الأخبار

الطريق إلى باب زويلة

6

 

 

 

عندما خرجت من منزلى القاطن بعطفة الأخضر المتفرعة من شارع باب البحر بحى باب الشعرية.. غُصت فى زحام المناكب.. ضجيج الزحام المتكتل أمام الحوانيت الضيقة.. البائعات افترشن أرض الزقاق بالجرجير والفجل وبعض من أعواد البقدونس والنعناع وقد ألقين ملء كوب من الماء البارد على لفائف الخضرة.. يهتفن على بضائعهن الفقيرة.. دفعنى مملوكى ضخم الجثة يحمل وراء حزامه خنجرًا دقيقًا أفسحت له الطريق مسرعًا.. شدتنى مقاعد الحاج أبو سعادة الذى أعلن أن الغلاء أصاب بن اليمن السعيد فارتفعت أسعار المقهى.. واسألوا أصحاب الضرائب والمكوس والجمارك.. أشار عليه أحدهم بأن يشترى من بورسعيد.. فأومأ معجبًا بالفكرة.

2

عندما جلست فى مقهى الحاج أبو سعادة وطلبت القهوة ذات السعر الجديد مِلت بمقعدى الخيزرانى نحو الأريكة الخشبية التى جلس عليها الكثيرون يشربون الشاى بالنعناع.. وحلبة حصى.. فى حين كان آخرون يدخنون النرجيلة.. سرقت عيناى صورة جمال عبد الناصر.. مكتوبًا تحتها أن الاحتفال بذكرى ميلاده سيتم فى مركز عابدين.. تأملت فى عينيه ونظراته الحزينة.. فسألت عنه.. أجابنى صبى المقهى بأنه لا يعرفه، بل ولا يرى صورته على الحائط.

تقدمت امرأة متسربلة فى ثياب سوداء.. غطت الأرض تدوس عليها.. انحنت قرب أذنى وسألتنى عن باب زويلة.. أجبتها من الذى أتى بك إلى هنا.. جلست على الحصى وأسندت ظهرها إلى جدار المقهى.. أخذت تقص علىّ قصتها منذ مجيئها من قرية الرمالى، حيث تاه ولدها فأخبرها القوم بالبحث عند باب زويلة.. ذكّرتنى بوجه أمى وهدى سلطان.. فأشرت لها نحو الطريق البعيد.. شرحت لها طويلا، لكنها لم تفهم شيئًا.. ألقيت للحاج بالدراهم.. وأخذتها من يدها نحو باب زويلة.

3

عندما ذهبنا- أنا والمرأة- نحو باب زويلة بحثًا عن ابنها..

كانت الأحصنة قد اجتمعت فى الميدان.. وأشار قائد الحرس للعابرين ذهابًا وإيابًا بالتوقف.. والتماس طريق آخر بعيدًا عن الميدان.. توقفت سيارة ضخمة نزل منها عساكر كثيرون يرتدون حُلَلاً بيضاء.. يمسكون هراوات سوداء من معدن مرن.. ويحملون دروعًا سوداء أيضًا.. فى حين انشغل آخرون بتعليق عدة لافتات على الأبنية وفى عرض الشارع.

قبضت على يد المرأة التى أبدت دهشتها من بناء الكوبرى العلوى.. وسألتنى عن كنهه.. فأخبرتها أنه لا وقت للسؤال فى هذه المدينة يا أمى.. سرنا نحو الشوارع الخلفية.. وجدتها أمامى هكذا يلتصق كتفها بكتفى.. صرخت من؟.. منال.. وضعت رأسها على كتفى وهى غير مصدقة للمفاجأة أمسكت حقيبة كتبها، سألتها عن أخبار قصر العينى والطب والمرضى المساكين.. ألحّت علىّ أن أركب معها الحافلة رقم 28 المتجهة لعين الصيرة، أخبرتها أن فى يدى امرأة غريبة.. تبحث عن ابنها.. نظرت منال نحو المرأة.. احتضنتها وأخبرتنى أنها تذكرها بأمها وهدى سلطان.. دعتنا لزجاجتين من المياه الغازية فى مقهى مجاور خلف الميدان.

4

عندما دخلنا- أنا والمرأة ومنال- إلى المقهى لنطلب زجاجات المياه الغازية.. اقترب منا شاب فى مقتبل العمر.. أشار إلى مقاعد ثلاثة وراء مائدة دائرية.. جلسنا، أخذت منال تحدث المرأة التى ظلت تقص حكايتها بنفس التفاصيل عن ابنها وباب زويلة، عبث فى قلبى الشك.. حينما لوّح أحد الجالسين فى المقهى.. التفتُّ فلم أجد غير هذا الرجل الجالس وحيدًا يشرب شايًا ويلعب فى شاربه.. يحرك مبسم النرجيلة شمالاً ويمينًا.. أشار لى ملحًّا.. فتجاهلته.. قام.. اقترب من مائدتنا.. قال بلهجة خشنة السلام عليكم.. أجبناه ملهوفين على معرفة ما وراءه.. صمت لحظة بعدها، جلس بيننا ثم تحدث هامسًا ألا تعرفوننى؟.. أجبناه نفيًا.. ظهرت علامات الحزن والأسى على وجهه.. قال بلهجة أقل خشونة وأكثر حزنًا.. أنا على فهمى زميل أحمد عرابى فى ثورته.. جئت من المنفى منذ أيام.. لم يعرفنى أحد.. قصّ لنا قصة الثورة العرابية من بداياتها.. لكنه لم يكملها حين شك أن أحد الجالسين فى المقهى من أعوان الخديو توفيق.. نهضنا بعد أن أصر على دفع الحساب.. سألنا عن وجهتنا فأخبرناه.. فجاء معنا نحو باب زويلة.

5

عندما خرج على فهمى معنا- أنا والمرأة ومنال- نحو باب زويلة كانت أقمشة غالية الثمن معلقة خلف نوافذ زجاجية حيث وقف شهبندر التجار يراقب عملية البيع.

مناديًا بعض المماليك الواقفين على أبواب الشوارع ومداخل الميادين.. فرغ العمال من تعليق الصور الضخمة على الجدران العالية.. وتساءل على فهمى عن معنى فياجرا المكتوب على تلك العربات الضخمة ذات العجلات السوداء.. أعلنت المرأة رغبتها فى شرب الماء من زير بجوار أحد الدكاكين.. انتفضنا جميعًا حينما أسرعت خيول وعربات حربية نحو الشوارع.. رافعين السيوف والأعلام والبنادق.. جارين المجانيق.. يتقدمها رجل قصير يحيونه جميعًا باسم بونابرت.. اندفعنا إلى طريق جانبى.. ألقينا بأنفسنا جوار مقعد خشبى طويل مخصص لرجل نوبى يرتدى جلبابًا أبيض.. سألناه عن أقرب طريق لباب زويلة.. امتعضت ملامح وجهه الأسود.. بانت أسنانه ناصعة البياض وهو يشير لنا بالطريق الذى نتجنب فيه جيوش بونابرت وإعلانات فياجرا.. أخرج من جلبابه مصحفًا مكتوبًا بخط اليد.. أهداه للمرأة، حيث كان الجزع باديًا على وجهها.. وانصرفنا مسرعين.

6

تساءل الناس فى صباح اليوم التالى عن تلك الرؤوس الأربعة الغريبة المعلقة على باب زويلة منذ ليلة أمس.

“نقلًا عن جريدة التحرير”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى