الأخبار

بين «داعش» و«ابن تيمية»

100

 

 

■ من أروع كلمات الشيخ محمد الغزالى: «إن مصيبة البعض أنه يقرأ الإسلام من نعله».. تأملت هذه الكلمة البليغة طويلاً، ولم أجدها تنطبق على أحد مثلما تنطبق على «داعش» وأخواتها من الجماعات التكفيرية، مثل «أنصار بيت المقدس» و«أنصار الشريعة» و«جبهة النصرة» و«القاعدة» وغيرها.. حيث تحول الإسلام -وهو أعظم الأديان قاطبة- على أيديهم إلى أضحوكة للعالم، وكأنهم قرأوا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} بطريقة القراءة من النعل «وما أرسلناك إلا ذابحاً ومفجراً للعالمين».

■ وهؤلاء قرأوا أقوال العلماء أيضاً قراءة خاطئة ولم يفهموها حق الفهم ونزعوا النصوص من سياقاتها ومزقوها تمزيقاً وفصلوها عما قبلها وما بعدها، ولم يربطوها بغيرها من النصوص، واعتبروها جزراً منفصلة لا أول لها ولا آخر، ولا سابق لها ولا لاحق.

■ سألتنى مذيعة مسلمة فى إذاعة BBC العربية بعد التسجيل قائلة: هذا سؤال شخصى لك: كل كتابات «داعش» تستدل بأقوال «ابن تيمية».. فهل حقاً «ابن تيمية» يدعو للتكفير والقتل والذبح، أم ماذا؟.

■ قلت لها: يا سيدتى هؤلاء لم يفهموا شيئاً من علم «ابن تيمية» وفقهه، هؤلاء يقرأون الإسلام من نعله ولا يعرفون المعانى الحقيقية لكلمات «ابن تيمية» ويريدون تطبيق فتاوى لـ«ابن تيمية» قالها فى أوضاع مخصوصة على زمان غير زمانهم وواقع غير واقعهم وأحداث غير التى يعيشون فيها.

■ وقد صدق المفكر الرائع عبدالله الطحاوى حينما قال لى «إن أزمة الحركات الإسلامية مع ابن تيمية أنها أخذت فتاواه فوضعتها فى غير موضعها وقلدتها تقليداً أعمى فى غير زمانها ولا مكانها ولا موضعها وتركت مشروع الرجل الإصلاحى، ولو أنها فهمت وقلدت مشروع الرجل الإصلاحى لكان لها شأن آخر».

■ إن نقل الفتاوى من زمان إلى زمان آخر يستلزم شروطاً كثيرة لتطبيقها، تحدث عنها العلماء قديماً وحديثاً، وكتبت عنها كثيراً فى كتبى القديمة، ولكن كثيراً من فصائل الحركة الإسلامية تعرض عن هذه الشروط فتوقع نفسها وغيرها وأوطانها والعلماء الذين تنقل عنهم فى حرج بالغ.

■ فالأحكام غير الفتاوى، فالأحكام ثابتة والفتاوى متغيرة، خاصة تلك التى تبنى على المصلحة والعرف، فقد قال عبدالله بن عمرو بن العاص: كنا عند النبى (صلى الله عليه وسلم) فجاء شاب فقال: يا رسول الله، أقبِّلُ وأنا صائم؟ قال: «لا»، فجاء شيخ فقال: يا رسول الله، أقبِّلُ وأنا صائم؟ قال: «نعم»، فنظر بعضنا إلى بعض فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «قد علمت نظر بعضكم إلى بعض؛ إن الشيخ يملك نفسه»، فها هنا المسألة واحدة والفتوى اختلفت.

■ وتتغير الفتاوى بتغيير الزمان، فالمبارزة مثلاً التى تحدث عنها الفقهاء فى فقه الجهاد لم تعد موجودة على الإطلاق منذ أزمنة طويلة، وأحكام الرق وتوابعها انتهت منذ أزمنة طويلة، وهؤلاء تلاميذ أبى حنيفة خالفوه فى فتاوى كثيرة رغم قرب زمانهم بشيخهم.

■ وفى بلاد المغرب العربى أثناء الاحتلال الفرنسى أفتى الفقهاء بتحريم التجنس بالجنسية الفرنسية لأنها كانت وقتها مرادفاً لطمس الهوية العربية والإسلامية، أما اليوم فيسعى إلى الجنسيات الغربية والأمريكية الكثير من الدعاة والعلماء لسبب أو لآخر، ولم ينكر عليهم ذلك أحد من العلماء والفقهاء، لأن الزمان تغير فتغيرت معه الفتوى.

■ قلت للمذيعة المسلمة: سيدتى «داعش» هى «سوبر تكفير»، حيث تكفر كل الجيوش والشرطة فى كل بلاد المسلمين، وتكفر الشيعة والصوفية والبرلمانات والأحزاب كلها حتى ذات المرجعية الإسلامية منها، و«ابن تيمية» ضد التكفير.

■ قالت: كيف يكون «ابن تيمية» ضد التكفير وهو العالم الأساسى الذى تستدل به «داعش»؟!

■ قلت لها: سأرسل لك كلماته فى هذا السياق، وهأنذا أكتبها لكل من يريد معرفتها على وجه الدقة:

■ يقول «ابن تيمية»: «والذى نختاره ألا نكفر أحداً من أهل القبلة -أى المسلمين- وقد نقل عن الشافعى أنه قال: لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، فإنهم يعتقدون حل الكذب، أما أبوحنيفة فقد حكى الحاكم عنه أنه لم يكفر أحداً من أهل القبلة، وحكى أبوبكر الرازى عن الكرخى وغيره مثل ذلك».

■ ويقول «ابن تيمية» فى «مجموع الفتاوى» (3/229)، وكأنه يرد على من يدعى عليه أنه يؤيد أفكار التكفير: «من جالسنى يعلم منى أنى من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التى من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى. وإنى أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ فى المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون فى كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية».

■ ويقول «ابن تيمية» فى مجموعة الرسائل: «ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التى تنازع فيها أهل القبلة، والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، ولا تحل إلا بإذن الله ورسوله».

■ وعلى هذا، فإن أكثر الجماعات التكفيرية مثل «القاعدة» و«داعش» وأخواتها التى تكفر الكثير والكثير من المسلمين وتستدل على ذلك بـ«ابن تيمية» هى لم تعرف شيئاً عن فقه «ابن تيمية»، ولا تحسن قراءة النص الشرعى دائماً سواء من القرآن أو من السنة أو من أقوال الفقهاء والعلماء، وعادة ما تقرأه باجتزاء أو تحريف أو إخراج للكلام عن سياقاته، أو تبنى الفكرة أولاً ثم البحث عما يؤيدها من أقوال العلماء، مع أن الأصل أن تقرأ للعلماء والفقهاء وتدرس أقوالهم وتربط بعضها ببعض، لا أن تضرب بعضها ببعض، فالقرآن كله متجانس، وكذلك السنة، وكذلك أقوال الفقهاء والعلماء.

■ إن أزمة «داعش» والجماعات التكفيرية أنها تقرأ الإسلام وتفهمه بـ«الشقلوب» كما يقول العوام فى مصر، أو من «نعله» كما يقول الغزالى (رحمه الله).

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى