الأخبار

بدأت العمل في سن السادسة.. ورأس مالي كان 30 قرشا

 

 

66

 

تنفرد “الوطن” بنشر مذكرات رجل الأعمال المصري، محمود العربي، رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات ومصانع “العربي”، الذي ولد بقرية “أبورقبة”، بمركز أشمون بمحافظة المنوفية.

وروى “العربي” بداية مشوار حياته قائلًا: كنا في شهر رمضان، وكنت قد جاوزت الخامسة بقليل، حين فاجأتني رغبة شديدة أن أسعى لكسب رزقي كما يفعل إخوتي أحمد وعلى جويدة، وكذلك شقيقي الأكبر محمد، الذي كان قد سافر للعمل في القاهرة من قبلي، وقلت لأخي علي: “عاوز أشتغل واكسب، زى ما بتعمل انت وأحمد ومحمد”، تعجب “علي” مما قلته، فقد كنت صغير السن للغاية، وليس من المعتاد أن يفكر من هو دون السادسة في العمل والكسب، فسارعت بإكمال كلامي: “أنا وفرت 30 قرش، عاوزك تشترى لى بيهم بلالين وبمب وحرب أطاليا، أحطهم فوق المصطبة اللى قدام بيتنا، وأبيعهم فى العيد!”.

وتابع: استجاب أخي “على” لطلبى، بل وشجعنى عليه حين رأى الإصرار فى عينى، لم أفهم ما الدوافع التى ساقتنى للتفكير بهذه الطريقة، التى لم يكن لها سابقة بين أطفال العائلة! كيف واتتنى الشجاعة أن أواجه أهل القرية، كبارها وأطفالها بهذا الأمر؟! لا أدرى، المهم أننى قد فعلتها، والأهم، أننى ولله الحمد نجحت من المرة الأولى، ومع نهاية العيد زاد رأس المال، فقد ربحت 10 قروش كاملة، حتى أصبح رأسمالي 40 قرشاً، شعرت بسعادة كبيرة ورضا لا يوصف وأنا أبيع الشىء بأكثر من سعره الذى اشتريته به، وأحصل على أرباح. منذ هذا اليوم ترسخت فى عقلى صورة ذهنية محببة عن فكرة التجارة، جعلتنى أرتبط بها عمرى كله، لم أنفق رأسمالى وما زاد عليه من ربح، بل ادخرته كله حتى اقترب عيد الأضحى، فطلبت من أخى “على”، أن يعيد ما فعله أول مرة، ففعل ذلك وهو مسرور، رحمة الله تعالى عليه.

“قول الحق، وماتخافش إلا من اللى خلقك!”.. في هذه الجملة القصيرة، وبذلك التوجيه المركز، تتلخص الثقافة التربوية الفطرية لوالدي إبراهيم العربي، التى كان يبثها فينا ونحن صغار، إنها تحمل البساطة والتلقائية، القائمة على دعائم إيمانية صادقة، المنطلقة من الفطرة الإنسانية السليمة لأهل ريف مصر، كان الصدق والإخلاص والأمانة فى معاملة “إبراهيم العربى” للناس من حوله، تشكل عجلة قيادة بين يدين قويتين، بفضل العمل فى الزراعة، لقد نجحت تلك اليدان فى تسيير سفينتنا الصغيرة نحو بر الأمان والعيش الكريم، منذ تزوج من أمى، وحتى لقى الله عز وجل.

وعن والدته قال، كانت سيدة ريفية بسيطة، تتسم بالصبر والقناعة، كانت تربوية بطبعها وفطرتها، توجيهاتها الأخلاقية نابعة من القرآن الكريم، كما كانت معظم الأمهات في ريف مصر، كانت مثل أبى تحثنا على الصدق والأمانة، وعلى الإحسان إلى المحتاج، ومساعدة الغير دون أن تنتظر مقابلاً لتلك المساعدة، كانت أمي تكثر من الدعاء لى ولباقى إخوتي، كأنها تستمتع بالدعاء طول الوقت، كانت فخورة بى بشكل خاص بسبب إتمامي لحفظ القرآن الكريم كاملاً، كانت السعادة الغامرة تلف أمي -رحمها الله- حين ترانا يداً واحدة، لا يفسد المال أو البنون حبنا لبعضنا البعض، كانت تذكرنا دوماً بألا نترك الدنيا تفعل فى قلوبنا فعلها فى كثير من البشر، خاصة حين تفتح لهم ذراعيها، وتمنيهم بالسراب الكاذب والسعادة الزائفة التي تتأسس على الطمع وطاعة النفس الأمارة بالسوء.

مغادرة “أبورقبة”

كانت أول مرة أغادر القرية فى سفر طويل، لقد ارتبط مصيري بمصير بلدتى “أبورقبة”، وبرغم ابتعادي عنها منذ بلغت العاشرة واستقراري فى القاهرة، إلا أن حبها لم يزل يدفعني دفعاً إلى زيارتها كل حين، حتى ولو صدر من بعض أبنائها ما يحزنني ويكدر صفاء حبى وولائى لها ولهم.

القاهرة، تلك المدينة الكبيرة التى نسمع عنها قصصاً خيالية وأسطورية كأنها قصص ألف ليلة وليلة، وكان حلمى مجدداً وهدفى واضحاً، أن أجرب حظى فى البيع والشراء هناك، وهذا ما أوصيت به أخى على بشكل واضح لا لبس فيه: “أن يجد لى عملاً فيه بيع وشراء”.

العمل الأول في القاهرة

فى ظل كل الأحوال المثيرة المتناقضة، كان أخي “علي” يعمل في محل أقمشة “عبدالعزيز الديب” بالموسكي، مع أخي “محمد”، كان الموسكي أيامها ولعقود متوالية هو الحى التجاري الأشهر في مصر كلها، ومعه المناطق التجارية: بين الصورين، الأزهر، الغورية، والنحاسين، كان التجار يأتون إلى تلك المناطق من كل مكان فى محافظات مصر، ليشتروا ما يحتاجونه من بضاعة وسلع، جاء لي أخي “على” بعمل في مصنع عطور بالموسكي كان صاحبه صديقاً له، لم يكن مصنعاً للعطور فى حقيقة الأمر، بل كان عبارة عن ورشة فى محل صغير بالموسكى، يمتلكه الحاج “عبدالفتاح البلبيسى”، وكان عملي لا يتعدى إغلاق الزجاجات “بالفلة” بعد تعبئتها، ثم بالغطاء الأساسي، ثم لصق “تيكت” الماركة المسجلة، لم أتحمل هذا العمل لأكثر من شهر، سألني أخي عن السبب، قلت إنني جئت للقاهرة لأعمل في البيع والشراء، أريد أن أتعامل مع الناس وأعمل في التجارة، “أنا ماجيتش أقفل القزايز بالفلة يا على!”، ضحك أخي “علي”، رحمه الله، ووعدنى بمساعدتي في البحث عن عمل فيه بيع وشراء، بعد أيام من تركى للعمل في ورشة العطور، جاء لى أخى بعمل آخر فى محل فى شارع “أم الغلام” خلف مسجد “سيدنا الحسين”، كان يواجه باب مسجد “أم الغلام” الصغير، وبرغم صغر حجمه، فإنه كان مليئاً بالخردوات والأدوات المكتبية ولعب الأطفال الرخيصة والسجائر، كان ذلك ما أريده تماماً: أن أبيع وأشتري.

كان اسم صاحب المحل “عبدالرازق عفيفي”، ولكنه اشتهر باسم: عم رزق، من أول يوم عمل علمني عم رزق، رحمه الله، أهم درس أثر فى حياتى التجارية كلها: الأحسن أن تكسب قليلاً، وتبيع كثيراً، واستمر عملى مع عم “رزق” حوالي سبع سنوات، من عام 1942 وحتى عام 1949، وبدأت العمل هناك بأجر 120 قرشاً في الشهر، وانتهيت بأجر 320 قرشاً، وكان أجراً لا بأس به أبداً لصبى في عمرى، كان العمل يأخذ كل وقتى منذ وطأت قدماى مدينة القاهرة، كنت أبذل جهداً غير عادى سواء عند عم رزق، أو فى محل النصر بعد ذلك، وكانت أغنيات “أم كلثوم” من الأشياء التى كانت تخفف عنى وقع الإرهاق الشديد، كان الاستماع إليها فى تلك الفترة ينسينى الكثير من هموم الدنيا وضغوط العمل. أذكر أننى عشت سنين أنتظر الحفل الشهري الذى كانت تقدمه “أم كلثوم”، وكانت تنقله الإذاعة المصرية على الهواء مباشرة، كثيراً ما تمنيت لو امتلكت ثمن التذكرة كي أراها وهى تغنى على المسرح، ولكن ذلك لم يتيسر لى فى تلك الفترة، فقد كان ثمن التذكرة حوالى عشرة جنيهات، بينما كان راتبى فى أحسن حالاته، وبعد أن مرت علىَّ سنوات طويلة كبائع فى الموسكى: 27 جنيهاً.

 

 

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى