منوعات

أسرار المغنواتي.. الوجه الآخر لأحمد عبدالمعطي حجازي

 

 

 

أحسب نفسى من «الغاوين» الذين اتبعوا الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى وهاموا معه فى وديان أشعاره وسماواتها، تعود «الغواية» إلى زمن دراستنا الجامعية، فقد كنا نتخاطف ديوانه «مرثية للعمر الجميل» ونتبارى فى حفظه، ومازالت الذاكرة تحمل جدرانها أبياته: هذه آخر الأرض لم يبق إلا الفراق سأسوى هنالك قبرًا وأجعل شاهده مزقة من لوائك ثم أقول سلاما.
كانت مرثيته فى زمن عبدالناصر تهز قلوبنا الخضراء فنبكى معه أحلامه الضائعة، ونرثى لحاله ولحال وطن آمن بزعيمه وصدقه وعاش معه الحلم، ولم يستطع أن يكرهه حتى بعد أن استيقظ على الهزيمة المروعة فى يونيو: هل خُدعت بملكك حتى حسبتك صاحبى المنتظرأم خُدعت بأغنيتى وانتظرت الذى وعدتك به ثم لم تنتصرأم خُدعنا معا بسراب الزمان الجميل؟.
وظل من حينها أحمد عبدالمعطى حجازى عندى هو الرجل ذو الثلاثة وجوه:
■ وجه الشاعر المبدع والمجدد، صاحب الرؤية والبصمة، وأحد أبرز الأصوات الشعرية منذ جيل الستينيات المُلهم.
■ وجه الكاتب المستنير الذى يشغله قضية التنوير، ويدخل فى سبيلها معارك لا تنتهى فى مواجهة قوى الظلام والتكفير، ولديه كامل الاستعداد لأن يتحمل بجسارة ثمن مواقفه وآرائه، حتى ولو أدت به إلى الحجز على أثاث بيته.
■ وجه المناضل الشريف، الذى لم يخن أبدا ضميره، وارتضى سنوات من الغربة الطويلة ثمنًا لموقف سياسى معارض، ولم يبتذل نفسه يوما فى قصور الأمراء، ولم يتربح من شعره أو قلمه، ومازال وهو فى الثالثة والثمانين من عمره مجبرًا على أن يعمل لأنه لا يملك ثروة ولا دخلا غير الكتابة، ومازال وهو فى هذا العمر لا يملك إلا شقته البسيطة فى حى مصر الجديدة، وعليه أن يصعد طوابق خمسة على قدميه كل يوم لأنها بلا مصعد.
والآن يمكننى أن أضيف وجها رابعًا مدهشًا لصاحب «مدينة بلا قلب»، هو وجه المطرب، وبتعبير أدق علاقة أحمد عبدالمعطى حجازى بالغناء: مطربًا ومتذوقًا وكاتبًا للأغانى.

يعشق عبدالوهاب ويقدس فيروز وغنى «صافينى مرة» 7 مرات متتالية.. وكتب «مقالات مبدعة» عن المزيكا
أول من دلنى على هذا الوجه الجديد للشاعر الكبير- أعترف- هو صديقنا الشاعر الجميل إبراهيم داود، وهو فى الوقت نفسه من أقرب الأصدقاء إلى قلب حجازى وروحه، وفى مكتب داود بالأهرام جمعنا مؤخرا لقاء بالصدفة مع حجازى، وكانت ذكرى أم كلثوم حاضرة، وتطرق الحوار إلى الغناء، وسمعت من شاعرنا الكبير هذه الآراء:
«أحب أم كلثوم بالطبع، لكنى أسمعها بحياد، فأنا «وهابى» المذهب الغنائى، أعشق عبدالوهاب وانبهارى بصوته لا يتوقف، ذوقى فى الأصوات النسائية يميل إلى فيروز فأنا «أقدس» صوتها، وكانت تربطنى علاقات متميزة بكبار الملحنين، وفى مقدمتهم عبدالوهاب، ولحن لى سيد مكاوى قصيدتين: «أتحداه أن يرى» و«انتظار»، غنى الأولى بصوته وأعطى الثانية لمحرم فؤاد، ومنذ نحو ست سنوات غنت لى المطربة الشابة رحاب مطاوع قصيدة لى فى حفل بدار الأوبرا اسمها «مرثية»، لكنى بشكل عام لم أسع ولم أطلب من أحد تلحين قصائدى، فلم يكن الأمر يشغلنى كثيرا رغم أهميته فى نشر القصيدة وذيوعها.
ولما استأذن حجازى قاطعًا هذا الحوار المدهش لارتباطه بموعد سابق، قال لى إبراهيم داود بابتسامة طفولية: لم يذكر لك «الأستاذ» أهم معلومة، وأخفى عنك أخطر اعتراف، وهو أنه يمتلك صوتا عذبا ولديه القدرة على الغناء كأى مطرب محترف، ولا يمارس هوايته فى الغناء إلا وسط أصدقائه المقربين، ولديه أغنيات بعينها يعشقها ويتجلى فيها صوته.. بل ودموعه.
كشف لى إبراهيم داود «الشاعر والكاتب ومدير مركز الأهرام للنشر» ما أعتبره وجهًا جديدًا مدهشًا لصديقه أحمد عبدالمعطى حجازى، وهو جانب لابد أنه سيثير استغراب محبى الشاعر الكبير الذى يبدو لهم طوال الوقت فى صورة مهيبة، واستغراب شانئيه كذلك إذ مازالت اتهاماتهم له بالنرجسية و«الطاووسية» تطاله، فإذا به يكشف للجميع عن وجه آخر من البساطة والعذوبة والمرح.. والطرب.
حديث إبراهيم داود عن «حجازى.. مطربًا» ملىء بالحكايات والأسرار، وهذا عصيرها:
■ قبل نحو ست سنوات كنت خارجا مرة من مبنى الأهرام عندما قابلته وهو يهم بالدخول صاعدًا إلى مكتبه للحصول على نسخه من الصحف المخصصة له، واقترحت عليه أن آخذه لنجلس فى مكان بوسط البلد، وسرنا على غير هدى حتى وجدنا أقدامنا تقودنا إلى مكان قديم كان يجلس فيه زمان مع صلاح عبدالصبور وأمل دنقل ونجيب سرور ونجوم جيله فى الستينيات وله فيه ذكريات، ولم يكن قد دخله منذ سنوات طويلة، وأبهجته الحالة وتعرف على الجرسون وكان ابنا للجرسون القديم، وكان موجودًا صديقنا سمير حلاوة ومعه جهاز الكاسيت وشرائطه التى تحوى توليفات خاصة من الأغانى، وأدار أغنية «صافينى مرة»، وبمزاج رائق وصوت عذب غنى الأستاذ حجازى الأغنية بصوته لنحو سبع مرات متتالية، إلى درجة أن الناس فى خارج المكان تجمعوا على الصوت الصادح وتسللوا من الأبواب والشبابيك ليشاهدوا هذا المنظر المدهش: أحمد عبدالمعطى حجازى الشاعر الكبير والمثقف المهيب يغنى بتلك «السلطنة».
■ واقعة أخرى.. مرة دخل مكتبى وكان باديا على ملامحه العصبية واعتلال المزاج، وبعد أن جلس فى مقعده طلب منى أن أدير له أغنية «حلو ياللى ماشى» وهى واحدة من أجمل أغنيات فايزة أحمد، وما إن بدأت الأغنية حتى دخل فى نوبة بكاء حادة، وحاولت أن أفهم منه سببها فراح فى حديث غائم عن ذكريات شخصية له مع تلك الأغنية، وكيف أنه سمعها لأول مرة وهو يمشى شريدا فى الشوارع هائمًا وهاربا من قصة حب فاشلة، ثم طلب أن أعيد له الأغنية نفسها، وتكرر المشهد ودخل فى نفس الحالة من البكاء، حتى إن زملاء لى فى مكاتب مجاورة جاءوا على صوت بكائه: فيه إيه؟، ولم يستوعبوا أن هذا الشاعر الكبير الذى يتهمه كثيرون بالنرجسية والتعالى يحمل قلب طفل، ويمكن أن تنزل دموعه ساخنة وتلقائية تأثرا بأغنية.
■ لا يبالغ الأستاذ حجازى عندما يصف نفسه بأنه «وهابى»، بل أعتبره من كبار سميعة عبدالوهاب، وارتباطه بصوت وألحان موسيقار الأجيال لم يكن صدفة ولا عشوائيًا، فعبدالوهاب كان ملهما لمثقفى الطبقة الوسطى فى جيله وفيما تلاه من أجيال، فهو- عبدالوهاب- كان ابنا لأسرة فقيرة فى حى «باب الشعرية»، وصعدت به موهبته إلى القمة، ومن ثم كان عبدالوهاب هو عنوان مصر الناهضة والنموذج الأمثل لحجازى وجيله الذى يثبت لهم عمليا أن ابن الطبقات الفقيرة قادر على الترقى والصعود ولا شىء يقف أمام الموهبة.. وهكذا كان عبدالوهاب هو المطرب المفضل لحجازى ولصلاح عبدالصبور الذى أحتفظ له بمقال نادر يرى فيه أن عبدالوهاب أكثر موهبة وفضلا على الغناء المصرى من سيد درويش.. وقبلهما كان المطرب المفضل للأستاذ نجيب وكان يعشق أغنيته «من قد إيه كنا هنا» ويسميها «النشيد القومى».
أضف إلى ذلك أن عبدالوهاب كان صاحب مشروع موسيقى بحكم أنه ملحن فى الأساس، على عكس أم كلثوم مثلا التى فتحت صوتها لكل مدارس التلحين.
■ ككل سميعة عبدالوهاب الكبار فإن ذوق الأستاذ حجازى يميل إلى عبدالوهاب الثلاثينيات والأربعينيات، فهى سنوات وهجه الكبرى صوتًا ولحنًا، وفى المناسبات الخاصة كاحتفال الأصدقاء المقربين بعيد ميلاده، خاصة الأصدقاء الوهابيين مثل حسن طلب ومحمد عبدالمطلب ولطفى عبدالبديع، يمكنك أن تسمع حجازى وهو يغنى عبدالوهاب القديم بكل أناقة الصوت والأداء المتمكن.
■ وبلا مبالغة أقول إن الأستاذ حجازى له كتابات فى المزيكا– على ندرتها- هى من أجمل وأعمق ما كُتب فى التحليل الغنائى، وبينها مثلا مقالان عن أغنية أم كلثوم «رق الحبيب» وما قدمه القصبجى فى لحنها من إبداع، وأتمنى أن أجمع ما كتبه الأستاذ حجازى فى الموسيقى والطرب لأصدره فى كتاب أظن أنه سيكون فريدا فى تاريخ حجازى وفى مكتبتنا الموسيقية.. ولابد من الإشارة إلى أن هذا الفهم الموسيقى العميق عند شاعرنا الكبير من المؤكد أنه مدين بجزء منه إلى زوجته وشريكة عمره د. سهير عبدالفتاح، وهى واحدة من أكبر نقاد الموسيقى ومتخصصيها ونالت درجتها العلمية فى تجربة سيد درويش، وهى ابنة عبدالفتاح غبن، الفنان والمؤرخ الفنى المرموق وشقيقة المبدعين انتصار وهناء عبدالفتاح.
■ الغنائية فى قصائد حجازى لا تقل عنها فى قصائد نزار ومحمود درويش، لكن درويش مثلا قيض الله له ملحنا مثل مرسيل خليفة، جمعتهما قضية واحدة، فمنحت الألحان العذبة قصائد درويش مذاقا آخر وعمرا جديدا.. ومازالت قصائد حجازى أرضا بكرا لمن أراد أن يصنع تجربة غنائية مختلفة.

قصة أغانٍ كتبها بخطه تبحث عن ملحن جسور وصوت مثقف يتحدى زمن المهرجانات
رجعت من عند إبراهيم داود أفتش فى أوراقى القديمة، فقد ذكرتنى كلماته بأوراق كنت قد حصلت عليها من د. مدكور ثابت، عليه رحمة الله، وقت أن كان رئيسًا لأكاديمية الفنون، وكانت هناك مناسبة تخص الأكاديمية جعلته يفكر خارج الصندوق، وكان من بين ما فكر فيه أن تتبنى الأكاديمية مشروعا للارتقاء بالذوق الموسيقى الشعبى، من خلال اختيار قصائد لكبار الشعراء وتلحينها وإسناد مهمة غنائها إلى أجمل الأصوات الشابة من أبناء دار الأوبرا.
ويبدو أن رئيس الأكاديمية وقتها أجرى اتصالا بشاعرنا الكبير الأستاذ حجازى يطلب منه أن يختار مقطوعات من شعره تصلح للغناء والتلحين، وهو ما تدل عليه تلك الرسالة التى كتبها حجازى كغلاف للمقطوعات التى اختارها وأرسلها إلى مدكور ثابت، ويقول نص الرسالة: «أخى العزيز الدكتور مدكور.. تحياتى.. هذه كما اتفقنا فى مكالمتنا الأخيرة خمس مقطوعات من شعرى أرجو أن أكون وُفقت فى اختيارها، وأن تجدوا فيها ما يصلح للتلحين والغناء.. ولك دائمًا مودتى وتقديرى.. أحمد عبدالمعطى حجازى».
أما المقطوعات الخمس التى اختارها حجازى من شعره ورأى أنها تصلح للتلحين والغناء فهى:
عيناكِ ملجئى الأخير.. عيناكِ ملجئى الأخير
أمسح خدىّ فيهما.. منتظرا نهايتى
فى بقعة الضوء المثير.. عيناكِ عشب وندى
أفرش ظلى فيهما هنيهة.. ثم أواصل المسير
عيناكِ يا لكلمتين لم تقالا أبدا.. خانهما التعبير حتى ظلتّا كما هما
راهبتين تلبسان الأسودا.. تنتظران ليلة العرس سُدى
انتظرينى كل ليلة هنا.. قد لا أجىء
وقد أجىء.. قبلتنا طويلة
وليل بؤسنا دفىء.

من نشيد الإنشاد
خرجتُ أطلب فى الليل من أحبته نفسى.. وضعتُ وشمى على جبهتى وضمخت رأسى
قابلنى العسس السارى فى هواء المدينة.. فشق صدرى وأبقى قلبى لديه رهينة
بالله يا من ستلقى.. فى ذات يوم حبيبى
أخبره أنى انتظرتُ.. إلى الصباح ومتُ
لمِ كنت جميلا.. لمِ كنت جميلا؟
لمِ أغويتنى؟.. لمِ ألبستنى بُردة الحلم فى صغرى
ووصفت لى المستحيلا؟.. لمِ أحببتنى
ثم صالحت بينى وبين سواك، وودعتنى واحترفت الرحيلا
أنت وحدك من ينقذ الحلم، لو زرتنى
آه لو زرتنى، وجلست قليلا.. ثم عاودت هذا الرحيلا
منشدا، بدلا أن تقولا.

تقاطعات
وتكون أمسية.. مطر كخيط الغزل يقطعنى وأقطعهُ
وشوارع تنصّب فى جسدى، وأعبرها
ويكون ضوء يلعب البلل الصقيلُ به
يفرّقهُ ويجمعهُ.. ويكون نهر يقتفى أثرى
وريح مثقل بالغيم والأصداءِ.. يدفعنى وأدفعهُ
ويكون أنىّ حين ألقاهُ أضيّعه

إيقاعات شرقية
أغويتنى.. يا أيها الوجه الحسنْ
ولم تقدم لى الثمنْ.. لا طرحة العُرس ولا
فرحة أعضاء البدنْ.. وكان شعْرى خيمة
وكان نهداى عشيقين.. وكانت سُرّتى كأسا
أبريق خمر ولبنْ.. وذبحونى، آه أهلى ذبحونى
لم تقدم لى الكفنْ.. يا أيها الوجه الحسنْ
وكان شعرى.. كان نهداى
وكانت جُثتى.. ينهشها الإيقاعانْ
هذه هى المقطوعات الخمس التى اختارها أحمد عبدالمعطى حجازى بنفسه وكتبها بخطه الرائق الجميل وأرسلها إلى رئيس أكاديمية الفنون– حينها- بناء على طلبه ليشرع فى تلحينها ويختار من يغنيها، لكن المشروع توقف لأسباب غامضة ولم يتم، ومع ذلك فمقطوعات حجازى لاتزال صالحة للتلحين والغناء، فقط تحتاج إلى ملحن جسور يعرف قيمتها وإلى صوت بليغ يفهمها ويقدمها لجمهور متعطش للطرب.
إنها مقطوعات تتحدى زمن المهرجانات.

أسرار المغنواتي.. الوجه الآخر لأحمد عبدالمعطي حجازي
أسرار المغنواتي.. الوجه الآخر لأحمد عبدالمعطي حجازي
أسرار المغنواتي.. الوجه الآخر لأحمد عبدالمعطي حجازي
أسرار المغنواتي.. الوجه الآخر لأحمد عبدالمعطي حجازي
أسرار المغنواتي.. الوجه الآخر لأحمد عبدالمعطي حجازي
أسرار المغنواتي.. الوجه الآخر لأحمد عبدالمعطي حجازي
أسرار المغنواتي.. الوجه الآخر لأحمد عبدالمعطي حجازي
الدستور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى