الأخبار

كواليس “تعطيش مصر” برعاية تركية – الإسرائيلية

 

151

 

 

عندما استغلت إثيوبيا ثورة 25 يناير لتعلن عن مفاجأتها لمصر والسودان بوضع حجر أساس لأضخم سد فى القارة الأفريقية استغلالاً للوضع السائد فى مصر وقامت فى 2 أبريل 2011 بوضع حجر الأساس، أى بعد نحو 50 يوماً فقط من رحيل مبارك وعمر سليمان، وأخذت تكيل الإساءة للرجلين بعد رحيلهما، ولم تكن لتستطيع ذلك أبداً أثناء وجودهما فى السلطة، فى موقف من إثيوبيا لمحاولة اغتيال فارسين بعد أن ترجلا عن جوادهما وسلما سلاحهما «هذا هو الأول». بعد الفزع المصرى والهرولة إلى إثيوبيا بسبب غياب استراتيجية التعامل مع الأزمات، التى من أهمها أزمات المياه وطلب مصر والسودان تشكيل لجنة دولية للحكم على تداعيات السد على مصر والسودان اشترطت إثيوبيا (استغلالاً للوضع الواهن فى مصر) أن تقر مصر والسودان بأن اللجنة لتقييم «سد تحت الإنشاء» وليس لمشروع إنشاء سد، ولم يكن هناك وقتها أى سد سوى حجر أساس وتكليف من رئيس الوزراء الإثيوبى الراحل لمالك الشركة الإيطالى بإنشاء أكبر سد فى القارة الأفريقية وبكلمتين فقط «كبير وضخم Huge and Great»، وليس تكليفاً واقعياً بأن يكون سداً لتوليد أكبر كم من الكهرباء مثلاً أو أن يكون سداً لتخزين المياه أو سداً للرى ولكن فقط «كبير وضخم» وعدوانى إلى آخر مدى، وهو ما ذكره ممثل الشركة الإيطالية عند سؤاله من اللجنة الفنية عن الغرض من إنشاء السد وأسباب غياب التصميمات والدراسات الخاصة بالسد، وعندما طالبت مصر إثيوبيا بأن تمدها برسومات وتصميمات السد والدراسات التى قامت بها رفضت إثيوبيا الأمر تماماً واشترطت على مصر أن تنضم أولاً إلى اتفاقية عنتيبى وأن تقر بحصص مائية لجميع دول المنابع خصماً من حصة مصر، وأن تقر أيضاً بمبدأ سيادة إثيوبيا المطلقة على الأنهار المشتركة التى تخرج من إثيوبيا إلى نهر النيل وهو ما رفضته مصر «وهذا هو الثانى».

عندما تشكلت اللجنة الدولية لمعاينة سد النهضة الإثيوبى وتكونت من أربعة خبراء دوليين تضم أكبر خبير للسدود فى ألمانيا وخبيرين فى الموارد المائية من إنجلترا وفرنسا ثم خبيراً فى البيئة من جنوب أفريقيا، وينضم إليهم خبيران من كل من مصر والسودان وإثيوبيا، وحدد لها مدة ستة أشهر للنظر فى أمر السد ومدى استيفائه للمتطلبات الدولية لإنشاء سد على نهر مشترك، سوفت إثيوبيا اللجنة فى تسليم الرسومات الإنشائية للسد وما ادعت القيام به من دراسات بيئية واجتماعية – اقتصادية ومائية عن التداعيات المحتملة للسد على دولة المصب، ومر عام كامل دون أن تقدم إثيوبيا شيئاً يذكر للجنة بما اضطر اللجنة إلى أن تعلن للعالم عن التسويف الإثيوبى وبما كان له الأثر على بداية رضوخ إثيوبيا وقيامها مضطرة بتسليم تصميمات ودراسات لا حول لها ولا قوة، وكانت تشترط على أعضاء اللجنة الاطلاع عليها فقط وعدم تصويرها أو الاحتفاظ بنسخة منها أو نقل محتوياتها بأى وسيلة، حتى أنها كانت «تخطفها» من يد الخبراء قبل أن يستكملوا الاطلاع عليها!! وهنا ثار الخبير الألمانى المعروف بانضباطه وصرامته بأن هذا الأمر ليس له مثيل فى العالم!! لأنه لا يدرك أن العقلية الإثيوبية ليس لها مثيل فى العالم، وأنها تظن نفسها قادرة على أن تخدع الألمان وباقى الخبراء الأوروبيين بينما هم يتهكمون من هذه العقليات وطريقتهم فى التفكير العقيمة والمفضوحة، بعد أن تبين للجنة، على وجه اليقين، أن هذا السد بنى على عجل ودون دراسات ولا حتى تصميمات ولا هدف تنموى واضح. وقال الخبير البيئى الجنوب أفريقى إن أقل تداعيات هذا السد ستكون متمثلة فى اختفاء الأسماك النيلية من النهر لمدة خمس سنوات على الأقل، بسبب حجز الطمى وأوراق وغصون الأشجار والمواد العضوية التى تأتى مع تيار النهر لتتغذى وتعيش عليها الأسماك، وأن احتجاز هذه المواد خلف السد الإثيوبى يعنى أولاً موت الأسماك جوعاً وثانياً موته مختنقاً نتيجة لنقص الأكسجين الذائب فى الماء، الذى ستنزفه الميكروبات تماماً لتحليل هذا الكم الهائل من المواد العضوية المحجوزة خلف السد، بما يؤدى إلى نضوب الأكسجين الذائب فى مياه النهر وموت الأسماك، وبالتالى فإن أضراره الاجتماعية ستنتقل إلى الصيادين الذين ينبغى لهم البحث عن عمل جديد بعد القضاء على مهنة الصيد من النيل، يضاف إلى ذلك انبعاثات غازية ونتروجينية وكبريتية هائلة، بسبب تحلل المواد العضوية وأيضاً بسبب ركود المياه فى البحيرة الضخمة بمحتوياتها القابلة للتحلل. وبالمثل أيضاً أكد خبيرا الموارد المائية أن هناك نقصاً حاداً سيحدث فى التدفقات المائية التى تصل إلى مصر، وأن امتلاء السد الإثيوبى فى ثلاث إلى خمس سنوات يعنى حتمية جفاف بحيرة سد ناصر فى مصر ثم حدوث نقص دائم فى حصة مصر من المياه ليس بأقل من 12 مليار متر مكعب سنوياً بعد ذلك، بالإضافة إلى استئثار إثيوبيا بمياه الفيضان كاملة وحرمان مصر والسودان منها، أما فى السنوات العجاف لشح الفيضان فستجنى مصر وحدها تداعيات هذا الجفاف وتنعم إثيوبيا بوفرة مائية، تمكنها من مساومة مصر على بيع المياه إليها فى طريقة غريبة ليس لها مثيل من قبل فى بناء السدود على الأنهار، ليس بغرض إفادة دولة بقدر ماهى الإضرار بدولة أخرى. هنا شعرت إثيوبيا بأنها مدانة لا محالة وأن التقرير يدينها ويصف السد بأنه «سد بنى على عجل وبلا دراسات»، فأصرت على أمرين غاية فى الغرابة ولا أدرى لماذا وافقت عليهما مصر فى تبعية غير مبررة، الطلب الأول أن يبدأ التقرير بعبارة أن السد الإثيوبى بنى على أسس إنشائية سليمة ومتفق مع القواعد العالمية لبناء السدود!!» وهنا ثار العالم الألمانى المنضبط وقال كيف يكون هذا والتصميمات كارثية وناقصة وأمان السد مفقود مع أى فيضان جارف؟! وكان رد الجانب الإثيوبى بأن هذا الأمر يخص الدول الثلاث فقط وأنها ستقنع مصر بقبول هذه الفقرة كشرط لموافقتها على التقرير والتوقيع عليه، وهو للأسف ما وافقت عليه مصر والسودان ورفضه الخبراء الدوليون ولكنهم فى النهاية دار فى عقولهم بأنه أمر يخص الدول الثلاث فقط ونحن نؤدى مهمة ونعود إلى عملنا!! الأمر الثانى هو أن يبقى التقرير سرياً ولا يتم تداوله أو نشره أو حتى مناقشته بين العلميين أو المجتمع المدنى حتى لا يفتضح أمر إثيوبيا بأنها تقيم سداً ثم تقوم بعمل الدراسات لاحقاً فى سابقة عجيبة ليس لها مثيل، وللأسف وافق وللمرة الثانية الجانب المصرى ولم ينشر التقرير أو تم تدويله واعتبره سراً على العامة، ولكن ناقشناه فى لجان علمية برعاية الأمن القومى.

المشروع يهدف لنقل المياه عبر خطين يبدآن من تركيا عبر سوريا والأردن وإسرائيل والعراق والكويت ويصبان فى السعودية وعمان.. والخط الأول «الغربى» ينقل 3.5 مليون متر مكعب

تجمدت المفاوضات فترة كبيرة بعد ذلك، بسبب محاولة مصر إقناع الجانب الإثيوبى باستبدال سدها الضخم وغير المبرر بسدين صغيرين بسعة 14.5 مليار متر مكعب من المياه لكل سد، ويعطيان كمية من الكهرباء أكبر مما يعطيها السد الضخم الحالى بسعة 74.5 مليار متر مكعب، وإثيوبيا ترفض بعدوانية، لأن الغرض ليس توليد الكهرباء ولا بيعها ولا محاربة الفقر ولكن الغرض تخزين المياه والاتجار فيها، والأهم من المياه هو إضعاف مصر والتحكم فى مقدراتها عن طريق إقامة سدود هى فى حقيقتها صنابير للمياه تفتح وتغلق بإرادة الفئة الحاكمة فى إثيوبيا وليس بإذن الله واهب المياه وخالق مصر وإثيوبيا، وتعديل لخلق الله فى طبيعة تدفقات النهر وتعديل لاسم النيل الأزرق الذى أطلقوا عليه فى لغتهم «نهر الأباى» أى النهر الخائن، لأنه يأخذ مياه إثيوبيا ويذهب إلى مصر فى الشمال، وهم بهذا لا يقرون بأن الله خلقها للدول الثلاث معاً لتعيش عليها فى سلام!

استمر هذا التجمد فى المفاوضات حتى بعد الانتخابات الرئاسية وتولى الرئيس عبدالفتاح السيسى مسئولية البلاد بخلفيته العسكرية القوية المشابهة لخلفية مبارك والسادات وناصر وهو ما تعمل إثيوبيا حسابه تماماً، وتقابل «السيسى» مع رئيس الوزراء الإثيوبى فى اجتماع القمة الأفريقية فى ملابو واتفقا على سرعة استئناف المفاوضات المجمدة بفكر جديد، تعم فيه المنفعة المتبادلة على الجميع، وأبلغ «السيسى» رئيس الوزراء الإثيوبى أن مصر مع التنمية فى إثيوبيا ولكن على إثيوبيا أن تدرك أنه إذا كانت مياه النيل الأزرق تمثل مورداً للتنمية فى إثيوبيا فهى تمثل شريان الحياة للشعب المصرى، وأنها لن تكون مجالاً للغدر بمصر أبداً!

استؤنفت المفاوضات فى الشهر التالى مباشرة بدعوة من القاهرة، إلا أن إثيوبيا رفضتها وطلبت أن يتم نقل الاجتماع إلى الخرطوم كدولة محايدة!! وهى تعلم أن السودان لم يعد بلداً محايداً بعد أن أعلن الرئيس السودانى عمر البشير تأييد السودان المطلق لسد النهضة واستقباله لرئيس الوزراء الإثيوبى فى الخرطوم عدة مرات وتصريحاته للشعب السودانى بأن مصلحة السودان أصبحت مع إثيوبيا وليست مع مصر، ولا شك أن للسودان مصلحة أكيدة فى إضعاف مصر لا تقل عن الرغبة الإثيوبية والإحساس بتساوى المكانة بينها وبين مصر!! المهم أن مصر رضخت أو «كبّرت دماغها» ووافقت على نقل الاجتماع إلى الخرطوم حتى لا تعطى فرصة للجانب الإثيوبى لاستمرار توقف المفاوضات بينما العمل فى السد يجرى على قدم وساق، وأن تركيا وقطر وإيران تدعم فى السر أو فى العلن تقدم البناء فى سد النهضة لإضعاف مصر وتعطيل مسيرتها التنموية لكى يحتفظوا بمكانتهم كقوة إقليمية أولى فى الشرق الأوسط وأفريقيا.

فى شهر أغسطس 2014 وقعت البلدان الثلاثة اتفاقاً باللجوء إلى مكتب استشارى دولى يقوم بفحص ما قامت به إثيوبيا من دراسات أدانتها فيها اللجنة الدولية السابقة فيما يخص التداعيات البيئية والاجتماعية والاقتصادية والمائية لسدها على دولتى المصب واشترطت بالإعلان عن كونه ليس مكتباً تحكيمياً أو ملزماً ولكن ينبغى فقط يتم التعامل مع توصياته باحترام!!! بشأن ما إذا كانت الدراسات الإثيوبية كافية أو منقوصة أو خاطئة لأنه من الوارد طبعاً أن تكون الدراسات التى أجرتها إثيوبيا متحيزة لصالحها القومى وتحتوى على العديد من المغالطات أو تتجاهل أسساً علمية أو لم تقم بدراسات معينة مفترض أن تتمها أولاً قبل بناء السد، ولكن بالنسبة لإثيوبيا فلا بأس بهذا الأمر فإذا ما أشار المكتب الاستشارى بأن الدراسات ناقصة وغير مكتملة فإنها ستطلب وقتاً إضافياً لاستكمال ملاحظات المكتب الاستشارى قد تستغرق عاماً أو عامين وتكون بعدها هذه الدراسات بلا جدوى طالما أن مصر مستسلمة للتسويف الإثيوبى ولم تكشر عن أنيابها مرة واحدة بل دوماً ما تستسلم لشروط الجانب الإثيوبى، بالإضافة إلى أن التوصيات استشارية وليست ملزمة، وبالتالى فلا شىء يلزم إثيوبيا بالأخذ بها، وإذا ما لجأت مصر إلى تدويل القضية بعد ذلك فسيكون الوقت متأخراً جداً وسيستغرق عاماً أو أكثر يكون السد أصبح أمراً واقعاً، ويكون التفاوض بعد ذلك على باقى سلسلة السدود المزمع إقامتها بعد سد النهضة لتخفيف حجم الإطماء الكبير والبالغ 136.5 مليون طن سنوياً على سد النهضة لكى يحتجز كل سد من السدود الأربعة التالية كماً من هذا الطمى فيطيل عمر السد إلى 200 سنة بدلاً من خمسين سنة فقط بالمعدلات الحالية بدون السدود الإجبارية.

تركيا تواجه أزمة مياه حادة بسبب اشتعال الحروب حول سدود «مشروع الجاب» الذى يضم 24 سداً أكبرها «أتاتورك العظيم»

لم يمضِ شهران على هذا الاتفاق وإذا بالجانب الإثيوبى يجمد المفاوضات بعد ثلاث جلسات فقط (أغسطس وسبتمبر وأكتوبر) كان آخرها فى شهر أكتوبر فى القاهرة والتى قرر فيها وزير الرى الإثيوبى أن يهاجمنا فى عقر دارنا فيعلن فى المؤتمر الصحفى فى نهاية اجتماعات الوفود الثلاثة بأن على الشعب المصرى أن يعلم أن المكتب الاستشارى ليس مكتباً تحكيمياً ولا دولياً وأن رأيه استشارى فقط كاسمه وأن عمل هذا المكتب لن يتطرق إلى مواصفات السد الإثيوبى ولا ارتفاعه ولا سعة تخزينه للمياه لأن مثل هذه الأمور يحددها الشعب الإثيوبى فقط ودون غيره، وأن المكتب سيفحص فقط الدراسات التى قامت بها إثيوبيا لطمأنة الشعب المصرى بأنه لن يتعرض لأضرار بالغة (وكرر كلمة بالغة). اشترطت إثيوبيا لاستئناف المفاوضات مع مصر بعد تجميدها لثلاثة أشهر أن تقبل مصر أولاً بأن يمتد عمل المكتب الاستشارى إلى 15 شهراً كاملاً بدلاً مما سبق التوقيع عليه فى الخرطوم بخمسة أشهر فقط فى مؤشر مهم يوضح أن إثيوبيا لم ولن تحترم أبداً حتى ما وقعت عليه من اتفاقيات أو عهود طالما شعرت بأنها فى موقف أقوى وأنها روضت تماماً التلويح بالقوة من مصر بعد أن بالغت كثيراً ومعها عدد من الخبراء المصريين فى أحداث اجتماع قصر الاتحادية وقت حكم الإخوان، بينما نحن نتناسى أن هذا الأمر لا يهم المجتمع الدولى فى كثير أو قليل، فإسرائيل تهدد كل يوم جميع الدول المحيطة وسبق أن وجهت ضربات عسكرية دون مبرر فى تونس والسودان والعراق وغزة وأوغندا ولبنان وسوريا وهددت باكستان وإيران بحجة الأمن القومى، وهو ما ينطبق على مصر التى تعتبر المياه أمنها القومى الأول لأنها دولة تعيش على 5% فقط من مساحة أراضيها تاركة باقى مساحتها دوناً عن إرادتها نهباً لنقص المياه والجفاف، كما أنه ومع الزيادة السكانية ومحدودية مياهها الجوفية وندرة أمطارها لا تستطيع أن تعيش على أقل من هذه المساحة والتى تتطلب زيادة مواردها المائية وليس نقصانها. للمرة الرابعة رضخت مصر ووافق وزير الرى المصرى على تمديد فترة عمل المكتب الاستشارى إلى 15 شهراً وهو أمر غريب للغاية أن تعطى إثيوبيا لنفسها الحق فى تحديد فترة عمل المكتب الاستشارى وليس المكتب الاستشارى نفسه!! إضافة إلى أنه إذا ما اختارت مصر والسودان المكتب الهولندى مثلاً تختار إثيوبيا المكتب الفرنسى الأقل خبرة!! حتى يمكنها خداعه بدراسات صورية أو لمجرد الاختلاف مع مصر ولتعطى فرصة للمناقشات والتسويفات واستهلاك الوقت بشكل تفاوضى، فالوقت فى صالحها والعمل يجرى فى السد والتمويل سيعود لاحقاً وسريعاً والتخطيط التركى لإثيوبيا فى سياسات التفاوض يسير على ما يرام كما سيأتى لاحقاً.

بمجرد استئناف المفاوضات لجلسة واحدة فى فبراير 2015، تلاها فى أوائل شهر مارس اجتماع لوزراء الخارجية والرى فى دول المنابع الشرقية لنهر النيل والتى تضم مصر والسودان وإثيوبيا ومعها إريتريا كمراقب إذا طلبت الحضور، فوجئ الخبراء بالإشارة إلى أنه بعد اجتماعات دامت لثلاثة أيام للوفود الفنية للرى بأن هناك إعلاناً مرتقباً للمبادئ والتوافق حول سد النهضة سيتم رفعه للقيادات السياسية للدول الثلاث للنظر فيه على أن يظل هذا الإعلان سرياً حتى يمكن التوقيع عليه فى احتفالية خاصة تتم فى الخرطوم يوم 23 مارس 2015 وأنه غير مسموح بطرحه للمناقشات المجتمعية أو على مستوى الخبراء رغم أنه يمس الأمن القومى لشعب مصر كله وليس للقيادات السياسية فقط، وأن زمن أن القيادات تعرف أكثر قد ولّى كما ولّى معه زمن «قيادة الشعوب إلى الجنة بالعصا»، ولعل طرح الأمر على مستوى الخبراء كان سيكون أكثر إفادة من السرية والكتمان التى سرت حتى تم توقيع إعلان المبادئ الذى اختلف عليه الخبراء بين أغلبية علمية معارضة وقلة إعلامية غير متخصصة مؤيدة. المعارضون يرون أنه لا وجه للعجلة وللنفس القصير وأن مصر ما زال أمامها الكثير فى تدويل القضية (وهو ما تخشاه إثيوبيا بشدة)، ثم خلق حشد دولى مؤيد لعدالة الموقف المصرى ضد عشوائية بناء السدود فى دول منابع الأنهار وفرضها بسياسة الأمر الواقع على دول المصب مخالفين قوانين الأمم المتحدة للمياه فى مبدأ الإخطار المسبق الذى يضم ثمانية بنود تدين إثيوبيا إدانة تامة، فهى لم تتبع أى بند منها وبنت سداً على نهر مشترك بقرار فردى بعيداً عن شركائها فى النهر، متغافلة عن موافقة الدولة الأهم وهى دولة المصب والتى يعطيها القانون الدولى حصانة خاصة، لأن إعلان المبادئ الخاص بسد النهضة والمشتق من مبادئ منتقاة من القانون الدولى للمياه قد استبعد تماماً من إعلان المبادئ مبدأ الإخطار المسبق ثم وجوب اعتراف إثيوبيا واعتذارها عن عدم اتباعها لمبادئ هذا البند بل وإرغامها لمصر على تقديم الشكر إليها على أنها خالفت هذا الشرط وأقامت سداً بقرار منفرد وبلا دراسات ثم استكملت الدراسات الخاصة بالسد بعد أربع سنوات من وضع حجر بنائه والاستمرار فى بنائه وبالتالى وجب على مصر أن تشكرها على ذلك وبذلك تكون إثيوبيا قد قلبت الإدانة فى عدم اتباع أصول بناء السدود إلى إشادة وشكر من مصر والسودان بل وإثيوبيا نفسها التى شكرت نفسها ولعلها المرة الأولى التى تتضمن فيه اتفاقية إعلان مبادئ بنداً خاصاً لشكر دولة بعينها بعيداً عن كونها مخطئة ومدانة ومتبعة لسياسة فرض الأمر الواقع وتهديد الأمن القومى لدولة المصب.

وإذا انتقلنا للحديث عن حوضى دجلة والفرات فإن تركيا وسوريا والعراق، قد بدأت مشاكل المياه بينهم مبكراً عندما شرعت تركيا فى بناء سد كيبان عام 1964، حيث استطاع وفد تركى إقناع كل من سوريا والعراق بعدم مساس هذا السد بحقوق أى منهما، وبدأت مفاوضات ولقاءات رسمية ولجان استغرقت وقتاً طويلاً، ولم تسفر عن نتائج مرجوة؛ لأن تركيا لا تعترف بشراكة العراق وسوريا لها فى هذه المياه، وإنما تعتبرها مياهاً محلية عابرة للحدود فقط (وليست مياه أنهار دولية وهو ما فرضته إثيوبيا علينا فى إعلان المبادئ)، ولا شىء يفرض عليها أى التزام فى تحديد كمية المياه للدولتين.

أكبر سدود «الجاب» وراء نقص حصة العراق 25 مليار متر مكعب سنوياً وتحول سوريا من دولة مصدرة للقمح إلى مستوردة

تصاعدت حدة الأزمة عام 1985، عندما شرعت تركيا بتنفيذ مشروع الجاب، وهو مشروع تستفيد منه ست مقاطعات تركية تقع فى الجزء الشرقى من البلاد، على الحدود السورية الجنوبية وتحد العراق من الجنوب الشرقى، وتغطى هذه المقاطعات نحو 9.5% من إجمالى مساحة تركيا، ويبلغ عدد سكانها 8.5% من عدد سكان تركيا، ويضم مشروع الجاب 24 سداً أكبرها سد أتاتورك العظيم (لاحظ تشابهه العظيم مع اسم سد النهضة العظيم أيضاً)، وأن الأراضى المزمع ريها من المشروع تعتبر مناطق اضطرابات، حيث يسكنها الأكراد والأرمن وعرب لواء إسكندرونة، وتنظر تركيا لهذا المشروع كأداة لتحقيق الاستقرار السياسى لهذه المنطقة عبر تنميتها، وتعمل تركيا على بناء بنية تحتية (زراعية – صناعية) من شأنها أن تدعم وجود تركيا بقوة على المستوى الإقليمى، وقدرت تكلفة المشروع آنذاك بنحو 31 مليار دولار، وأظهرت تركيا جدية تامة فى استكمال هذا المشروع رغم اعتراض الجانبين السورى والعراقى، وانتهت تركيا من بناء سد أتاتورك أكبر سدود مشروع الجاب والذى تسبب فى نقص حصة العراق بمقدار 25 مليار متر مكعب سنويا بشكل دائم أدى إلى زيادة بوار وتصحر وتملح الأراضى الزراعية فى العراق ونقص إنتاج الحبوب والغذاء من الأراضى الزراعية العراقية والسورية وتحولت سوريا من دولة مصدرة للقمح إلى دولة مستوردة له.

وبالإضافة إلى مشروع الجاب فتركيا لديها مشروع مستقبلى وهو مشروع أنابيب السلام، ولا يزال هذا المشروع يشهد اعتراضات عربية دون تنفيذه، حيث اشترطت سوريا ولبنان انسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها عام 1967، ويهدف المشروع إلى نقل المياه من تركيا عبر خطين أحدهما غربى، يتجه من تركيا إلى سوريا ثم إلى الأردن وإسرائيل وينتهى فى الأراضى السعودية، ويبلغ طوله 2700 كم وينقل حوالى 3.5 مليون متر مكعب من المياه يومياً (1.3 مليار متر مكعب/سنوياً). والخط الثانى الشرقى يتجه من تركيا إلى الأراضى العراقية ثم إلى الكويت فالسعودية وبقية دول الخليج العربى وينتهى فى سلطنة عمان، ويبلغ طوله 3900 كم وينقل حوالى 2.5 مليون متر مكعب من المياه يومياً (مليار متر مكعب/سنوياً). ونظراً لطول هذا الخط فقد اقترح أن يكون له بديل، حيث يتفرع من الخط الأول خط يتجه إلى السعودية وينتهى فى سلطنة عمان كبديل له، وذلك بهدف خفض تكلفة المشروع الاقتصادية.

وقد رأت تركيا فى هذا المشروع بداية عهد جديد لدولتها، لذلك أولته اهتماماً أكبر من بقية المشاريع التى أنشأتها أو فكرت بإنشائها. لقد سعت تركيا من خلال مشروع أنابيب السلام إلى تعزيز دورها الإقليمى فى منطقة الشرق الأوسط، فقد كانت تركيا تعتقد فى تلك الفترة أن إسرائيل تسعى للتوسع على حساب جيرانها العرب من أجل تأمين موارد مائية جديدة، حيث كان يقول الرئيس التركى الأسبق «أوزال»: (إن إسرائيل ستتوقف حتماً عن احتلال المزيد من الأراضى العربية إذا ما توافرت لها المياه اللازمة لتلبية احتياجاتها المختلفة، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال أنابيب السلام)، كما أن بيع المياه التركية لإسرائيل ثم للملكة العربية السعودية والكويت وعُمان سيخلق جواً من التأييد العربى وعدم المعارضة للمشروع، خاصة إذا كان المشروع باسم أنابيب السلام، وهو نفس النهج الذى ستسلكه إثيوبيا فى توصيل خط أنابيب إلى جميع دول الخليج قبل وصوله إلى إسرائيل لتضمن السكوت العربى وعدم المعارضة وعزل مصر عن الدول العربية الخليجية الغنية وربطهم بإثيوبيا بدلاً من مصر!!!.

وقد فشل مشروع أنابيب السلام حتى هذه اللحظة بسبب الاختلاف الكبير بين الدول بشأنه.

من الواضح تماماً تأثر الفكر الإثيوبى بالفكر التركى وسلوكه نفس خطوات تركيا مع سوريا والعراق وهو ما وضح من إصرار إثيوبيا فى إعلان مبادئ سد النهضة على استخدام عبارة النهر العابر للحدود وموافقة المفاوض المصرى بسذاجة على الأمر، كما كان الإصرار واضحاً بأن المفاوضات خاصة بالسد الإثيوبى وإقراره فقط وليس له أى شأن بتقسيم المياه أو الحديث عن حصص مصر والسودان من المياه، ثم سينتهى الأمر بأنابيب السلام لبيع المياه لعُمان والمملكة العربية السعودية والكويت وإسرائيل وغيرها وقد بدأ الأمر فعلاً بالتعاقد مع الكويت على بيع ما يقرب من 300 مليون متر مكعب سنوياً من المياه وفضح الأمر مكتب الوسيط السويسرى سواء كان منفرداً أو بالاتفاق مع الإثيوبيين لتسريب النبأ والإعلان عند دخول عصر بيع المياه والاتجار فيها.

ابحثوا عن الدور التركى وهو الأخطر فى إثيوبيا وادرسوا عدد زيارات المسئولين الأتراك إلى إثيوبيا والزيارات المضادة والإعلان الرسمى لرئيس وزراء تركيا الكاره لمصر بأن جاء إلى إثيوبيا لينقل إليهم الخبرة الإثيوبية فى بناء سد أتاتورك العظيم وكيفية السيطرة على الموارد المائية العابرة للحدود وفرض مبدأ السيادة المطلقة عليها كما تفرضها تركيا على سوريا والعراق وهو النهج الذى تنتهجه حالياً إثيوبيا تماماً، ولكن تركيا تفرضه بقوتها العسكرية على سوريا والعراق، بينما فى نهر النيل فإن ميزان القوة ما زال فى صالح مصر مهما أمدت تركيا إثيوبيا بالسلاح (آخر صفقة سلاح بين تركيا وإثيوبيا تقترب من مليار دولار)، وعلينا أن ندرك تماماً أننا نعيش هذه الأيام عصور السيطرة على المياه العذبة بالقوة العسكرية.

الصورة الآن واضحة تماماً لسيطرة تركيا على منطقة الشرق الأوسط بإضعاف سوريا والعراق بالمياه تارة والحروب تارة ثم تكرار نفس التجربة مع مصر بإضعافها بالمياه أولاً ثم بدعم الإرهاب وإحاطتها بكافة الحدود المصرية فى غزة وليبيا والسودان واستخدام أطماع إثيوبيا فى المياه لخدمة الأطماع التركية فى الشرق الأوسط وخروج مصر من معادلة القوة فى الشرق الأوسط وأفريقيا.

 

 

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى