تقدم شيئا ذا مصداقية إلى كلا الجانبين.
من ناحية، تتضمن الصفقة تنازلا ديمقراطيا حقيقيا، حيث تستبدل بحاجز الـ400 ألف دولار، سقف الدخل الـ250 ألف دولار الذى أصر عليه الرئيس أوباما طويلا، لكن من ناحية أخرى، فبالنسبة إلى الليبراليين الذين يبحثون عن نهج تقدمى ومنصف، يجب أن تكون هذه أسهل مساومة يمكن عملها.
ما زال حاجز الـ400 ألف دولار يضع الحد الأعلى للدخول التى يجب فرض ضرائب عليها قريبا مما كانت عليه فى عهد بيل كلينتون عندما تم التكيف مع التضخم، وذلك أن تعريف كلينتون لـ«الأغنياء» قابل للتصديق، على الرغم من تأوه الطبقة فوق المتوسطة (أو، إن كنت تفضل أن تُطلق عليها الطبقة التى ليست بهذا الثراء الفاحش)، ففى الحقيقة أن هناك فرقا كبيرا بين دافعى الضرائب الذين يحصلون على دخل مكون من ستة أرقام سنويا وأولئك الذى يحققون دخولا من سبعة أو ثمانية أرقام سنويا.
يصبح الأمر أكثر قبولا، أيضا، عندما تفكر فى أن عديدا من اقتراحات تعزيز الإصلاح الضريبى والعائدات الضريبية التى ثار حولها لغط، من المحتمل أن تزيد الضرائب بشكل كبير على أصحاب الدخول التى تتراوح ما بين الـ100 ألف والـ400 ألف دولار سنويا، مما يعنى أن إعفاء هذه الفئة التى تقترب من الثراء هذه المرة، لا يعنى أنها لن تدفع مزيدا من الضرائب.
مما يثير الأسى بالنسبة إلى الليبراليين، أن الجدل الضريبى ليس بهذه السهولة، لأنه يدخل فى سياق العجز الهائل المتوقع حدوثه مستقبلا بالإضافة إلى دولة «الرفاه الاجتماعى» (مصطلح يعنى أن الدولة تلعب الدور الأساسى فى حماية وتوفير الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية)، التى تبدو غير مستدائمة من دون زيادات كبيرة فى العائدات. وبالنظر إلى تلك الحقائق؛ فإن التقدمية والإنصاف هما بالضرورة أقل أهمية من بضعة آلاف قليلة من الدولارات، واليسار الأمريكى فى الواقع لديه حافز على المدى الطويل لجعل قانون الضرائب الفيدرالى أقل تقدمية، لأن وجود قاعدة أوسع هى الوحيدة القادرة على البناء الليبرالى على المدى الطويل.
وهنا أعتقد أن الليبراليين لديهم سبب حقيقى للشعور بالإحباط تجاه استعداد البيت الأبيض -والأهم من ذلك، رغبة العديد من الشيوخ الديمقراطيين- فى المساومة فى ما يتعلق بالزيادات الضريبية على الطبقة فوق المتوسطة. ويبدو أن الخبراء الليبراليين أكثر قلقا من إشارات التنازلات تلك بالنسبة إلى الجولة القادمة من المفاوضات -فى ما يتعلق بالخفض العام للإنفاق وسقف الديون- ولكننى لو كنت مكانهم سأكون أكثر قلقا حول المدى الأطول، بشأن ما يشير إليه ذلك بشأن استعداد حزبهم وقدرته على رفع معدلات الضرائب لأى شخص ليس بهذا الثراء الفاحش.
وكما اقترحت من قبل، فإن تلك المفاوضات تعد اختبارا لقدرة الليبراليين على رفع الإيرادات، إذا كان الرئيس الديمقراطى الذى أعيد انتخابه لا يمكنه حشد الإرادة السياسية ورأس المال المطلوب للقيام بشىء ما مثل رفع الضرائب على جزء صغير من الأمريكيين، فكيف يتمكن الديمقراطيون من أن يتوقعوا دفع الضرائب إلى مستوى أعلى، من شأنه أن يضمن استمرارية البرامج العامة الحالية على المدى البعيد؟
ردا على هذه الحُجة فى الأسبوع الماضى، قال الجمهورى الجديد نعوم شيبير إن الديمقراطيين يمكنهم استيعاب الأمر اليوم، لأن زيادة الضرائب ستكون مثيرة للجدل على المدى الطويل، فإنها ستثبت أنها أكثر شعبية وستحظى بقبول سياسى عن تخفيضات الاستحقاق.
الاتفاق على أن صفقة العام الجديد لا تبشر بالخير بالنسبة إلى رؤية الليبراليين للحكم، لا يقتضى بالضرورة الاعتقاد بأن رؤية بول رايان للحكم قابلة للانتصار. وهنا أنا أتفق مع شيبر: لأن الضمان الاجتماعى والرعاية الصحية من الأمور المهمة للغاية، فإن المسار الذى يطرحه اليمين نحو تحقيق الاستدامة المالية، لديه جو من الخيال بشأن ذلك. ولكن بالنظر إلى الأدلة التى تؤكد استعداد كل من البيت الأبيض والديمقراطيين فى مجلس الشيوخ لتقديم تنازلات هذا الأسبوع، فإن المسار الذى يقترحه اليسار للحصول على السيولة المالية، غير مقنع فى الوقت الحالى كذلك.
الضمان الاجتماعى: أسوأ مما تظن
جارى كينج وسمير إس. سانيجى
ترجمة: أحمد هاشم
مرر الرئيس باراك أوباما والكونجرس تدابير مؤقتة متواضعة نسبيا لتفادى «الهاوية المالية»، لكن على مدى السنوات القادمة، الولايات المتحدة ستواجه هاوية أخرى خطيرة: الضمان الاجتماعى.
فى المناظرة الرئاسية الأولى، وصف أوباما الضمان الاجتماعى بأنه «سليم من الناحية الهيكلية» وقال ميت رومنى «لا الرئيس، ولا أنا نقترح أى تغييرات» على البرنامج. تلك كانت إحدى القضايا النادرة التى اتفق عليها كلا الرجلين- وكلاهما كان مخطئا تماما.
للمرة الأولى خلال أكثر من ربع قرن من الزمان، عانى الضمان الاجتماعى عجزا فى الموازنة عام 2010: أنفق 49 مليار دولار إضافية من الفوائد أكثر من الإيرادات التى تلقاها، وسحب من صناديقه الاستئمانية لتغطية العجز. هذه الأموال -صندوق احتياطى بقيمة 2.7 تريليون دولار أسس تحسبا لمواليد الخمسينيات المتقاعدين- ستكون قد استنفدت بحلول عام 2033 كما تتوقع الحكومة.
تلك الحقائق معروفة على نطاق واسع. وما ليس معروفا هو أن إدارة الضمان الاجتماعى تقلل من تقديراتها لعمر الأمريكيين وكم ستحتاج الصناديق الاستئمانية لإنفاقه -لتصل قيمتها إلى 800 مليار دولار بحلول عام 2031، أى أكثر من ميزانية الدفاع السنوية الحالية- وأن الصناديق الاستئمانية ستفلس، إذا لم يتم عمل شىء، عامين مبكرا عن ما قد توقعته الحكومة.
توصلنا إلى هذه الاستنتاجات، وطرحناها فى مقال نشر فى دورية «علم السكان»، بعد أن اكتشفنا أن طرق الحكومة للتنبؤ بطول عمر الأمريكيين كانت قديمة وأغفلت العوامل الصحية والديموجرافية الأساسية؛ الانخفاض التاريخى فى التدخين وتطوير الوقاية والعلاج من أمراض القلب والشرايين تضيف سنوات من العمر لم تضعها الحكومة فى الحسبان. (بينما تزيد معدلات السمنة بسرعة، فإنه ليس من المرجح، فى هذه المرحلة، تعويض نجاحات الصحة العامة والطبية تلك) المزيد من المتقاعدين سيحصلون على إعانات لفترة أطول مما كان متوقعا، بدعم من الضرائب المفروضة على رواتب الموظفين لعدد أقل نسبيا مما كان متوقعا من البالغين العاملين.
على نحو لافت، منذ إنشاء الضمان الاجتماعى عام 1935، تغيرت أساليب تنبؤ الحكومة بالكاد، حتى مع تغيير ثورة البيانات الكبيرة والإحصاءات كل شىء بداية من البيسبول إلى تجارة التجزئة.
ويمكن تفسير هذا الإغفال بحقيقة أن مكتب رئيس الاكتواريين (محاسب إحصائى خبير بشؤون التأمين)، أحد فروع إدارة الضمان الاجتماعى المسؤولة عن التوقعات، يتألف بشكل حصرى تقريبا من خبراء اكتواريين دون أى تمثيل حقيقى للإحصائيين أو خبراء العلوم الاجتماعية. وفى حين أن هؤلاء الاكتواريين مسؤولون للغاية وحريصون ويقومون بعمل رائع يعالجون ويصفون البيانات التى تدخل فى التوقعات، فإن مهمتهم ليست إجراء التنبؤات الإحصائية. إلا أن الوكالة فى حاجة ماسة لمثل هذه الخبرة.
بمساعدة كبيرة من الخبراء الاكتواريين وغيرهم من المسؤولين فى إدارة الضمان الاجتماعى، اكتشفنا كيف تقوم الوكالة بتوقعات الوفيات وتستخدمها للتنبؤ بالسيولة المالية للبرنامج. اكتشفنا أن الأساليب عتيقة، وغير موضوعية ومعقدة دون داع ونتيجة لذلك، فإنها عرضة للخطأ والتدخل المحتمل من السياسيين المعينين. هذا قد يفسر لماذا تغيرت توقعات الوكالة، فى بعض الأحيان، بشكل ملحوظ من سنة إلى أخرى، حتى عندما كان هناك تغيير طفيف فى البيانات الأساسية.
النتائج التى توصلنا إليها تتجاوز العلوم الاجتماعية. بينما تستمر موجة التقاعد لمواليد الخمسينيات، عدم القيام بشىء لدعم السيولة المالية للضمان الاجتماعى أمر غير مسؤول. إذا كانت المبالغ المالية التى تأتى من الضرائب المفروضة على الرواتب لا تزيد، وإذا كانت المبلغ المالية التى تخرج كفوائد لا تزال هى ذاتها، ستفلس الصناديق الاستئمانية خلال أقل من 20 عاما من الآن.
لإنقاذ الضمان الاجتماعى، الذى انتشل أجيالا من كبار السن من الفقر، يجب إجراء خيارات صعبة؛ أحدها مواصلة رفع سن التقاعد، ربما لتصل إلى 69 أو 70 عاما. بينما تتزايد سن التقاعد الكامل تدريجيا إلى 67 (للأشخاص الذين ولدوا عام 1960 أو فى وقت لاحق) من 65 عاما، هذه الزيادة ليست كافية لموازنة مكاسب طول العمر.
الخيار الثانى هو زيادة الضرائب المفروضة على الرواتب، على سبيل المثال عن طريق فرض ضرائب على الأجور التى تزيد على 113.700 ألف دولار، حد الأرباح الحالية. والثالث هو الحد من تعديلات تكلفة المعيشة السنوية، ربما من خلال تغيير كيفية حساب تلك التعديلات. الخيار الرابع هو الحد من الفوائد على سبيل المثال، عن طريق خفض الفوائد الأولية للعمال الذين يتقاضون أجورا طيلة حياتهم أعلى من المتوسط الوطنى (43 ألف دولار سنويا حاليا).
نحن نعرف أكثر عن الوفيات الآن، وعلم إحصاءات السكان، ولذلك فإن مناقشة مفتوحة اليوم حول مستقبل الضمان الاجتماعى، يمكن أن تكون أكثر إثمارًا مما كانت عليه آنذاك. المستويات العالية من الصراع الحزبى لا تجعل الحاضر يبدو وكأنه أفضل وقت للتوصل إلى اتفاق بين الحزبين. ولكن بعض القضايا أكثر أهمية لمزيد من الأمريكيين، من كلا الحزبين، طالما تجاهلنا المشكلة، سيكون أى تغيير مطلوب للحفاظ على الضمان الاجتماعى أكثر تشويشا.
صراع الصين واليابان لا يعرف معنى «المصالح الوطنية»
أود آرنى ويستاد
ترجمة: إبتهال فؤاد
تشعر اليابان بالخوف من صعود الصين الاقتصادى؛ وذلك لأن الاقتصاد الصينى أصبح أكثر ديناميكية من الاقتصاد اليابانى. وكذلك تشعر الصين بالقلق من اليابان؛ حيث تبدو دولة الجزر وكأنها حاملة طائرات أمريكية غير قابلة للغرق راسخة قبالة السواحل الصينية. الصينيون نسبيا من الشباب، فقراء ودائمى الحركة ولديهم التزام شديد بالنمو الاقتصادى. واليابانيون نسبيا من كبار السن القادرين على تلبية احتياجاتهم، وأكثر تقدما فى مجال التكنولوجيا، المكرسة من أجل الحفاظ على مستوى معيشتهم المرتفع. ويبدو أن قرب كلا البلدين المكانى يجعلهما قادرين على نحو مثالى للاستفادة من بعضهم البعض.
خلال العام الماضى، خاض القوميون فى كلا البلدين حربًا كلامية حول الجزر المتنازع عليها جزر «دياويو» كما تسميها الصين أو «سينكاكو» حسب التسمية اليابانية. ودعا شينزو آبى، رئيس الوزراء اليابانى اليمينى الجديد، القادة الصينيين إلى إعادة النظر فى التزامهم بالسلمية المنصوص عليها فى الدستور الأمريكى الذى تم فرضه بعد الحرب، وجعل المناهج الدراسية أكثر وطنية.
استمر شبح التاريخ فى مطاردة العلاقات بين البلدين. بدأت الحرب العالمية الثانية فى آسيا عام 1937 باعتبارها حربا بين الصين واليابان، وقتل الملايين من الصينيين نتيجة التوسع اليابانى. لكن لا يفسر هذا سبب أن الشباب فى الصين واليابان اليوم أكثر عداوة فى وجهات نظرهم عن بعض أسلافهم بعد الحرب مباشرة.
يكمن التفسير الحقيقى فى العودة إلى الماضى. عندما نمت اليابان فى أواخر القرن الـ19 الأمر الذى اعتبرته الصين إهانة لها، لشعورها الدائم بحقها فى عباءة الزعامة الإقليمية. تلك الأفكار التى اعتمدها الزعيم الصينى ماو تسى تونج وغيره من مؤسسى الحزب الشيوعى الصينى وتركها لمن جاء بعده.
إن معظم الصينيين فى الوقت الراهن يعتبرون أن الثروة اليابانية ومكانتها باعتبارها الحليف الرئيسى لأمريكا فى آسيا هو نتيجة لمكاسب غير مشروعة. حتى فى الوقت الذى كانت فيه الصين فى أضعف حالاتها فى أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20. وشعرت النخب أن ثقافة الصين الكونفوشيوسية (هى مجموعة من المعتقدات والمبادئ فى الفلسفة الصينية، تم تطورت عن طريق تعاليم كونفيشيوس وأتباعه، وتتمحور فى مجملها حول الأخلاق والآداب، طريقة إدارة الحكم والعلاقات الاجتماعية) تم تصديرها للدول الرئيسية المجاورة لها -كوريا واليابان-. وكان يفترض بالبلدان الأخرى التى تقع فى «المنطقة الكونفوشيوسية» أن تقبل ببساطة بالقيادة الصينية الشعبية.
خطايا الإغفال اليابانية فى التعامل مع ماضيها بالكامل تعوق سياستها الخارجية الحالية، لكنها تتضاءل بالمقارنة مع شعور الصين التاريخى باستحقاقها للهيمنة الإقليمية وشكلها الجديد الذى تقره الدولة القومية المناهضة لليابان، وللأسف، فإن هذه المواقف «الشوفينية» -المغالاة فى التعصب الوطنى- من غير المرجح أن تتغير فى ظل القيادة الجديدة الشيوعية التى تشكلت فى نوفمبر الماضى.
لدى الصين اليوم الكثير لتكسبه من تعاونها مع اليابان بصورة أكثر من انخراطهما فى صراع لا طائل منه. وأن الإصرار على تذكر أخطاء الماضى وتأجيج النزاع حول الجزر لن يصب فى مصلحتهما، وإذا أرادت الصين أن تصبح القوة المهيمنة فى المنطقة فعليها أن تفعل هذا مع اليابان، وليس ضدها.
وكما أثبتت فرنسا وألمانيا أنهما يمكن أن تغييرا الأفكار عندما تتطلب المصالح الوطنية ذلك. لكن تحول تفكير بكين من التدرج الهرمى إلى التعاون يتطلب قيادة قوية وفهم دقيق للمصالح الوطنية. ولكن لا يمكن أن نستوحى الكثير من الأمل من القادة الصينيين الحاليين.
حكم الأقلية المتعفن فى اليونان
كوستاس فاكسيفانيس
ترجمة: سارة حسين
الديمقراطية تشبه الدراجة: إذا لم تواصل التبديل، ستسقط. لسوء الحظ، دراجة الديمقراطية اليونانية مكسورة منذ فترة طويلة. بعد انهيار المجلس العسكرى فى 1974، خلقت اليونان مجرد شكل هجين مائع من الديمقراطية. يمكنك التصويت، والانتماء إلى حزب، والاحتجاج. مع هذا وبصفة أساسية، تمارس مجموعة صغيرة فقط كل القوة السياسية الجادة.
رغم كل ما قيل عن الأزمة اليونانية، هناك كثير من الأمور المتروكة دون الحديث عنها. أصبحت الأزمة ساحة معركة للمصالح والأيديولوجيات. وما هو فى خطر، دور القطاع العام ودولة الرفاهية. نعم، لدينا فى اليونان قطاع عام مختل؛ وعلى مدار 40 عاما تسلم الأحزاب الحاكمة الوظائف الحكومية إلى مؤيديهم، بغض النظر عن مؤهلاتهم.
لكن المشكلة الحقيقية مع القطاع العام هى النخبة الصغيرة من رجال الأعمال المدعومين من قبل الدولة اليونانية، ويطلقون على أنفسهم «رواد أعمال». يدفعون الرشاوى للسياسيين من أجل الحصول على عقود حكومية ضخمة، عادة بأسعار مبالغة. يملكون أيضا كثيرا من الوسائل الإعلامية الحكومية، ومن ثم ضمان بقاء تصرفاتهم طى الكتمان. فى بعض الأوقات، يمكن حتى أن يشتروا فريق كرة قدم للفوز بالدعم الشعبى وحجب جرائمهم وراء الحماية الشعبية، كما فعل أمير المخدرات بابلو إسكوبار فى كولومبيا، وفعل الزعيم البرلمانى أركان فى صربيا.
فى 2011، أصدر إيفانجيلوس فينيزيلوس، وكان حينها وزيرا للمالية وهو الآن زعيم الحزب الاشتراكى «الباسوك»، قانون ضرائب على الملكيات الجديدة. لكن كان يتم تقليل الضرائب على الملكيات التى يزيد حجمها على ألفى متر مربع، بنسبة 60%. من ثم اقتطع إيفانجيلوس إعفاء كبيرا للأشخاص الوحيدين القادرين على دفع الضرائب: الأثرياء. (إيفانجيلوس هو أيضا المسؤول عن القانون الذى يمنح حصانة هائلة للوزراء).
استمرت هذه الخدع لعقود. وحرم العامة من معرفة المعلومات الحقيقية، حيث تتحكم النخبة الاقتصادية والسياسية فى المحطات التليفزيونية والصحف ومواقع الإنترنت الإخبارية.
تضمنت فضيحة أخرى أيضا ما يعرف بقائمة لاجارد. فى 2010، منحت كريستين لاجارد، وكانت حينها وزيرة المالية الفرنسية (وهى الآن مديرة صندوق النقد الدولى)، الحكومة اليونانية قائمة تضم تقريبا ألفى مواطن يونانى لديهم حسابات فى بنوك سويسرية، لتساعد فى كشف التهرب الضريبى.
عمليا، لم يفعل المسؤولون اليونانيون شيئا بالقائمة؛ حتى إن وزيرى المالية السابقين، جورج باباكونستانتينو وخليفته فينيزيلوس، أخبرا البرلمان بأنهما لم يكونا يعرفان أين هذه القائمة. فى هذه الأثناء، اتهم عديد من الوسائل الإعلامية زورا بعض السياسيين ورجال الأعمال البارزين بأنهم مدرجون ضمن هذه القائمة لإخفاء الحقيقة القبيحة: الأثرياء هم من كانوا يتهربون من الضرائب، فى حين كان المواطنون اليائسون يبحثون عن الطعام فى القمامة.
فى أكتوبر عندما نشرت القائمة فى مجلة «هوت دوك»، التى أعمل محررا فيها، تم إلقاء القبض علىّ واتهامى بانتهاك الخصوصية الشخصية، لكننى حصلت على البراءة. النتيجة لم ترق لهؤلاء الأشخاص فى السلطة، لذا تم إحضارى لمحاكمة ثانية (الموعد لم يحدد بعد) على خلفية نفس المزاعم الغامضة. طوال العملية الكاملة -نشر القائمة وإلقاء القبض علىّ وتبرئتى- كان الإعلام اليونانى غائبا. كانت القضية خبرا مهما فى الصحافة الدولية، لكن لم تكن كذلك فى البلد الذى وقعت فيه.
السبب كان بسيطا. قائمة لاجارد تورط مجموعة فاسدة تتحدث باسم الديمقراطية رغم أنها تتجاهلها عرضا: مسؤولون أصحاب شركات أجنبية، أصدقاء وأقارب لوزراء الحكومة، مصرفيون، وناشرون، وهؤلاء المتورطون فى السوق السوداء. بعد ما أطلقت مجلتى القائمة، لم تلق الحكومة اليونانية ولو حتى بيانا واحدا حول القضية.
عندما غادر فينيزيلوس وزارة المالية فى مارس، فشل فى تمرير الـ«سى دى» الذى يتضمن القائمة إلى خليفته، أخذه معه. فقط عندما أخبر خليفته يانيس ستورناراس صحيفة «ذا فاينانشيال تايمز» فى أكتوبر، أنه لم يتسلم أبدا القائمة التى لم يسلمها فينيزيلوس إلى مكتب رئيس الوزراء. لم يتم سؤاله أبدا عن التأجيل، ولم يشر قادة الأحزاب الثلاثة فى الائتلاف الحكومى إلى سير تحقيق لجنة تحقيق البرلمان معه.
فى غضون ذلك، أوضحت نسخة جديدة من القائمة أن أحدهم أزال من القائمة أسماء ثلاثة من أقارب باباكونستانتينو، الذى كان وزيرا للمالية من 2009 إلى 2011، قبل فينيزيلوس. الشهر الماضى، تم طرد باباكونستانتينو من حزب الباسوك. وهو يخضع الآن لتحقيق برلمانى، وربما يتم رفع الحصانة عنه باعتباره وزيرا سابقا، حيث يواجه اتهامات بالتلاعب بالبيانات. على ما يبدو أنه سيصبح إفجينيا جديدة (فتاة قدمها والدها قربانا للآلهة فى الأساطير الإغريقية) وكبش الفداء الجديد حتى يتمكن النظام السياسى الفاسد من البقاء حيا.
يتكشف كل هذا فى وقت تسير فيه اليونان على حبل مشدود فوق هاوية الإفلاس، وبينما تفرض الحكومة الائتلافية ضرائب جديدة على الطبقات الدنيا. نصف الشباب اليونانى عاطل عن العمل. الاقتصاد يتقلص عند معدل سنوى 6.9%. الشعب يستجدى من أجل الطعام. حزب النازيين الجدد «جولدن داون»، فى صعود، مستغلا مشاعر الاستياء والغضب تجاه الطبقة الحاكمة.
يجب أن يركب الشعب اليونانى على دراجة الديمقراطية مرة أخرى، من خلال مطالبتهم بإنهاء الخداع والفساد. يحتاج الصحفيون إلى مقاومة التلاعب وإعادة اكتشاف مهامهم الصحفية. وينبغى على الحكومة إحياء التراث الديمقراطى القديم، بدلا من قتل الرسول.
رعب الاغتصاب فى الهند
سونيا فاليرو
ترجمة: سارة حسين
عشت 24 عاما فى نيودلهى، مدينة يعتبر التحرش الجنسى فيها حدثا منتظما كأوقات تناول وجبات الطعام. يوميا، فى مكان ما من المدينة، يتجاوز هذا التحرش الحد حتى يصل إلى الاغتصاب.
فى سن المُراهقة، تعلمت كيف أحمى نفسى. لم أقف بمفردى قط، ما لم أضطر إلى ذلك، كنت أسير بسرعة، وأضع ذراعىّ بطريقة متداخلة حول صدرى، وأرفض تبادل النظرات أو الابتسام. كنت أخترق الحشود بكتفى أولا، وأتجنب مغادرة المنزل بعد حلول الظلام إلا فى سيارة خاصة. وفى المرحلة العمرية التى تمر فيها الفتيات فى أماكن أخرى، حيث كانت الفتيات الصغيرات تجربن صيحات جريئة جديدة من المظهر، كنت أرتدى ملابس أكبر من قياسى مرتين. لا أزال عاجزة عن ارتداء ملابس جذابة دون الشعور بأننى أعرض نفسى للخطر. الأمور لم تتغير عندما أصبحت بالغة. لم يكن رذاذ الفلفل متوفرا، وكانت صديقاتى -ومعظمهن من الطبقتين المتوسطة والعليا مثلى- تحملن دبابيس الأمان أو أسلحة بديلة أخرى فى طريقهن من وإلى الجامعة والعمل. إحداهن كانت تحمل سكينا، وأنا عزمت على القيام بالأمر ذاته. رفضت؛ بالرغم من أننى فى بعض الأيام كنت أشتاط غضبا وكنت لا أستخدمها، أو فى أسوأ الظروف كنت لا أستخدمها ضد نفسى. استمر الوقع الثابت للصفارات، والصيحات، والهمسات، والتلميحات الجنسية، والتهديدات الصريحة. كانت طريقة تواصل مجموعات من الرجال هى التلكؤ فى الشوارع، ودندنة أغنيات أفلام هندية، مليئة بالكلمات ذات المعانى المزدوجة. وليجعلوا مطالبهم واضحة، كانوا يميلون بنصفهم الأسفل نحو المارات. عدم الأمان لا يقتصر فقط على الأماكن العامة. فى مكتبى بمجلة إخبارية بارزة، وفى عيادة طبيب، حتى فى الحفلات المنزلية، لم أتمكن من الهروب من الترهيب.
فى السادس عشر من ديسمبر الماضى، كما يعرف العالم الآن، كانت فتاة تبلغ من العمر 23 عاما وصديقها فى طريقهما إلى المنزل بعد مشاهدة فيلم «لايف أوف بى» فى مركز تسوق بجنوب غرب دلهى. بعد ركوبهما على متن ما بدت أنها حافلة لنقل الركاب، قام الرجال الستة الذين كانوا بالحافلة باغتصاب الفتاة بالتناوب وعذبوها بوحشية لدرجة تهتك أمعائها. كانت خدمة الحافلة خدعة. قام المعتدون أيضا بضرب صديق الفتاة بوحشية وألقوا بهما من السيارة، تاركين الفتاة للموت. الشابة لم تجبر. بدأت تلك الليلة بمشاهدة فيلم حول ناج من حادث، وكان يجب عليها أن تكون عازمة على النجاة بنفسها. ثم تسببت فى معجزة أخرى. فى دلهى، المدينة التى اعتادت على إهانة النساء، خرج عشرات الآلاف فى الشوارع وواجهوا ضباط الشرطة، والغازات المسيلة للدموع، وخراطيم المياه، للتعبير عن غضبهم. لقد كانت أكثر الاحتجاجات صراحة ضد الاعتداء الجنسى والاغتصاب فى الهند حتى الآن، كما أنها تسببت فى اندلاع مظاهرات أخرى فى أنحاء البلاد.
لدى الهند قوانين ضد الاغتصاب؛ وهناك مقاعد مخصصة للسيدات فى الحافلات، هناك ضابطات شرطة؛ خطوط هاتفية خاصة تابعة للشرطة. لكن هذه الإجراءات لم تكن فعالة فى مواجهة ثقافة الذكورية وكراهية النساء. إنها ثقافة تؤمن بأن الجانب الأسوأ للاغتصاب هو نجاسة الضحية، التى لن تكون قادرة على العثور على رجل ليتزوجها، وحل ذلك هو أن تتزوج من المغتصب.
التغيير ممكن، لكن يجب على الشرطة توثيق تقارير الاغتصاب والاعتداء الجنسى، وينبغى متابعة التحقيقات وقضايا المحاكم بسرعة وعدم تركها لسنوات. من أصل 600 قضية اغتصاب تم الإبلاغ عنها فى دلهى عام 2012، انتهت واحدة فقط بالإدانة. إذا شعر الضحايا بأنهن سيحصلن على العدالة، ستصبح لديهن رغبة أكبر فى التحدث. إذا خشى المغتصبون المحتملون من عواقب تصرفاتهم، لن يتحسسوا السيدات فى الشوارع ويتمتعوا بحصانة.
حجم الاحتجاجات بين الشعب وفى الإعلام أوضح أن هذا الاعتداء كان نقطة تحول. الحقيقة المرعبة هى أن الفتاة التى تم الاعتداء عليها فى السادس عشر من ديسمبر كانت أكثر حظا من ضحايا الاغتصاب الأخريات. لقد كانت ضمن عدد قليل جدا من هؤلاء الذين يحصلون على أى شىء قريب من العدالة. تم إدخالها المستشفى، وتم تسجيل تصريحاتها، وخلال أيام تم إلقاء القبض على المغتصبين الستة المشتبه بهم، وهم الآن متهمون بالقتل. كفاءة كهذه لم يسمع عنها فى الهند. فى استعادة للأحداث، لم تكن وحشية الاعتداء على الشابة هى التى جعلت مأساتها استثنائية؛ لكن إنه أخيرا أثار اعتداء ما استجابة.
التحرير